أوروبا وروسيا يبتعدان عن نقاط الالتقاء... يمكن تفسير توتر العلاقات بين روسيا وأغلبية الدول الأوروبية بعدة عوامل متداخلة، ثقافية وتاريخية واقتصادية وسياسية. مما جعلها تبتعد في ما بينها، فتتقرب الأولى من الدول الآسيوية خاصة الصين، وتتقرب الثانية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تمكنت (هذه الأخيرة) من استغلال الظرفية من أجل البحث عن عوامل إضافية لتعميق هذا التباعد والتنافر، ومنحه أبعادا عديدة ومتشعبة. وهذه الوضعية، لم تساعد كلا الطرفين (الروسي والأوروبي) في تحقيق المزيد من التطور والنماء، وأهدروا بذلك إمكاناتهم وقدراتهم الحقيقية بخلق قطب قوي، ولربما فوتوا على أنفسهم فرصة قيادة العالم!!... وما يعقد الأمور هو اندلاع الحرب. إن الحرب الروسية-الأوكرانية ستدق المسمار الأخير في نعش التعايش السلمي والرفاه الاقتصادي والاجتماعي في كل من روسيا والدول الأوروبية. ستصبح العلاقات الأوروبية-الروسية أكثر توترا واضطرابا وتأزما؛ مما يجعل فرضية عدم التقارب والتعاون مستحيلة على المدى المتوسط، وربما البعيد خاصة إذا ما استمرت البنية السياسية والاقتصادية الراهنة. لذا أعتقد أن أول خطوة سياسية التي يجب على الدول الصغيرة والمتوسطة اللجوء إليها في استراتيجياتها هو تخفيف الارتباط مع الدول المتقدمة (أوروبا، روسيا، الصين أو أمريكا)، والبحث عن تنويع العلاقات الخارجية، والابتعاد عن الاصطفاف إلى جانب واحد... منطق استغلال الفرص... إذا كان القطب المعادي للسياسات الخارجية لأمريكا وحلفائها يستعد هو الآخر لاستغلال الظرفية، وذلك من أجل الدفاع عن مصالحه السيادية/ الاستراتيجية. يبقى السؤال المطروح لماذا الدول الأوروبية لا تفك ارتباطها مع أمريكا، وتتجه هي بدورها لتغيير استراتيجياتها؟ لماذا لا تعلن عن رفضها -ولو جزئيا- لبعض السياسات الخارجية الأمريكية، وأنها ليست فقط ذيلية لها خاصة وأن نفوذها في عدة مناطق من العالم عرف تراجعا وتنافسا اقتصاديا وثقافيا مما قلل من تأثيرها السياسي على العديد من الدول التي كانت في السابق مستعمرة أو تابعة لها؟ هل يمكن أن نستخلص بأن فك الارتباط صعب المنال خاصة وأنها اصبحت تستشعر الضعف السياسي والاقتصادي والهشاشة الاجتماعية (الفقر، والبطالة، والشيخوخة...) وغيرها من العوامل البنيوية. هل انتهت القارة العجوز؟ في المقابل، هل ستتمكن روسيا هذه المرة من الانتصار، وبالتالي بداية الإعلان عن عهد دولي جديد يتسم بتعدد الأقطاب؟ ولربما هذا الاحتمال وارد لأن أولى المؤشرات بدأت في البروز خاصة مع التكالب الكبير من أجل تقليص دور الدولار في الاقتصاد العالمي، وتصاعد القوة الصينية. فهل يمكن لروسيا تحقيق مشروعها مع "أصدقاء" الذين لا يمكن اعتبارهم أصدقاء أو أعداء الطرف / القطب الآخر؟ هل سيكون الاتحاد الروسي قطبا قويا ومنافسا لباقي الأقطاب؟ في ظل هذه الظرفية الصعبة والحاسمة، أعتقد أن على الدول النامية والفقيرة الإسراع لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذا استغلال كل الإمكانيات والقدرات لفرض شروطها على الدول المتقدمة، وبناء قطب إقليمي قوي للدفاع عن مصالحها السيادية... صراع السيطرة على ثروات العالم ... عندما يكون أي نظام سياسي واقتصادي في قوته وكامل سيطرته فإنه من المنطقي أن يرفض منطق التنافس من أي طرف صاعد أو قوة صاعدة جديدة، لأنها بذلك تهدد مصالحه الاستراتيجية وتقلل من فرصة حصوله على المواد الأولية والطاقية والغازية وغيرها. الطرف المسيطر على النظام الاقتصادي العالمي لن يقبل بأي دولة أن تتقوى خاصة إن كانت تستمد قوتها من خارج المعادلات التي يضعها هو للتطور. لذا تجد الطرف المهيمن يشدد الخناق على كل من يريد الانقلاب على القواعد المفروضة أو يطمح لتقاسم الثروات العالمية معه. إنه يحدد قواعد وحدود النمو والتطور بحيث في حالة التجاوز أو محاولة الخروج عن الإطار أو المسموح به، فإنه ينتقل للعنف ويفرض كل أنواع العقوبات والضغوطات. أمثلة عديدة يمكن سردها من نماذج الدول النامية التي أرادت التحليق بأجنحتها الخاصة بعيدا عن الخطوط التي رسمتها أمريكا وحلفائها، فكان الدمار والخراب؛ فجعلتها تعيش في سلسلة من الأزمات والصراعات التي لن تنتهي إلا بالتغيير السياسي حسب مقاسها وأحيانا بالتقسيم الجغرافي، لتجعلها مجموعة من دويلات صغيرة وضعيفة. ومن بين هذه الدول، نجد العراق، لبنان، ليبيا، أفغانستان، فنزويلا، مالي، كوريا، الاتحاد السوفياتي وغيرها رغم الاختلاف في ما بينها. لذا على الدول الصغيرة والمتوسطة اللجوء إلى التكتل الإقليمي والتنمية في كافة المستويات. ما السبيل؟ سياسة "الإغلاق الجزئي" وإعادة أهداف الاتفاقيات المبرمة مع الدول المتقدمة وتطوير الإمكانات والقدرات الداخلية وتقوية سلسلة القيمة بين الدول المتوسطة والصغيرة... صعوبة إنجاز تحالفات قوية بين الدول الصغيرة والمتوسطة في ظل منطق القوة والتحكم... منذ بداية القرن الحالي، أصبح من المؤكد أن العالم لن يبقى مكانا تنفرد فيه أمريكا وحلفاؤها بالقرارات والمنظمات العالمية. لذا أظن أن أزمة كوفيد-19 سرعت من وتيرة تغيير ملامح العالم القادم، خصوصا مع اندلاع الحرب الحالية التي ستكون قاسية ومدمرة لأغلب الدول، لأنها حرب تستعمل منطق "الكل من أجل الكل"، كل الأساليب متاحة. حرب تستعمل الأسلحة، والاقتصاد والمال والتطور الإلكتروني والإعلام، وكذا الثقافة والدين والعرق وغيرها. فلا بد من استغلال كل نقاط الضعف من أجل تدمير الخصم وإشعال الفتنة داخل مجاله الترابي. بيد أني أظن أن الحرب الحالية ستدمر صناعها. لينتقل الدمار إلى قلب أوروبا، وهذا سيؤدي حتما إلى تغييرات عميقة في البنيات الحالية والعلاقات الدولية. لذا على الدول المتوسطة والنامية الاعتماد على إمكاناتها وتطوير قدراتها، وأهمها البحث عن مصادر التمويلات لأن على أوروبا وأمريكا البحث عن كيفية الخروج من الأزمة، والمنطق يقتضي أن كل مجهودات البناء سوف تتجه لاقتصادها المنهار ومشاكلها الاجتماعي. من المفروض إذن تغيير النظام الضريبي والجبائي، وكذا تغيير السياسات البنكية لما يضمن من تمويل داخلي كاف للاستثمارات الوطنية للدول الصغيرة والمتوسطة. الإسراع من أجل وضع مخططات تنموية متوسطة الأمد... ضعف أمريكا وتخليها عن المرتبة الأولى لن يكون سهلا وهذا ما تمت الإشارة إليه من طرف العديد من الباحثين والعلماء، بل سيكون بانهيار للعديد من الدول النامية والفقيرة لعدة أسباب، من بينها الارتباط الاستراتيجي والحيوي بأمريكا وحلفائها وضعف أو انعدام سيادتها على القطاعات الاستراتيجية للحفاظ على أمنها وسلامتها وارتباط عمولاتها الوطنية بالدولار. كيفما كان موقفها من هذه الحرب، فإن الدول الصغيرة والمتوسطة ستكون في أزمة حقيقية جراء العقوبات الاقتصادية والمالية. وإذا كانت الدول الغنية والمتطورة تقوم بمساعدتها عند كل أزمة، فإنها لن تنتظر هذه المرة لأن الضرر سيكون كبيرا على الدول المتقدمة فكيف لها أن تسارع من أجل مساعدتها؟ ويمكن ملاحظة ما تقوم به أمريكا في الآونة الأخيرة من تغييرات في سياستها الداخلية والخارجية والتي بالطبع لا تأخذ بعين الاعتبار الانعكاسات الخطيرة على باقي اقتصاديات العالم. ما العمل؟ الحرب ما زالت مستمرة ولن تنتهي في القريب؛ وحتى وإن انتهت في أسبوع أو أسبوعين أو حتى قبل نهاية موسم الشتاء القادم، فإن الحرب لن تهدأ خاصة وأن منطقة آسيا مهددة هي الأخرى بالنزاع خاصة بين الصين وتايوان وكذا الهند. فلن يكون هناك وقت لجعل الاقتصاديات العالمية تستعيد عافيتها لتخرج من التضخم والركود الاقتصادي، وتستعيد بذلك الدورة الاقتصادية العالمية وتيرتها العادية. لقد تعددت مصادر القوة في العالم، وطموح كل قوة في السيطرة أصبح مدمرا وقاتلا؛ متى سينتهي هذا الصراع ليستقر العالم على نظام جديد يستمر هو بدوره لفترة من الزمن؟ لا أحد يعلم مدة الانتقال وما طبيعة بنية العلاقات المستقبلية. لقد علمتنا دروس التاريخ أن الاتفاقيات يتم إبرامها بعدما يعم الخراب الكل. لذا على الدول النامية كالمغرب وضع مخطط استعجالي لامتصاص الأزمة القادمة التي لا محالة ستكون أقوى وأعنف من كل الأزمات بما فيها أزمات السبعينات والثمانينات، أو لربما أقوى من الحربين العالميتين. من أجل ذلك، أقترح؛ بالإضافة لما سبق؛ ما يلي: 1- تنوع وتقوية العلاقات الخارجية لإضعاف مصادر احتمالات الخطر أو الأخطاء. 2- التقليل من استهلاك الطاقة والغاز والتركيز على القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي تستهدف إنعاش الاقتصاد الداخلي. 3- تشجيع البحث العلمي والابتكار من أجل إيجاد حلول مستدامة خاصة ابتكار وسائل جديدة لتعويض المواد التي لا يتوفر عليها المغرب. 4- الزيادة في الاحتياطي من المواد الأساسية والاستغناء عن المواد التكميلية وغيرها في الاستيراد. 5- الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة للتقليل من انعكاسات تقلبات الأسعار الدولية. 6- التشجيع على المنتجات الزراعية الأساسية المتجهة للاستهلاك الداخلي، أي إعادة تحديد الأهداف الاستراتيجية للقطاع الفلاحي ليضمن بالأساس الأمن الغذائي والمائي للمغرب. 7- الحماية الاجتماعية وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب وحماية المقاولات الصغرى والمتوسطة، وحماية الفلاحين الصغار والمتوسطين لضمان السلم الاجتماعي وتحقيق التنمية. 8- إعادة الاعتبار لتدخل الدولة في القطاعات الاستراتيجية وخاصة في سياسة تحديد الأسعار، مما يضمن القوة الشرائية لكافة المواطنين وبالتالي التخفيف من حدة الانكماش الاقتصادي والتضخم. 9- تنويع احتياطي العملات؛ العالم لن يستمر في نظامه المالي الحالي بل سيكون هناك تغيير جوهري سواء بتعدد العملات في التعاملات أو بخلق عملة موحدة بديلة لا تنتمي لأي بلد. يرتكز منطق هذا التخطيط على ضرورة اعتماد المغرب على إمكانياته الداخلية واستبدال/تعويض كل ما لا يتوفر عليه. كما أن المنطق يقتضي بأن عليه استغلال "العائد السكاني" لأنه السبيل الحقيقي للحفاظ على أمن وسلامة البلد في المرحلة المقبلة التي ستكون جد صعبة على الجميع. نحن مقبلون على أزمة خانقة عنوانها تقليص النفقات وارتفاع الأسعار وتراجع أو جمود في النمو الاقتصادي. وإذا ما أضفنا إليها هشاشة بنية النظام الاقتصادي المغربي، فإن تحديد الأولويات في خطة دفاعية وبنائية جيدة للمرحلة القادمة هي السبيل الوحيد من أجل إيجاد موقع بين القوى العظمى القادمة التي ستسيطر على العالم ل"قرن من الزمن". فلا سبيل للدول الصغيرة والمتوسطة سوى القيام بتغيير هيكلي في بنيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية...