وأنا أتصفح موقع "هسبريس" -كعادتي- لفت انتباهي مقالين متتاليين حول "جماعة العدل والإحسان"، الأول للسيدة نادية ياسين تحت عنوان "المناورة الإيطالية أو إرهاب الخيارات السياسية الرديئة "، والثاني بعنوان "العدل والإحسان تتجاوز الإخوان كأكبر تنظيم في أوروبا " للسيد حسين مجدوبي. "" وإذ إن المقالين جاءا في سياق الحراك الإعلامي الذي تشهده التجاذبات ذات الطابع الديني على الساحة الأوروبية بين معسكر "الجماعة" والمعسكر الرسمي؛ فإن الأمر لا يخلو من كثير من النقاط التي سجلتهما تصريحات مسؤولي "العدل والإحسان"، والتي تطرح الكثير من علامات الاستفهام على البنية التصورية لطبيعة تعاطي الجماعة مع واقعها داخليا وخارجيا. فجماعة العدل والإحسان تقدم نفسها على أنها "جماعة دعوة إلى الله" في المقام الأول، و"جماعة تجديد للدين" و"تربية وتوبة" و"تدافع"، وهي بذلك ترسم هدفيها الرئيسيين في تحقيق "العدل على شريعة الله" و"الإحسان في العبادة والعمل والمعاملة" بما يحقق "الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء" كما يورد موقع "الجماعة". ويضيف ذات الموقع خارطة طريق لتحقيق هذه الأهداف، وذلك من خلال وسائل متعددة يتقدمها "التنظيم" ف"الفهم الشمولي للإسلام" ثم "التربية" وصولا إلى "العلم" وانتهاء ب"رفض العنف". و"الجماعة" تقدم نفسها بهذا الشكل للرأي العام؛ فإنها تحدد ماهيتها في كونها "زاوية معارضة" تختلف جذريا عن باقي الزوايا الصوفية في تحقيق التغيير المنشود على مستوى الفرد والدولة، وهي بذلك تؤسس ل"صوفية احتجاجية" تمارس الدعوة وفق "اتجاه تربوي سياسي" خاص، وتسعى "للحكم الإسلامي" من خلال "المنهاج النبوي"؛ ليتضح -من كل ما سبق- أن جماعة العدل والإحسان لا تخفي مزاوجتها بين السياسي والدعوي، بالشكل الذي يجعل هذه المزاوجة تأخذ طابعها التكاملي في أبجديات التنظيم على المستوى النظري. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه –في هذه المرحلة- هو أي القطبين أضحى يوظف في خدمة الآخر بشكل أكبر على مستوى الممارسة الفعلية؟ هل حافظت الجماعة على أولوية التربية داخل صفوفها وفي محيطها بما يحقق هدفها السياسي وفق منظورها المعلن على الأقل؟ أم أن تضخم الاحتكاك السياسي للجماعة مع واقعها يجعل من تسجيل النقاط السياسية على حساب التعاطي الدعوي والتربوي أولى الأولويات لديها؟ وهل مسألة التكامل بين الدعوي والسياسي لدى "الجماعة" لا يزال قائما؟ أم أن الإكراهات المرحلية فرضت على التنظيم تغيير تكتيكاته؟ وإذا كان الأمر يتعلق بتغيير تكتيكي، هل الجماعة تقوم به عن وعي أم أنه مجرد رد فعل تجَر إليه الجماعة جرا من طرف خصومها بما يحقق أهداف استراتيجية معينة؟ ونحن إذ نضع هذه الاستفهامات أمام أبناء الصحوة الإسلامية عامة ومن يهمهم الأمر خاصة؛ فإننا لا نبخس الناس أشياءهم في التأكيد -ابتداء- على أهمية وجود "الجماعة" كجزء من الحركة الإسلامية بالمغرب كما سبق أن أكدناه في مقالتنا: "الحركة الإسلامية: قبل الهدف أو الوسيلة"؛ لكن هذا التأكيد لا يعني –بأي حال من الأحوال- عدم التطرق لشوائب العمل التنظيمي لدى"العدل والإحسان" كما يشخصه الواقع المعاش تنظيرا وممارسة. فحينما تقول نادية ياسين: "... الأمر مناورة سياسوية ليس إلا الهدف منها تحجيم قوة سلمية قوية المصداقية يسعى أعضاؤها إلى التأسيس لمشاركة مواطنة حقيقية يمكن أن تكسبها تعاطفا سياسيا ليس في مصلحة النظام القائم بل قد يمثل خطرا عليه"(1)، وحينما تضيف: "... استطاعت جماعة العدل والإحسان مثلا في وقت وجيز أن تعزز من وجودها بصورة مذهلة في أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، وتمكنت من تأسيس مجالس دينية مكونة من جمعيات أسستها في الماضي... وهذا يعني أنها أصبحت المؤطرة الدينية الأولى في عدد من الدول وخاصة في إسبانيا وفي أقاليم مثل الأندلس ومورسيا ومدريد"(1)؛ يحق لنا أن نتساءل حينها: هل أضحت الدعوة مجرد آلية ثانوية على درب السيطرة وتحقيق "الرغبة السيادية" التي طالما راودت التنظيم في الداخل؟ وهل أصبح "التأطير الديني" موضع تنافس في الخارج لتصفية حسابات الحصار الداخلي؟ واقع الممارسة في صفوف "العدل والإحسان" مرحليا يشهد بتطور نوعي، يتجاوز الأبعاد التكتيكية للفعل التنظيمي إلى مستويات استراتيجية في التعاطي مع الواقع السياسي، وهو بذلك لا يعكس أي استحضار للمعطى الدعوي إلا من قبيل التوظيف السياسي الذي يعطي الجماعة قوة تأطيرية ذات "مصداقية دينية" يمكن أن يكسبها "تعاطفا سياسيا" كما أكدته نادية ياسين. فالسعي نحو إمامة المصلين بالمساجد، وتسيير جمعيات هذه الأخيرة، واقتحام عقبة إلقاء خطب الجمعة... كل ذلك، كان حلقة ضمن سلسلة تغيرات جذرية على مجموعة من ساحات التأثير الفعالة للجماعة، والتي تتجاوز المسجد إلى المؤسسات الجامعية والعمل الجمعوي وغيرها من الساحات. والحالة هاته، طفا على السطح مناخ جديد أشبه ما يكون بحرب معلنة بين التوجهات الرسمية وتوجهات الجماعة، ليستغل كل طرف نقاط القوة لديه في تحجيم تأثير الآخر؛ فالدولة لم تأل جهدا في التضييق على المنتسبين ل"العدل والإحسان" من خلال عدم الترخيص للعديد من الجمعيات التي يساهمون فيها، وعدم منحهم جوازات السفر، وإيجاد الصيغ القانونية البديلة التي تكفل لها الرقابة التامة، خصوصا على المساجد، وهو ما تم تعزيزه مؤخرا بشراكة بين وزارتي الداخلية والأوقاف تحت غطاء "الأمن الروحي"؛ ومن جهتها، لم تذخر "الجماعة" جهدا في حشذ رأسمالها البشري للتظاهر غالبا، والإمعان في فرض الأمر الواقع في الفروع الجامعية، ليتوج بنقل المعركة إلى الخارج من خلال تأطير الجالية والاستقواء بالهيئات الحقوقية الأجنبية. واقع الصدام المتنامي بين الدولة ممثلة في الداخلية بالخصوص وجماعة العدل والإحسان ولد لدى هذه الأخيرة نوعا من الإفراط والنزوح نحو التصلب -حتى لا نقول التشدد- في معالجة القضايا السياسية؛ فالواقع الميداني للتنظيم يسطر قاعدة ذهبية تكاد لا تجد لها نشازا إلا ما ندر، وهي "إما أن أكون أنا أو لا يكون أي شيء من دوني"، وهي بذلك تؤسس للتفرد بالقيادة بشكل غير منطقي ولا موضوعي. هذه القاعدة تشكل تفسيرا للعديد من خرجات الجماعة بشكل منفرد بعيدا عن إجماع التيارات الإسلامية، وحتى الوطنية والقومية أحيانا، كما تفسر العديد من تمظهراتها إبان مشاركاتها في تسيير تظاهرات وطنية ومحلية، خاصة إذا ما ساهمت فيها جهات محسوبة على "النظام" أو "تدعم مشروعيته" كما يحلو للقاموس "العدلي" أن يصفه. التأسيس للتفرد بالقيادة سبقه التأسيس لمنهجية الحشد العددي على طريق الإعداد للقومة، الأمر الذي لا يزال يشكل هاجس "الجماعة" من خلال السعي لاستقطاب القوة البشرية من الناحية الكمية بأي الطرق كانت، وهو ما يجعلها (الجماعة) تقع في مصادمات لا حصر لها، وأحيانا مع من ينتسبون لصف الحركة الإسلامية، إضافة إلى ما قد يحكم عدّ رؤوس المنتسبين ل"العدل والإحسان" من حسابات سياسية تنحو بدوائرها الرسمية ومرشديها إلى تضخيم جسم التنظيم والنفخ في الرأسمال البشري متى ما أتيحت الفرصة لذلك، مع المبالغة في أهمية الجماعة على خلفية "مشروعيتها العددية" التي تتطلب الاستئثار بالاهتمام كما الحكم والقيادة! وإحدى تجليات السجال السياسي الأخير بين "العدل والإحسان" ووزارة الداخلية -في لبوس "الخارجية والتعاون"- أظهرت بعضَ أوراق لعب الطرفين على الطاولة السياسية؛ فبعد "المناورة المغربية" في قالبها الإيطالي، ردت الجماعة بمناورتها الإعلامية معلنة أنها "تتجاوز الإخوان كأكبر تنظيم في أوروبا"(2)، وقد نسب لمصدر رفيع المستوى من "العدل والإحسان" في تصريح ل"القدس العربي" قوله: ندرك أن الدول الأوروبية تبدي اهتماما كبيرا بالعدل والإحسان لأننا ببساطة أصبحنا أكبر تنظيم ذي مرجعية إسلامية في أوروبا ونتفوق على حركة الإخوان المسلمين التي تواجدت قبلنا بعقود في الدول الأوروبية. وقد جاءت افتتاحية المقال في قالبها الصحفي مدعمة لهذا الادعاء من دون التدليل بإحصائيات أو أرقام محددة، مشيرة إلى أن "الفضاء الإسلامي المغربي في أوروبا يحظى باهتمام فائق من الكثير من الأطراف.. لأسباب متعددة وأبرزها تحول حركة العدل والإحسان إلى أكبر حركة إسلامية في أوروبا مزيحة بذلك حركة الإخوان المسلمين، الأمر الذي جعلها تتعرض لمتابعات كما حصل في إيطاليا مؤخرا". الجديد في المقال السالف هو أن "الجماعة" أصبحت تتبنى "استراتيجية التكيف تماشيا مع المجتمعات المتواجدة فيها، فهي تحمل شعار الإسلام في المغرب وشعار العلمانية في أوروبا وتعمل وفق قاعدة قطرية التنظيم وعالمية الدعوة وكذلك وفق قطرية العدل وعالمية الإحسان"، وإذا صح ما قيل؛ فإن هذا الأمر بقدر ما يعتبر تغيرا استراتيجيا، فهو في الوقت نفسه يعتبر نكوصا "أخلاقيا" عن مبادئ "الجماعة" ورسالتها المعلنة على الأقل وينضاف إلى مساوئ سابقة تسيء للحركة الإسلامية عموما على حساب تحقيق مكاسب سياسية ذاتية. وكيفما كان الأمر؛ فعلى الجماعة أن تتنبه إلى مجموعة من الحقائق الواقعية والموضوعية لترتقي بفعلها الدعوي بعيدا عن التوظيف السياسي ولتنهض بإسهامها السياسي وفق قناعاتها الدعوية والتربوية، ذلك أن الرهان على الكم لم يكن في أي تاريخ إنساني محققا للتغيير الحضاري إلا ما كان مرتبطا بالنوع، وحتى "سنن التدافع" وفق القيم الإسلامية التي تسطرها "الجماعة" ضمن منطلقاتها ومبادئها تجعل من النوع أولوية في مقابل الكثرة التي عادة ما تشغل مقاعدها الشاغرة كثير من السوقة والدهماء والمنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل سبع الخرافات ولعن الظلام بدل إيقاظ الشموع. ثم إن السيطرة الميدانية والقيادة الظاهرية لا تعني بلوغ التأثير في القلوب وتحقيق الاتباع الطوعي الذي من شأنه أن يجند القوة البشرية لتحقيق الأهداف المتوخاة مهما اختلفنا على صيغها ووسائل تنزيلها. بالإضافة إلى أن راهنية التنظيم بالغير -بشكل سلبي أو إيجابي- لا يعدو أن يكون جلدا للأنا، العليا والسفلى على السواء بسياط الآخرين، وبشكل يعزز قيم الماسوشية وسط التنظيم، مظنة تسجيل نقاط هنا على حساب سمعة هيئات أو مؤسسات هناك، في الوقت الذي نوجد فيه جميعا في سلة واحدة نواجه التحديات ذاتها. وأخيرا، إذا كانت "الجماعة" تعيب وضعا معينا لمؤسسة أو مؤسسات ما، فعليها أن تنأى بنفسها عما تعيبه حتى لا تضيف فارقا جديدا بين ممارستها وخطابها، بغض النظر عن صوابية حكمها من خطئه؛ فالتغيير يبدأ من ذات "العدل والإحسان" حتى يتماشى تطبيق التنظيم مع تنظيره؛ وإلا فلن نتردد في القول: كفى من استغلال "العدل" و"الإحسان" كقيمتين ربانيتين في غير ما أمر به الله سبحانه.