في اليوم الدراسي الذي نظمته الخميس الماضي بالرباط النقابة الوطنية للصحافة المغربية بشراكة مع جمعية مقاولات السمعي البصري تحت عنوان" مستقبل الإعلام السمعي البصري في المغرب" حصل نوع من الاستهداف لطرف أقصي من الحضور أصلا في الندوة. ثم إن العديد من الإفادات والملاحظات التي أدلى بها من يعتبرون أنفسهم أصحاب المهنة كانت غير دقيقة وكانت بعيدة عن الموضوعية والحياد المنهجي في طرح مسارات الأشياء. إن الهدف من عقد الأيام الدراسية عادة هو تسليط الضوء على النقط المعتمة في ملف من الملفات ذات الاهتمام العمومي، لكن أن يتحول الوضع إلى نوع من الإقصاء المرسوم سلفا وفي ذات الوقت تمرير رسائل معينة من قبل عدد من المتدخلين، مع محاولات منسوجة بعناية للتغليط، فإن الغاية تصبح حينئذ مجانبة للصواب. كثيرة هي المواضيع التي يمكن لي شخصيا إبداء رأيي حولها، بدءا بموضوع تقييم الإعلام السمعي البصري في المغرب، كذلك ما يخص دفاتر التحملات وصيغ تنزيلها، وكذا ما يتعلق بطلبات العروض. شخصيا من وحي اليوم الدراسي، وما دام أن أغلب أقطاب القطب السمعي البصري في المغرب تحدثوا عن دفاتر التحملات، لذلك أتوقف ها هنا في هذه الأسطر عند بعض ما قيل خلال فعاليات اليوم الدراسي، وأسطرها بصفة شخصية من خلال النقط الست التالية: أولا: تحدث رئيس نقابة الصحفيين المغاربة عن دفاتر التحملات، وقال بشأنها أنها كرست هيمنة الجهاز التنفيذي على القطب السمعي البصري العمومي. كما أكد على حصول إرهاق الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة بالتزامات مالية غير واقعية مما أعاق تنفيذ عدد توجهات الشركة. مضيفا أنه وقع تأويل خاطئ لبعض مقتضيات قانون الاتصال السمعي البصري وخاصة ما يتعلق بحق الحكومة في بث بعض خطاباتها ورسائلها عبر الإعلام العمومي. و النتيجة الحتمية لهذا التوجه، حسب نقيب الصحفيين، هو إعادة إنتاج خطاب يقارب الإعلام السمعي البصري بمنهجية ما قبل حكومة التناوب التوافقي. سؤال بسيط يمكن أن يطرح في هذا الصدد، هل استند صاحب هذا الطرح إلى دراسة علمية ذات مؤشرات للحكم بأن واقع الإعلام السمعي البصري اليوم يعيد إنتاج ممارسات الإعلام السمعي البصري زمن ماقبل حكومة التناوب التوافقي؟ أليس هذا الحكم الصادر عن رئيس النقابة في النهاية موقف سياسي أكثر منه حكم مهني وموضوعي؟ ثم لماذا التأريخ بحكومة التناوب التوافقي؟ ودون النبش في ملفات الإعلام السمعي البصري في تلك الفترة التاريخية، أتسائل: أين يتجلى هيمنة الجهاز التنفيذي على أداء القطاع السمعي البصري من خلال المقتضيات الواردة في دفاتر التحملات؟ مع التذكير على أن دفاتر تحملات القطاع السمعي البصري العمومي تظل على كل حال دفاتر لتنظيم القطاع السمعي البصري العمومي لمرحلة محددة في الزمن. ما سماه نقيب الصحفيين بتأويل خاطئ للمقتضى المتعلق ببث رئيس الحكومة لخطاباته، يمكنني الإحالة فقط إلى الفقرة الثالثة من المادة 48 من قانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري الصادر منذ 7 يناير 2005 والتي تقول بالحرف "يجب أن ينص دفاتر التحملات بالخصوص على الشروط التي يتم وفقها القيام بمهام المرفق العمومي من لدن الشركات المذكورة فيما يتعلق بما يلي:- بث البلاغات والخطابات ذات الأهمية البالغة التي يمكن للحكومة أن تدرجها ضمن البرامج في كل وقت وحين". هذا أولا، ثانيا فإن أي اعتراض في التأويل في هذا القبيل يجب أن يحال على الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وليس أن تتحول النقطة في كل مرة إلى "مشجب" تعلق عليها المواقف والأحكام. ثم إن هذا المقتضى تستفيد منه الحكومة بغض النظر عن لونها السياسي، مع العلم أن المواقع متحركة وليست ثابتة. ثانيا: الرجل الثاني في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تحدث عن دفاتر التحملات وكأن المغرب بصدد فتح نقاش حول إعداد دفاتر جديدة، بينما الواقع يقول بأن دفاتر التحملات أصبحت مصادق عليها من قبل الهاكا باعتبارها هيئة دستورية. بالمقابل الوضع يتطلب في هذه اللحظة العمل على التنزيل الأمثل لهاته الدفاتر على أرض القطاع السمعي البصري للارتقاء بإعلامنا وتجويد خدماته وتقوية تنافسيته. صاحب هذا الرأي قال بأنه يميل إلى العمل ب convention بدل cahier des charges مشيرا إلى الازدواجية الحاصلة في المغرب في التعامل مع القطاع السمعي البصري العمومي وربطه ب cahier des charges والقطاع السمعي البصري الخاص وربطه ب convention ومتسائلا عن هل الحكومة هي صاحبة الحق في وضع دفاتر التحملات، بينما من وجهة نظره الوضع السليم هو أن يتم الأمر بين الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وبين متعهدي السمعي البصري العمومي على غرار ما يجري مع الخواص بعيدا عن أعين الجهاز التنفيذي. استغربت هذا الرأي من رجل خبر خبايا القطاع، فالقطاع السمعي البصري العمومي يتلقى أموالا عمومية ومن العادة في كل دول العالم أن يكون للجهاز التنفيذي دور في رسم معالمه الكبرى ضمانا لكي يؤدي أدواره في الخدمة الإعلامية العمومية. هذا لا يمنع من أن يتمتع هذا القطاع بكل مقومات الاستقلالية المهنية والتحريرية. والسؤال الأكثر إلحاحا ما المراد من بسط مثل هاته الملاحظات في هذا الوقت الذي ينبغي من الجميع العمل على تنزيل دفاتر التحملات وليس التساؤل عن ماهية دفاتر التحملات؟ ثالثا: بخصوص دفاتر التحملات دائما ذهب مدير قناة ميدي1 سات إلى القول " إن الواقع يقول أنه في الدول الديمقراطية دفاتر التحملات الخاصة بقنوات القطب العمومي لا تتجاوز مساحتها صفحتين(فرنسا، ابريطانيا) وهي تحدد فقط إطار العمل والمبادئ الكبرى المحددة للخدمة العمومية. على العكس ما جرى في المغرب حيث تم تحديد سعات البث والتدخل في البرمجة"، أي أن دفاتر التحملات، من منظوره، تحولت إلى عرقلة الإبداع في القطاع السمعي البصري. الواقع الفعلي وليس الواقع المفترض يقول بأنه في فرنسا على سبيل المثال فإن دفاتر التحملات الخاص بالشركة الوطنية للتلفزيون الفرنسي تمتد على مساحة 3 محاور كبرى و 70 مادة تمت عبرها معالجة طبيعة تدبير معطى التعددية وخصائص الخط التحريري، وكذا البرامج العلمية والتربوية والتنمية المستدامة، والالتزامات الخاصة بالبرامج، والمقتضيات المتعلقة بالإشهار، وسبل تحقيق تلفزة تحقق خدمة عمومية منفتحة على المجتمع. إضافة إلى طبيعة العلاقة التي تربط التلفزة بمختلف هيئات القطاع السمعي البصري. هذا النموذج الفرنسي، الذي يعتبره البعض نموذجه الأمثل، لايتوقف عن طرح الأسئلة المتعلقة بتطوير القطاع بكل متناغم مع التحولات التكنولوجية المتسارعة وكذا انسجاما مع التحولات الجارية وسط المجتمع. رابعا: الأستاذ عبد الرحمان العدوي أرجع عقارب الساعة إلى الوراء ليشدد على أن وزارة الاتصال لم تشرك مهنيي قطاع الاتصال السمعي البصري في إعداد دفاتر التحملات قبل أن يتوجه إلى الحكومة بمطالبتها "بمزيد من ضخ الأموال لكي لا تموت مهنة الصحافة بالمغرب"، قبل الحديث عن "المال" لو سئل مدير إحدى الإذاعات الخاصة صاحب الطرح أحد موظفي وزارة الاتصال لقال له بالحرف: لقد تلقت الوزارة أزيد من 50 مذكرة من فعاليات ومنظمات المجتمع المدني وهيئات مهتمة بالقطاع، آنذاك سيكون من غير الداعي الاستشهاد بمثل هاته الأقوال غير الدقيقة أصلا. خامسا: على خلاف من جاء لليوم الدراسي لتمرير رسائل خاصة، لامست عدد من المداخلات مستقبل الإعلام السمعي البصري الوطني، حيث أن بعض أرباب شركات الإنتاج السمعي البصري توقفوا عند عدد من المشاكل المتعلقة بتنزيل مقتضيات طلبات العروض الخاصة بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وشركة صورياد القناة الثانية. وقد أمتع الدكتور عبد الله ساعف الحضور بمداخلة هامة عن راهن ومستقبل الإعلام السمعي البصري، حيث أبرز أن الإصلاحات التي تمت خلال العشر السنوات السابقة "الجيل الأول من الإصلاحات" قد استنفذ أغراضه، وحان الوقت لتقييم عمومي موضوعي للتجربة، مع ضرورة وضع خارطة الطريق للتفاعل مع الانفتاح النسبي الحاصل في سبيل تعديل القانون السمعي البصري، وتعزيز دور الهاكا بربطها بمبدأ الإحالة الذاتية وإعادة النظر في التركيبة وطرق التمثيلية. سادسا: إن الإصلاح صيرورة من التفاعلات، فليس هناك إصلاح سيئ وإصلاح أمثل، الإصلاح عملية تراكمية، لذلك من المستغرب في اليوم الدراسي أن يعمد بعض أقطاب القطاع السمعي البصري العمومي إلى اجترار موضوع دفاتر التحملات عوض طرح المشكل الحقيقية على طاولة النقاش قد يكون صيغ تدبير طلبات العروض من أبرزها، ذلك أن النقاش حول دفاتر التحملات، بعد أن صادقت عليها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري كهيئة دستورية مختصة وأكتسبت كنصوص الشرعية الدستورية، وتحويله إلى "قميص عثمان" يعد نقاشا غير ذي جدوى وطرحه من قبل بعض أقطاب الإعلام ببلادنا ليس سوى نوع من الهروب إلى الأمام عوض الانكباب الحقيقي على مناقشة التحديات التي تعترض قطاع الاتصال السمعي البصري المغربي في ظل تنافسية دولية وإقليمية جارفة. أما ما يتعلق بتمويل القطاع وطلبات العروض وتحديات الجودة والنزاهة فهي حكاية أخرى يمكن العودة إليها في تدوينات أخرى.