لم تكن بداية أغاني المجموعات مع ناس الغيوان يقينا أقر به كل من كان موضوعيا في التعاطي مع ظاهرة نشأة المجموعات الغنائية بالمغرب، بل ظلت مجرد فرضية تاريخية انجذب إليها بعض المنتصرين للظاهرة الغيوانية، وظل يتشكك في صحتها كل من بلغ إلى مسامعه بعض الأغاني التي كانت تصدح بها مجموعة "تبغاينوست" في الربوع السوسية إبان فترة الستينات من القرن الماضي. ولم يكن أعضاء تلك المجموعة يعلمون،وهم يجوبون مناطق القطب السوسي، أنهم يحملون طي ضلوع أغانيهم وترانيمهم ما سيلهم الشباب السوسي الذي ما لبث في ذلك الإبان أن توجه رأسا ،وهو يتأبط آلاته الموسيقية التي صنعها بنفسه من مواد بدائية قصد العزف و الغناء، صوب غرف إنزكان الضيقة و جنبات منازل و مدارس و مقابر الدشيرة و تراست و الجرف، فكانت تلك الأماكن نقط التلاقي الأولى للتفاهم على الأدوار و الكلمات و الألحان فالأسماء التي اختمرت و تعددت لتحمل اسم "إيموريكن"، "لقدام"، "المجادل"، و "إزنزارن" التي دفع بها القدر و موهبة "ايكوت عبد الهادي" و كذا تناقضات المجتمع السوسي إلى الساحة الفنية الامازيغية. فكان من الطبيعي أن تكون إزنزارن ذلك الصوت الذي يتغنى بآلام و آمال المجتمع السوسي التواق في ذلك الإبان إلى تطهير نفسي و تغيير اجتماعي. "" بيد أن بعض المتطفلين على الفن و الإبداع الأمازيغي ممن يحرفون التاريخ و يعولون على روايات و شهادات شفوية مغرضة، ما لبثوا أن طفوا على السطح محاولين تقزيم دور المجموعة و البحث عن أصول لها في مجموعات مغايرة، لتكون إزنزارن بذلك نسخة لا أصلا، ويكون إنتاجها الفني تبعا لذلك تكرارا و تقليدا لا إبداعا و تجديدا. لذلك سنحاول، عبر هذه المقالة و بمنأى عن كل سياق تفاضلي أو تحديد تاريخي، إبراز ذلك التباعد والاختلاف الحاصل بين إزنزارن و ناس الغيوان. منطلقين من فرضية مفادها أن إزنزارن تعبير فني و فكري وفلسفي عميق عما كان يعتمل في المجتمع و الوجدان و المتخيل السوسي من مفارقات وتناقضات، و من ثم اجتراح أفق لمساءلة هذه التجربة الفنية الفريدة التي أفرزتها تربة الفكر و الشعر و الإبداع الامازيغي، بمنأى عن أية إيديولوجيا مستوردة تحاول رد هذه التجربة الأصيلة و المتجذرة في التربة السوسية إلى ناس الغيوان أو جيل جيلالة أو المشاهب1 و غيرها من المجموعات الغنائية التي امتلكت تاريخيا ناصية إعلام سوء النية القائم على الاخوانيات و الزبونيات، و المنغرس في عقل إثني لا يؤمن بمنطق الاختلاف و يفضل الاحتفاء بالابتذال و الغثاثة التي يشنف بها أسماعنا كل يوم، بدل الالتفات إلى إزنزارن كمجموعة غنائية طبعت الأغنية الامازيغية بطابع الخصوبة و التعدد حتى تجاوزت حدود المحلية إلى معانقة العالمية. محاولين رد الاعتبار للمجموعة بالدفاع عن حقها في الأصالة و التفرد و الإبداع الذي امتهن للأسف دون مسوغ أخلاقي أو تاريخي على يد بعض القراءات التي تحاول عبثا تأكيد تأثر إزنزارن بناس الغيوان أو جيل جيلالة، و هي قراءات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لم تحم نفسها من الاستلاب الذي انجرت إليه جراء حلاوة الغلاف الخطابي و الإعلامي الذي تعرض به تلك المجموعات التي امتلكت تاريخيا، كما أسلفت، ناصية الكتابة و الإعلام. و إذا كنا نشيح بنظرنا بهذا الصدد عن النبش و التنقيب في بدايات مجموعة إزنزارن، فليس مرد ذلك إلى ندرة المصادر المكتوبة و الموثوق بها فحسب، بل مرده أساسا إلى وعينا بدرس فلسفي عميق استفدناه من فينومينولوجيا هوسرل. و مفاد هذا الدرس الفلسفي أن القبض على بداية وانبثاق الظواهر كيفما كانت طبيعتها يظل دائما قبضا مفترضا، لأن البدايات ذاتها بدايات مفترضة ولأن الأصل بدوره لا ينفك يتأصل فتحت كل أصل أصول2. و عليه، فإن النبش و التنقيب في البدايات و في ظروف النشأة قد يكتسي أهمية من جهة التدوين و التأريخ وقد يرسم معالم الطريق، لكنه يبقى مع ذلك بغير ذي أهمية كبيرة من الناحية الموضوعية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بظواهر متزامنة تفترض إحداها سبقا زمنيا على الأخرى، و كذلك عندما يتعلق الأمر بشهادات شفوية لا تخلو من عناصر انثروبومورفية و لا تتيح إمكانية التدقيق و التأريخ الموضوعي للنشأة ، حتى وإن كان أصحابها فاعلين في حدث النشأة أو شاهدين عليه. و ربما كان هذا هو الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الصديق محمد بلوش الذي اجتهد في نقل شهادة عبد العزيز الشامخ عن ظروف و حيثيات نشأة مجموعة إزنزارن3، لكنه لم يأخذ من تلك الشهادة إلا ما وافق أطروحته أو بالأحرى فرضيته، فلم يكن أمينا في نقل كامل الشهادة خاصة وأن الشامخ أشار في شهادته إلى أن لا علاقة له و لا لإزنزارن بناس الغيوان، اللهم ما بلغ مسامعه من بعض ترانيمهم و أغانيهم. كما أن الأستاذ بلوش لم ينوع مصادره بل اكتفى ( وإن كان ينصح الباحثين بالاعتماد على وثائق و حجج مكتوبة بدل الاعتداد بالشهادة الشفوية) بشهادة عبد العزيز الشامخ للقناة التلفزية (berbère TV ) كمصدر و حيد للحقيقة، و هو يعلم أن الروايات بصدد ظاهرة "تزنزارت" كثيرة و متداخلة وأحيانا متباينة، أضف إلى ذلك أن شهادة الشامخ أتت بعد انفصاله عن ايكوت عبد الهادي، وقد لا تخلو من تمويه للحقيقة، خاصة إذا كان بين الطرفين شنآن أو تصفية حسابات شخصية. و الحقيقة أن القارئ لمقالة الأستاذ بلوش يحس كما لو أنه ينتصر للشامخ على حساب ايكوت عبد الهادي و يميل إليه، ثم إنه يقول إن المجموعتين متكاملتين، قبل أن يعود إلى القول ( وهذا هو حجر الفلاسفة الذي يهمنا في الموضوع) إن مجموعة إزنزارن الشامخ متأثرة بجيل جيلالة بينما تأثر عبد الهادي و مجموعته بناس الغيوان. و طبعا لم يعدم الأستاذ بلوش من ينسج على منواله ويحاول رصد تأثر المجموعة، هكذا اعتباطا ودون أدلة، بناس الغيوان أو جيل جيلالة أو غيرهما، و هذا هو حال الباحث سعيد ازروال الذي ذهب إلى تأكيد تأثر المجموعة بجيل جيلالة4، أما محمد طيفوري فلم يأت بجديد في الموضوع بل اكتفى بترديد ما جاء في شهادة الشامخ و في برنامج "تيفاوين" بطريقة حرفية يستحيي منها تلامذة الإعدادي. و إذا كان مرد هذه الأخطاء و الهنات التي وقع فيها هؤلاء الباحثين هو في اعتقادنا استلاب غير مدرك و لاشعوري، فإنها مع ذلك لا تعد شيئا أمام تلك الأخطاء الفادحة التي روج لها ( وهذه المرة عن قصد وربما عن سوء نية) برنامج "تيفاوين"5 الذي ظل محكوما طوال ساعة و نصف من البث بمنطق استئصالي إقصائي، يقصي الآخر ناظرا إليه كهامش( إزنزارن) و يلوذ بالمركز(ناس الغيوان) معتبرا إياه الأيقونة والحقيقة، مولدا بذلك "أنا" متمركزة حول ذاتها، متحصنة بوهم اليقين و غارقة في ايغولوجيا مفرطة. و الغريب في أمر هذا البرنامج أنه ظل موجها بهاجس تساؤلي واحد و وحيد وهو: ما علاقة إزنزارن بناس الغيوان؟. وطبعا لم تعدم مقدمة البرنامج من يجيب عن السؤال الماكر بحسب المرامي و الأهداف المسطرة للبرنامج، فكان أن اختارت لهذا الغرض ضيوفا بعيدون كل البعد البعد عن إزنزارن (ما عدا الحسين سكنفل الذي اقتصر دوره على إيضاح بعض قصائد إزنزارن الخالدة)، فأحد الضيوف، وهو بالمناسبة عضو في جمعية أصدقاء ناس الغيوان، لم يترك بابا ينفذ منه إلى العلاقة الوهمية بين إزنزارن و ناس الغيوان إلا و طرقه، بل إنه أخد في المقارنة بين عناصر المجموعتين الواحد تلو الأخر، ومن بين الأمور التي قالها وحاول فيها ترجيح كفة ناس الغيوان تمويها للحقيقة و طمسا لها، قوله إن علال يعلى يشهد لعبد الهادي ايكوت ببراعة العزف، و كأن عبد الهادي دونه مرتبة في العزف حتى يشهد له، و أنى له ذلك. أما الضيف الأخر الذي يبدو أنه لم يتعلم بعد حتى كيف يطرح السؤال والدليل على ذلك تهكم عبد الهادي منه بالخشبة، فقد ظل يعتقد أن إطلاق العنان لبعض الكلمات الرنانة (أو ما يدعوه المغاربة بالسلوقية) كاف لإيصال الفكرة و تبليغ المعنى. فتبين للمشاهد أن الرجل لا فكرة لديه بصدد المجموعة، وأنه أتى (أو بالأحرى أوتي به) لملأ فراغ مسرحية تسيء لإزنزارن كفن وكتاريخ أكثر مما تحسن إليها، و الشهادة على برنامج يحاول تمرير لغط ذاتي على قنطرة المجموعة و يسعى إلى طمس معالمها و بخس حقها في التفرد و الإبداع و إبرازها للمشاهد كامتداد للظاهرة الغيوانية على الضفة السوسية، أو هي النسخة الامازيغية للأغنية الغيوانية التي أنزلها البرنامج منزلة الأصل الذي لا أصل تحته و لا فوقه. و الدليل على ذلك بداية البرنامج بالحديث عن ناس الغيوان و منح أغانيهم الأسبقية على أغاني إزنزارن، و استثناء مايسترو المجموعة ايكوت عبد لهادي من الحديث و التقويم إلى حدود الفصل الأخير من البرنامج، و في ذلك إساءة لفنان كبير من حجم وقيمة عبد الهادي لا تقل إساءة عن محاولة البرنامج تقديمه للمشاهد بمظهر الشارد المتواري عن الأنظار و المنزوي هناك وحيدا جنب البحر، بدل إظهاره بمظهر الفنان الوحيد بالمغرب الذي يرسم بحق معالم الفنان المبدع الأصيل الذي يصل الفن بالحياة وبواقع وألم و معاناة الإنسان، لا بالشهرة و المال والجاه و التملق والتزلف والنفاق و أخلاق الوصول كما هو حال الكثيرين من أشباه الفنانين الذين أصبحوا قدرا سيئا على المشاهد المغربي لطول مكوثهم في قناة دار البريهي أو عين السبع. تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول إن كل أولئك الذين يحاولون النبش و التنقيب في بدايات و ظروف نشأة المجموعة هم واهمون لأن التاريخ له ذاكرة تستعاد بالأدلة و الحجج المكتوبة والموثوق بها و ليس بروايات شفوية تتقاذفها الألسنة ذات اليمين والشمال، و إن كل أولئك الذين يحاولون رصد تأثر إزنزران بناس الغيوان أو جيل جيلالة أو غيرهما هم كذلك واهمون، لأن إزنزران " لم تأت لا من الشرق و لا من الغرب"6 بل إنها ثمرة الإبداع الامازيغي الأصيل التي أنضجتها معاناة و آلام الإنسان السوسي والمغربي عامة. ومن هنا الإقبال اللافت و التعاطف اللامشروط للجمهور الامازيغي مع المجموعة التي وجد فيها استجابة فنية و وجودية و فلسفية لحاجات و آهات تضيق بها نفسه، فكان من البديهي أن يتماهى مع أغاني إزنزارن كملاذ لتصريف لواعج و هموم الذات، كما كان من البديهي أيضا أن تأتي نصوص و قصائد إزنزارن حبلى بهواجس وجودية و فكرية عميقة تحتاج إلى تأصيل فلسفي (سنعمل في قادم الأيام على سبر أغواره بقدر ما يسعنا الجهد و تسعفنا الأنفاس) لفهم موقعها من الذات و لفهم آليات اشتغال ظاهرة "تزنزارت" بما يسمح بإنتاج خطاب معرفي بصددها بدل تعويض إيديولوجيا بأخرى كما هو حال القراءات و الشهادات السالف ذكرها و التي بقيت في حدود القراءة الخارجانية للظاهرة( دون النفاذ إلى عمقها لاستجلاء مظاهر تفردها و اختلافها و تجذرها في التربة السوسية)، ولم تنفك عن حمولات إيديولوجية يفترض في الباحث الجاد و النزيه مواجهتها بأقصى درجات الانطواء الإيديولوجي لحماية الذات من الذوبان و لإفهام الخصم حدود التسامح الممكن حتى لا يتوهم أن التسامح هو تنازل، و بالموازاة مع تلافي هذا الخطاب الإيديولوجي لابد للباحث من خطاب فلسفي يرسي للبحث في ظاهرة تزنزارت قاعدة نظرية قوية يتشبع بها لحظة إخضاع تزنزارت لتحليل دقيق و بناء، و إلا انتهى به المطاف إلى إعادة إنتاج ما يقوله خصومه، فقط يتحول القائل أو لغة القول. هوامش: 1- أنظر على سبيل المثال لا الحصر حوار السملالي مع جريدة "الأفق الجديد"،عدد 44 و 45 يونيو– يوليوز 2008. 2-E. Husserl : l’origine de la géométrie ; tr : jaques Derrida ; éditions de minuit ; 1962. 3- محمد بلوش : "نبش في تاريخ و بدايات أشهر مجموعة غنائية أمازيغية" جريدة "المساء"، عدد 292 ، الاثنين 27-08-2007. 4- سعيد ازروال : "ايموريكن أول تجربة للمجموعات في تاريخ المغرب" ،جريدة "رسالة الأمة" 26-04-2007. 5- برنامج تيفاوين : الحلقة الخاصة بإزنزارن، القناة الأولى ، تاريخ البث: 05-03-2007. 6- الحسين وزيك : تغطية صحافية لسهرة إزنزارن بمدينة تزنيت، القناة الثانية، تاريخ البث: 01-07-2007. لم تكن بداية أغاني المجموعات مع ناس الغيوان يقينا أقر به كل من كان موضوعيا في التعاطي مع ظاهرة نشأة المجموعات الغنائية بالمغرب، بل ظلت مجرد فرضية تاريخية انجذب إليها بعض المنتصرين للظاهرة الغيوانية، وظل يتشكك في صحتها كل من بلغ إلى مسامعه بعض الأغاني التي كانت تصدح بها مجموعة "تبغاينوست" في الربوع السوسية إبان فترة الستينات من القرن الماضي. ولم يكن أعضاء تلك المجموعة يعلمون،وهم يجوبون مناطق القطب السوسي، أنهم يحملون طي ضلوع أغانيهم وترانيمهم ما سيلهم الشباب السوسي الذي ما لبث في ذلك الإبان أن توجه رأسا ،وهو يتأبط آلاته الموسيقية التي صنعها بنفسه من مواد بدائية قصد العزف و الغناء، صوب غرف إنزكان الضيقة و جنبات منازل و مدارس و مقابر الدشيرة و تراست و الجرف، فكانت تلك الأماكن نقط التلاقي الأولى للتفاهم على الأدوار و الكلمات و الألحان فالأسماء التي اختمرت و تعددت لتحمل اسم "إيموريكن"، "لقدام"، "المجادل"، و "إزنزارن" التي دفع بها القدر و موهبة "ايكوت عبد الهادي" و كذا تناقضات المجتمع السوسي إلى الساحة الفنية الامازيغية. فكان من الطبيعي أن تكون إزنزارن ذلك الصوت الذي يتغنى بآلام و آمال المجتمع السوسي التواق في ذلك الإبان إلى تطهير نفسي و تغيير اجتماعي. "" بيد أن بعض المتطفلين على الفن و الإبداع الأمازيغي ممن يحرفون التاريخ و يعولون على روايات و شهادات شفوية مغرضة، ما لبثوا أن طفوا على السطح محاولين تقزيم دور المجموعة و البحث عن أصول لها في مجموعات مغايرة، لتكون إزنزارن بذلك نسخة لا أصلا، ويكون إنتاجها الفني تبعا لذلك تكرارا و تقليدا لا إبداعا و تجديدا. لذلك سنحاول، عبر هذه المقالة و بمنأى عن كل سياق تفاضلي أو تحديد تاريخي، إبراز ذلك التباعد والاختلاف الحاصل بين إزنزارن و ناس الغيوان. منطلقين من فرضية مفادها أن إزنزارن تعبير فني و فكري وفلسفي عميق عما كان يعتمل في المجتمع و الوجدان و المتخيل السوسي من مفارقات وتناقضات، و من ثم اجتراح أفق لمساءلة هذه التجربة الفنية الفريدة التي أفرزتها تربة الفكر و الشعر و الإبداع الامازيغي، بمنأى عن أية إيديولوجيا مستوردة تحاول رد هذه التجربة الأصيلة و المتجذرة في التربة السوسية إلى ناس الغيوان أو جيل جيلالة أو المشاهب1 و غيرها من المجموعات الغنائية التي امتلكت تاريخيا ناصية إعلام سوء النية القائم على الاخوانيات و الزبونيات، و المنغرس في عقل إثني لا يؤمن بمنطق الاختلاف و يفضل الاحتفاء بالابتذال و الغثاثة التي يشنف بها أسماعنا كل يوم، بدل الالتفات إلى إزنزارن كمجموعة غنائية طبعت الأغنية الامازيغية بطابع الخصوبة و التعدد حتى تجاوزت حدود المحلية إلى معانقة العالمية. محاولين رد الاعتبار للمجموعة بالدفاع عن حقها في الأصالة و التفرد و الإبداع الذي امتهن للأسف دون مسوغ أخلاقي أو تاريخي على يد بعض القراءات التي تحاول عبثا تأكيد تأثر إزنزارن بناس الغيوان أو جيل جيلالة، و هي قراءات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لم تحم نفسها من الاستلاب الذي انجرت إليه جراء حلاوة الغلاف الخطابي و الإعلامي الذي تعرض به تلك المجموعات التي امتلكت تاريخيا، كما أسلفت، ناصية الكتابة و الإعلام. و إذا كنا نشيح بنظرنا بهذا الصدد عن النبش و التنقيب في بدايات مجموعة إزنزارن، فليس مرد ذلك إلى ندرة المصادر المكتوبة و الموثوق بها فحسب، بل مرده أساسا إلى وعينا بدرس فلسفي عميق استفدناه من فينومينولوجيا هوسرل. و مفاد هذا الدرس الفلسفي أن القبض على بداية وانبثاق الظواهر كيفما كانت طبيعتها يظل دائما قبضا مفترضا، لأن البدايات ذاتها بدايات مفترضة ولأن الأصل بدوره لا ينفك يتأصل فتحت كل أصل أصول2. و عليه، فإن النبش و التنقيب في البدايات و في ظروف النشأة قد يكتسي أهمية من جهة التدوين و التأريخ وقد يرسم معالم الطريق، لكنه يبقى مع ذلك بغير ذي أهمية كبيرة من الناحية الموضوعية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بظواهر متزامنة تفترض إحداها سبقا زمنيا على الأخرى، و كذلك عندما يتعلق الأمر بشهادات شفوية لا تخلو من عناصر انثروبومورفية و لا تتيح إمكانية التدقيق و التأريخ الموضوعي للنشأة ، حتى وإن كان أصحابها فاعلين في حدث النشأة أو شاهدين عليه. و ربما كان هذا هو الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الصديق محمد بلوش الذي اجتهد في نقل شهادة عبد العزيز الشامخ عن ظروف و حيثيات نشأة مجموعة إزنزارن3، لكنه لم يأخذ من تلك الشهادة إلا ما وافق أطروحته أو بالأحرى فرضيته، فلم يكن أمينا في نقل كامل الشهادة خاصة وأن الشامخ أشار في شهادته إلى أن لا علاقة له و لا لإزنزارن بناس الغيوان، اللهم ما بلغ مسامعه من بعض ترانيمهم و أغانيهم. كما أن الأستاذ بلوش لم ينوع مصادره بل اكتفى ( وإن كان ينصح الباحثين بالاعتماد على وثائق و حجج مكتوبة بدل الاعتداد بالشهادة الشفوية) بشهادة عبد العزيز الشامخ للقناة التلفزية (berbère TV ) كمصدر و حيد للحقيقة، و هو يعلم أن الروايات بصدد ظاهرة "تزنزارت" كثيرة و متداخلة وأحيانا متباينة، أضف إلى ذلك أن شهادة الشامخ أتت بعد انفصاله عن ايكوت عبد الهادي، وقد لا تخلو من تمويه للحقيقة، خاصة إذا كان بين الطرفين شنآن أو تصفية حسابات شخصية. و الحقيقة أن القارئ لمقالة الأستاذ بلوش يحس كما لو أنه ينتصر للشامخ على حساب ايكوت عبد الهادي و يميل إليه، ثم إنه يقول إن المجموعتين متكاملتين، قبل أن يعود إلى القول ( وهذا هو حجر الفلاسفة الذي يهمنا في الموضوع) إن مجموعة إزنزارن الشامخ متأثرة بجيل جيلالة بينما تأثر عبد الهادي و مجموعته بناس الغيوان. و طبعا لم يعدم الأستاذ بلوش من ينسج على منواله ويحاول رصد تأثر المجموعة، هكذا اعتباطا ودون أدلة، بناس الغيوان أو جيل جيلالة أو غيرهما، و هذا هو حال الباحث سعيد ازروال الذي ذهب إلى تأكيد تأثر المجموعة بجيل جيلالة4، أما محمد طيفوري فلم يأت بجديد في الموضوع بل اكتفى بترديد ما جاء في شهادة الشامخ و في برنامج "تيفاوين" بطريقة حرفية يستحيي منها تلامذة الإعدادي. و إذا كان مرد هذه الأخطاء و الهنات التي وقع فيها هؤلاء الباحثين هو في اعتقادنا استلاب غير مدرك و لاشعوري، فإنها مع ذلك لا تعد شيئا أمام تلك الأخطاء الفادحة التي روج لها ( وهذه المرة عن قصد وربما عن سوء نية) برنامج "تيفاوين"5 الذي ظل محكوما طوال ساعة و نصف من البث بمنطق استئصالي إقصائي، يقصي الآخر ناظرا إليه كهامش( إزنزارن) و يلوذ بالمركز(ناس الغيوان) معتبرا إياه الأيقونة والحقيقة، مولدا بذلك "أنا" متمركزة حول ذاتها، متحصنة بوهم اليقين و غارقة في ايغولوجيا مفرطة. و الغريب في أمر هذا البرنامج أنه ظل موجها بهاجس تساؤلي واحد و وحيد وهو: ما علاقة إزنزارن بناس الغيوان؟. وطبعا لم تعدم مقدمة البرنامج من يجيب عن السؤال الماكر بحسب المرامي و الأهداف المسطرة للبرنامج، فكان أن اختارت لهذا الغرض ضيوفا بعيدون كل البعد البعد عن إزنزارن (ما عدا الحسين سكنفل الذي اقتصر دوره على إيضاح بعض قصائد إزنزارن الخالدة)، فأحد الضيوف، وهو بالمناسبة عضو في جمعية أصدقاء ناس الغيوان، لم يترك بابا ينفذ منه إلى العلاقة الوهمية بين إزنزارن و ناس الغيوان إلا و طرقه، بل إنه أخد في المقارنة بين عناصر المجموعتين الواحد تلو الأخر، ومن بين الأمور التي قالها وحاول فيها ترجيح كفة ناس الغيوان تمويها للحقيقة و طمسا لها، قوله إن علال يعلى يشهد لعبد الهادي ايكوت ببراعة العزف، و كأن عبد الهادي دونه مرتبة في العزف حتى يشهد له، و أنى له ذلك. أما الضيف الأخر الذي يبدو أنه لم يتعلم بعد حتى كيف يطرح السؤال والدليل على ذلك تهكم عبد الهادي منه بالخشبة، فقد ظل يعتقد أن إطلاق العنان لبعض الكلمات الرنانة (أو ما يدعوه المغاربة بالسلوقية) كاف لإيصال الفكرة و تبليغ المعنى. فتبين للمشاهد أن الرجل لا فكرة لديه بصدد المجموعة، وأنه أتى (أو بالأحرى أوتي به) لملأ فراغ مسرحية تسيء لإزنزارن كفن وكتاريخ أكثر مما تحسن إليها، و الشهادة على برنامج يحاول تمرير لغط ذاتي على قنطرة المجموعة و يسعى إلى طمس معالمها و بخس حقها في التفرد و الإبداع و إبرازها للمشاهد كامتداد للظاهرة الغيوانية على الضفة السوسية، أو هي النسخة الامازيغية للأغنية الغيوانية التي أنزلها البرنامج منزلة الأصل الذي لا أصل تحته و لا فوقه. و الدليل على ذلك بداية البرنامج بالحديث عن ناس الغيوان و منح أغانيهم الأسبقية على أغاني إزنزارن، و استثناء مايسترو المجموعة ايكوت عبد لهادي من الحديث و التقويم إلى حدود الفصل الأخير من البرنامج، و في ذلك إساءة لفنان كبير من حجم وقيمة عبد الهادي لا تقل إساءة عن محاولة البرنامج تقديمه للمشاهد بمظهر الشارد المتواري عن الأنظار و المنزوي هناك وحيدا جنب البحر، بدل إظهاره بمظهر الفنان الوحيد بالمغرب الذي يرسم بحق معالم الفنان المبدع الأصيل الذي يصل الفن بالحياة وبواقع وألم و معاناة الإنسان، لا بالشهرة و المال والجاه و التملق والتزلف والنفاق و أخلاق الوصول كما هو حال الكثيرين من أشباه الفنانين الذين أصبحوا قدرا سيئا على المشاهد المغربي لطول مكوثهم في قناة دار البريهي أو عين السبع. تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول إن كل أولئك الذين يحاولون النبش و التنقيب في بدايات و ظروف نشأة المجموعة هم واهمون لأن التاريخ له ذاكرة تستعاد بالأدلة و الحجج المكتوبة والموثوق بها و ليس بروايات شفوية تتقاذفها الألسنة ذات اليمين والشمال، و إن كل أولئك الذين يحاولون رصد تأثر إزنزران بناس الغيوان أو جيل جيلالة أو غيرهما هم كذلك واهمون، لأن إزنزران " لم تأت لا من الشرق و لا من الغرب"6 بل إنها ثمرة الإبداع الامازيغي الأصيل التي أنضجتها معاناة و آلام الإنسان السوسي والمغربي عامة. ومن هنا الإقبال اللافت و التعاطف اللامشروط للجمهور الامازيغي مع المجموعة التي وجد فيها استجابة فنية و وجودية و فلسفية لحاجات و آهات تضيق بها نفسه، فكان من البديهي أن يتماهى مع أغاني إزنزارن كملاذ لتصريف لواعج و هموم الذات، كما كان من البديهي أيضا أن تأتي نصوص و قصائد إزنزارن حبلى بهواجس وجودية و فكرية عميقة تحتاج إلى تأصيل فلسفي (سنعمل في قادم الأيام على سبر أغواره بقدر ما يسعنا الجهد و تسعفنا الأنفاس) لفهم موقعها من الذات و لفهم آليات اشتغال ظاهرة "تزنزارت" بما يسمح بإنتاج خطاب معرفي بصددها بدل تعويض إيديولوجيا بأخرى كما هو حال القراءات و الشهادات السالف ذكرها و التي بقيت في حدود القراءة الخارجانية للظاهرة( دون النفاذ إلى عمقها لاستجلاء مظاهر تفردها و اختلافها و تجذرها في التربة السوسية)، ولم تنفك عن حمولات إيديولوجية يفترض في الباحث الجاد و النزيه مواجهتها بأقصى درجات الانطواء الإيديولوجي لحماية الذات من الذوبان و لإفهام الخصم حدود التسامح الممكن حتى لا يتوهم أن التسامح هو تنازل، و بالموازاة مع تلافي هذا الخطاب الإيديولوجي لابد للباحث من خطاب فلسفي يرسي للبحث في ظاهرة تزنزارت قاعدة نظرية قوية يتشبع بها لحظة إخضاع تزنزارت لتحليل دقيق و بناء، و إلا انتهى به المطاف إلى إعادة إنتاج ما يقوله خصومه، فقط يتحول القائل أو لغة القول. هوامش: 1- أنظر على سبيل المثال لا الحصر حوار السملالي مع جريدة "الأفق الجديد"،عدد 44 و 45 يونيو– يوليوز 2008. 2-E. Husserl : l’origine de la géométrie ; tr : jaques Derrida ; éditions de minuit ; 1962. 3- محمد بلوش : "نبش في تاريخ و بدايات أشهر مجموعة غنائية أمازيغية" جريدة "المساء"، عدد 292 ، الاثنين 27-08-2007. 4- سعيد ازروال : "ايموريكن أول تجربة للمجموعات في تاريخ المغرب" ،جريدة "رسالة الأمة" 26-04-2007. 5- برنامج تيفاوين : الحلقة الخاصة بإزنزارن، القناة الأولى ، تاريخ البث: 05-03-2007. 6- الحسين وزيك : تغطية صحافية لسهرة إزنزارن بمدينة تزنيت، القناة الثانية، تاريخ البث: 01-07-2007.