«أنْ تتفلسف، فهو أن تَشُكّ في معنى الفلسفة.» (يُورغن هابرماس) «الفيلسوف هو دائما شخصٌ لا تكون الفلسفةُ لديه مُعطاةً.» (جاك دريدا) على الرَّغم من كل ما يُشاع عن "الفلسفة" من أصناف الشُّبَه والتُّهَم (كأن يُقال عنها، مثلا، إنّها ليست سوى "ثَرْثَرة" أو "لَغْو" أو "تكلُّف" أو "مَضْيَعة للوقت" أو "إلحاد")، فإنّها تُحاط بِهَالةٍ من الإجلال والتّعظيم أشبهُ بتلك التي يُحاط بها "الدِّين" نفسُه (وقد يُراد قطعُ صلتها به من هذه النّاحية أيضا فيُصار إلى إنكار ذلك!). ولأنّ "الفلسفة" تَحظى بامتياز قد لا يكاد يُقارَن حتّى بذاك الذي اكتسبه "العلم" بعد تسيُّده في العصر الحديث، فلا عجب أن يكون "الفلاسفةُ" ذَوِي وجاهة ونُفوذ إلى حدّ أنّ لقبَ "فيلسوف" يُحرَص على طَلَبه بقدر ما يُعَدّ مُميِّزًا (قد يَكفي ذكر ﭐسم أيِّ فيلسوف مشهور لفرض أيِّ قول أو فكرة!). وقبل أن يُسْرِع أيُّ دَعيّ إلى الإمساك - في ذلك الوصف- بما يُريحه من تبيُّن المُراد فيما وراءه، فإنّه لا بُدّ من أن يُؤَكَّد – مع كثيرين من أمثال "ﭙاسكال" و"فتغنشتاين" و"ﭙيرس" و"بُورديو"- أنّ "الفلسفة" السّائدة والغالبة لا تَصلُح، في مُعظَم الأحيان، إلّا لتكون موضوعا للسُّخْريّة. ولا يعني هذا بتاتا أنّ "التّفلسُف" برُمّته مذمومٌ أو حرامٌ كما يَهْرِف الذين لا يجدون ما يُواجهون به خُصومهم من "المُتفلسفين" أو كما يَودّ الذين يَبتغونها عِوَجًا فيَقفون في مُنتصف الطريق حتّى يظهروا بأنّهم غايةٌ في الدّهاء! ليس "التّفلسُف"، إذًا، بالغَرض المَرْميّ هُنا ؛ وإنّما هو ذاك «التّضْليل بﭑسم الفلسفة» الذي يَتعاطاه كثيرٌ ممّنْ لا يَمْلِكون أن يَضمنوا مصلحتَهم في البُروز والتّميُّز إلّا بإتيان «خطاب اللَّغْوَى» كخطاب يَدُور حول "الباطل" من الفكر والكلام ("الباطل" كما يَتجلّى في إرسال الأحكام دون قَيْدٍ أو شرط) وكخطاب يَحرص على التّدثُّر برداء "الفلسفة". والحال أنّ "التّفلسُف" لا يَتميّز – بما هو «اشتغال بالحكمة»- إلّا عن "التّضْليل" الذي يَتحدّد، من ثَمّ، كمُمارَسة قائمة على التّغْليط والتّدْليس كيفما ﭐتّفق. وإذَا ظهر كونُ "التّفلسُف" مُضادًّا ل"التّضْليل"، فإنّ الرِّهان يَصير مُتعلِّقًا بطلب "الحكمة" إحكامًا للفكر والكلام واستحكامًا للعمل والسُّلوك، إحكامٌ واستحكامٌ يُواجهان أنواع "الادِّعاء" و"التّظاهُر" التي تَنْصبّ على "الحكمة" فتُؤدِّي إلى "التّحكُم" تسلُّطا أو إلى "التّحاكُم" تسيُّبًا. ذلك بأنّ الاشتغال ب"الحكمة" لا يكون إلّا باعتبار أنّ الأمر فيها يعني أساسا «كيفيّة الحُكْم»، ممّا يُوجب الاجتهاد في إقامة "الحُكْم" نظرًا عَقْليّا مُحْكَمًا وعملا خُلُقيّا مُستحْكِمًا، وهو ما يُحدِّد "التّفلسُف" في النهاية بأنّه إعمال كل الوسائل والأدوات التي تُمكِّن من مُقاوَمة "التّضْليل" بما هو إساءةُ "الحُكْم" بإتيان الفكر والكلام استعجالا واستسهالا. وإنّ مُواجَهة واقع «التّضْليل بﭑسم الفلسفة» تقتضي بيان أنّ "التّفلسُف" يَتميّز، في آن واحد، عن «الاتِّصاف بالحكمة» وعن «ﭐلتّظاهُر بالحكمة». ذلك بأنّ إدراك أنّ «ﭐمتلاك الحكمة» يَستلزم «الخُلُوّ من أيِّ نقص في العلم والعمل» ("الحكيم" حقًّا إنما هو "العليم" بكل شيء والمُصيبٌ في كل فعل) يَجعل "الحكمة" امتيازًا ومَطْلبًا لا يَتوانى كل إنسان في ﭐدِّعائه والتّظاهُر به إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولأنّ "التّفلسُف" تَخَلٍّ عمّا لا يَليق بالإنسان أو عمّا لا يَختصّ به أصلا، فإنّه بالقدر نفسه الذي يَدُلّ على "التّواضُع" أمام جلال "الحكمة" وعظمتها يَصير دالّا على الاعتراف بوضع الإنسان ككائن يُواجه "الجهل" المُحيط و"الخطأ" المُحتمَل بما يَفرض ألّا يكون "التّفلسُف" قابلا للتّحديد إلّا بما هو «سَيْرٌ في طريق الحكمة»، وهو السَّيْر الصّعب والشاقّ في طريق تُرجَى عاقبتُه الحُسنى ولا تُؤمَن عَقباتُه المُشْقِية. إنّ "الفلسفة" – على الأقلّ منذ لحظتها اليونانيّة- ترتبط بالتّمييز بين «مالِك الحكمة» (صُوفوس/الحكيم) و«مُدَّعي الحكمة» (الصُّوفسطائيّ/المُتحاكم) و«مُحبّ الحكمة» (الفيلسوف/المُستَ-حْكِم). ومن البيِّن أنّ تحديد "التّفلسُف" من هذا المُنطلَق يقود إلى تصوُّره كنزاع يدور حول "الحكمة" بالخصوص ضدّ "التّضْليل" الذي لا يعود فقط بمثابة الوُقوع تحت طائلة "الجهل" و"الخطأ"، وإنّما يصير – بالأحرى- احتراف استغلال كل ما هو مُتاح من وسائل وحيل - بما في ذلك مَظاهر "الفلسفة"- لتغطية فضائح "الجهل" وقبائح "الخطأ" والظهور، مع ذلك، بمظهر من يَعُدّ نفسه الرّائد في نظره وفكره والسّديد في رأيه وعمله. ولعلّ مِمّا يُيَسِّر «التّضْليل بﭑسم الفلسفة» أنّ "الفلسفة" كثيرا ما يُقال عنها بأنّها «أُمُّ العُلوم»، وهو قولٌ يُفيد في ظاهره أنّها كانت الأصل الذي صَدَرت عنه كل العُلوم ويُؤكِّد، من ثَمّ، أنّها أسبق وأجدر من كل علم. غير أنّ قليلا من التأمُّل يكفي لتبيُّن أنّ "الفلسفة" - التي تُحدَّد نشأتُها عادةً في بلاد اليُونان بين القرنين السادس والرّابع قبل ميلاد المسيح- مسبوقة تاريخيّا بكثير من العلوم (مثلا، الرياضيّات والطبيعيّات والفلك) التي عُرفت قبلها في ظلّ الحضارات الكبرى (بلاد الرّافدين، مصر)، بل تُبيِّن أيضا أنّ "الفلسفة" كانت بنتَ "الحكمة" قبل أن تصير مُنافِسةً لها. وأشدّ من هذا كلِّه، فإنّ من يُرَدِّد عبارةَ «الفلسفة أُمُّ العلوم» يَنسى أنّ السبب فيها ليس سوى ترجمة فاسدة لأصل معناه بالضبط «الفلسفة مَلِكةُ (أو سيِّدةُ) العلوم» (« la philosophie est la reine des sciences/Philosophy is the queen of all sciences »). والمُؤسف أنّ هذا النِّسيان لا يَمُرّ دون نسيان أكبر منه يَتعلّق بأنّ نخوةَ الاستعلاء تُؤدِّي حتما إلى التّشبُّه بالأشرف أو التّقرُّب من القويّ، كأنّ "التّفلسُف" لا جدارة له إلّا بالقياس إلى شرف "العلم" وقُوّته. ولهذا، فإنّ ثمّةَ من لا يزال يُؤمن بأنّ "الفلسفة" لا تكون شيئا ذا بال إلّا إذَا صارت "علميّة" تماما في مَواضيعها ومَناهجها (وهو ما يُترجَم، في الواقع، إلى حفظ مَظاهر العلم بأيِّ ثمن!). ولا بدّ من التذكير بأنّ "الفلسفة" اقترنت، منذ الأصل، بفضيلة "التّواضُع" وتبقى غايتُها مُتعلِّقةً بتحصيل المَزيد منه ؛ ليس فقط لأنّ "الحكمة" أمرٌ يَعزّ الظّفَر به أو مَطْلَبٌ من المُمتنع نَيْلُه فيُكتفَى بمحبّته والتطلُّع نحوه، وإنّما أيضا (وبالأساس) لأنّ "الجهل" يُحيط بالإنسان من كل جانب ولا يَزداد إلّا توسُّعا بما يُراكمه التقدُّم في المعرفة والعلم ؛ وهو ما يُفيد أنّ الإنسان خطّاءٌ ظَلُومٌ بقدر ما هو جَهُولٌ كَسُولٌ. وليس هناك أملٌ كبير مع "الفلسفة" التي لا تأتي، عادةً، إلّا مُتأخرةً ولا تملك أن تُفيض على الإنسان أَمداد "العلم" و"الحكمة" لأنّها – حينما تحترم نفسها فتُدرك أنّها لا تستطيع إعطاء ما لا تملك- لا تَتحدّد إلّا بصفتها خُلُوًّا منهما بما يجعل "التّفلسُف" الاسم الآخر ل"التّخلِّي" بمعناه المُزْدَوِج: تَخلٍّ عن الرّغبة في العلم/الحكمة وتَخَلٍّ عن الرّغبة في السُّلْطان/المُلْك. وفقط بهذا التّحديد تستوي "الفلسفة" مع «طلب الاستقامة على التّواضُع» في مُكابَدة واقع "الجهل" و"الخطأ" بحيث لا يَبقى مُجْديا أن يُنظَر إليها كعلم أشرف أو كمعرفة أوسع. ولأنّ موقف "الفلسفة" - بما هي وُعودٌ عريضةٌ وإمكاناتٌ محدودةٌ- يبدو مَيْؤُوسا منه أمام فُشُوّ "الجهل" و"الخطأ" في واقع الحياة البشريّة، فإنّ الخيار لا يَقُوم إلّا في ﭐتِّجاهين: إمّا الاعتراف باستحالة "الفلسفة" في تجرُّدها النّظريّ ووُجوب الخضوع، بالتالي، للمُمارَسة العَمَليّة وخوض «طلب الحكمة» تصوُّفا يشتغل بالجمع بين «العلم النّافع» و«العمل الصالح» في تَزْكية النّفس عن الرّذائل وتحليتها بالفضائل ؛ وإمّا إنكار ذلك والدُّخول في مُغامَرة «التأمُّل النّظريّ» المقطوع، في آن واحد، عن إكراهات «الواقع العَمَليّ» وتكاليف «التّجربة الحيّة» بما يَؤُول إلى "التَّجْريد" فصلا بين «النّظر العِلْميّ» و«العمل الخُلُقيّ» وإلى "التَّدْهير" فصلا بين «تدبير الحياة الدُّنيا» و«الاشتغال بأَمْر الآخرة». ولا يَخفى أنّ صعوبةَ موقف "الفيلسوف" - في قناعته بدور «مُحبّ الحكمة»- تَتمثّل في قُرب "التّفلسف" من "التّضْليل": مَثَلُ من لا يَملك من العلم ما يَكفي لاختيار «الحياة الطيِّبة» كَمَثل من يَحْرِص على التّصرُّف من موقع الجهل فلا يُبالي أن يكون سعيُه في الحياة ضلالا وخُسرانا! وليس ذلك إلّا أحد الآثار الكبرى للانقلاب الذي طرأ تاريخيّا، خصوصا في الثقافة اليونانيّة، على "الحكمة" التي فُصل جانبُها "العَمَليّ" عن جانبها "النّظريّ" الذي استبدّ مُنذئذٍ بنشاط الإنسان فحَوَّله إلى تأمُّل محصور في إرادة الفهم للفهم وحده. ولا شكّ أنّ كثيرين بين ظَهْرانَيْننا يبتهجون بذلك الانقلاب من حيث إنّهم أحرص الناس على تقليد فلاسفة الغرب من الذين ذهبوا بعيدا في الثّناء على فصل "النّظر" عن "العمل" إلى حدِّ أنّهم لم يعودوا يرون من "العمل" إلّا ما كان مُضاعَفةً للتّجريد وإمعانا في إجراءاته كأنّ "العمل" يَكفي في حُصوله الاستفاضة في الحديث عنه وإنتاج "مُجرَّد" يُضاف إلى "مُجرَّد" آخر! حقًّا، إنّ الفلسفة تُميَّزُ بأنّها مجالُ «التَّفْكير العقليّ»، بل هي مجالُه بامتياز عند بعض الذين يَغْفُلون عن أنّ «التّفكير العقليّ» لا يَنحصر فيها وأنّ بعض أشكاله الدقيقة جدّا ليست من اختصاصها (المنطق، الرياضيّات، العُلوم التجريبيّة). والثابت أنّه في «التفكير العقليّ» لا يُؤخَذ بأيِّ قول إلّا بناءً على دليل صحيح. لكنّ مجالَ «الدّليل» أوسع من أن يُحاط به أو يُتمكَّن منه بسهولة. فإذَا كان «الدّليل» يَتعلّق بمُختلف أصناف تبيين الأفكار وترتيبها كأقوال يُبنى بعضها على بعض بمُقتضى علاقات استتباعيّة واستنتاجيّة خاصة، فإنّ كل شيء في مجال التّداوُل البشريّ يُمكن أن يُتّخذ دليلا، من حيث إنّ إرادة الدّالِّين والمُستدِلِّين تَتوجّه دائما نحو الأشياء لتعرُّفها والتوسُّل بها في تحقيق مُختلف أغراض التّخاطُب والتّفاهُم. وبِما أنّ "اللُّزوم" لا يكون دائما ضروريّا بين المقدمات والنتائج بما يُفيد القطعيّة في دلالتها، فإنّ استعمال اللِّسان الطبيعيّ في الاستدلال يُوجب الانتباه إلى أنّ كل لفظ من ألفاظ القول تكون له قيمةٌ تدليليّةٌ تقبل أن تُحدَّد ليس فقط بالنِّسبة إلى رُتبته ووظيفته التركيبيّة، بل أيضا من جهة تبيُّن قصد القائل وسياق القول. وهذا ما يَنقُل «الدّليل» إلى مجال "الاحتجاج" بما هو مجال لترتيب "الحُجَج" بحسب المَقاصد التّخاطُبيّة وسياقات التّداوُل العَمَليّ. وبالتالي، فإنّ «الدّليل» في مجال الفلسفة لا ينفصل عن «المُحاجّة/الحِجاج» بما هي مُغالَبة ومُنازَعة في المَقاصد التّدليليّة بفعل تبايُن أحوال التّبْليغ وسياقات التّوْجيه. وما دامت مسألةُ «الدّليل» تَعْرِف من التعقُّد والتّشعُّب ما لا حصر له، فإنّ المَجال يَتّسع لكل أنواع "التّضليل" التي ليس أهونَها الإيهام بأنّ «التّفكير العقليّ» قائمٌ حصرا على "البُرْهان" وبأنّ استعمال اللِّسان الطبيعيّ لا تأثير له في الخطاب الفلسفيّ من تلك النّاحية ؛ وهو ما يكشف، في آن واحد، كيف أنّ «هُواة التّضليل» يجهلون حقيقة «التّفكير العقليّ» في صلته بالخطاب الفلسفيّ ("البلاغيّ" بالتأكيد كنتيجة للضرورة المُلازِمة لجوهره الطبيعيّ) وأنّهم يَحْرصون على عَرْض أنفسهم بصفة من يَمْلك نَوَاصي «التّفكير العقليّ/البُرهانيّ» وعلى ﭐتِّهام خصومهم بتعاطي «التّفكير البيانيّ/الوَعْظيّ» الذي لا يعدو أن يكون في ظنِّهم فُقاعات بلاغيّة بلا مضمون دلاليّ/فكريّ (وأمرُ «هُواة التّضليل»، بهذا الخصوص، مفضوحٌ إلى أبعد حدٍّ بدليل شُهرة «المُنْقلَب اللُّغويّ/البلاغيّ/الحِجاجيّ» في الفلسفة المُعاصرة منذ ستينيّات القرن الماضي)! لا عجب، إذًا، أن تجد أدعياء "التّفلسُف" عندنا يعتقدون صحّةَ الفصل المزعوم بين "الدِّين" و"الفلسفة" وبأن يَنظُروا، من ثَمّ، إلى "الفقه" - وهو «علم الشّريعة» في الإسلام- بأنّه «ضدّ الفلسفة» (أيْ، بالتّحديد، عدوُّها). والحال أنّه لا سبيل إلى الفصل الأوّل ولا إلى الفصل الثاني المُترتِّب عليه إلّا بناءً على التّسْليم بأنّ "الفلسفة" ليست أكثر من «نظر تأمُّليّ مُجرَّد من كل عمل»، أيْ بخلاف "الدِّين" و"الفقه" اللّذين يَتعلّقان بأعمال الإنسان بصفته الفاعل (بإرادة قاصدة وحُرّة) والمسؤول عمّا يَأتيه بما هو كذلك. ويَنسى الذين يَقْبَلون ذَيْنك الفصلين أنّ تجريد "الفلسفة" من العمل يُعطِّل عقلَها ويَقْصُره على «أفعال الباطن» كأنّ الإنسان وعيٌ وجدانيٌّ مُنْطَوٍ على نفسه ؛ كما أنّ إعمالَها يَستلزم استبدالَها مكان "الدِّين" بما يُثْبت أنّها، في الواقع، «دينٌ مُتنكِّر» يُراد له أن يَستبدّ بتحديد ما يجب (أو يَصحّ) فعلُه. وفضلا عن هذا، فإنّ كون "الفقه" يَتعيَّن بصفته «استنباط الأحكام المُتعلِّقة بأعمال المُكلَّف من الأدلّة الشرعيّة الجُزئيّة (الكتاب والسُّنّة)» يجعله – بالأحرى- تفكيرا عقليّا وعَمَليّا على غرار التّفكير الفلسفيّ. وإلّا، فإنّ ما يجب تعليلُه في "الفلسفة" إنّما هو قيامُها على نوع من "المَقْبوليّة" التي يُظَنّ أنّها تعلو على معقوليّة "الفقه" و"الدِّين" التي تُوصَم وحدها بأنّها "معياريّة" كأنّ «الحُكم الفلسفيّ» يُؤتَى من دون معايير أو يُقْبَل بلا مُفاضَلة قيميّة! ومن أجل ذلك، ينبغي أن يكون بيِّنا أنّ الجهل بطبيعة اشتغال "التّفلسُف" هو وحده الذي يُبرِّر ﭐدِّعاء إمكان مُمارَسة التّفكير تدليلا عقليّا ونقديّا من دون أيِّ توجيه عَقَديّ أو خُلُقيّ. وحينما يُؤخَذ "التّفلسُف" هكذا كما لو كان ذا أفضليّة جوهريّة تسمو به على أشكال التّفْكير الأُخرى (بالخصوص في "الدِّين" و"الفقه" و"التصوُّف")، فإنّه يصير صِنْو "التّضليل" في المدى الذي يُظَنّ أنّ "المُتفلسف" يأتي من الخطاب والسلوك ما يُعبِّر عن "العقل" فهما بلا إغْراض عمليّ وحُكْما بلا تفضيل قيميّ. ويبدو أنّ الذين لا يجدون ما يُغطِّي جهلَهم وكسلَهم إلّا بارتداء زِيِّ "الفلسفة" أو بحَمْل لقب "فيلسوف" لم تَعُدْ سيماهُم تَخفى حتّى على من كان من بينهم أو له مَعايش من جرّاء تضليلهم: أَلَيْسُوا هُم الذين لا يُضيرُهم في شيء أن يُرسلوا الكلام عواهن مُهَلْهَلةً بدعوى أنّ "الحقيقة" قرينٌ للتّعْبير الذي يُلْقى عفو الخاطر دون قيد أو شرط؟! فكيف يدّعون "العقلانيّة" من دون العمل بمُقتضياتها من تبيينٍ للدّعاوى وتعليلٍ للقضايا والاعتراض بمنع ما لا سند له أو نَقْض ما ضَعُف دليلُه؟! وهل بوُسعهم، حقًّا، أن يكشفوا للناس مُستنَد ما يَزعُمون باعتماد الموثوق من أبحاث الرّاسخين في هذا المجال أو بابتكار غير المسبوق من إنتاجه الذي يُريدون احتكار سُوقه؟! ألَا إنّ سطوةَ الجهل على نُفوس الأدعياء لا تَترُك لها فُسحةً إلّا في السَّفَه تعالُما وَقِحًا وتكالُبا مبسوطا. والحال أنّ من عَدِم الفقه في اللُّغة والفكر لا يَبْقَى له سوى حبل السَّفَه ليَجُرّ لسانَه من خَلْفه إرسالا للكلام دون قيد أو شرط، فَتَراهُ لا يَتردّد عن تعاطي التّسْفيه تشغيبا وتشنيعا. وكما ظلّ "الفيلسوفُ" يُميِّز نفسَه عن "الصُّوفسطائيّ"، فإنّ "الفقيهَ" في لَطافةِ علمه وسُمُوّ عمله لا يُدانيه "السّفيه" في سخافاته الجهلاء وتضليلاته العَشْواء. وإذَا لم تَجدْ سبيلا يَعْرُج بك إلى مَكارم التّفكير تفقُّها حِكْميّا ويَنتقل بلسانك بين مَراتب التّعبير نَظْما مُحْكَمًا، فﭑقْعُد في نَعْماء الهَذْر، فإنّك أنت الطّاعم كسلا والكاسي جهلا!