حليمة.. اسمي حليمة.. 12 سنة... قالوا عني، ويقولون: كفيفة!.. عمياء.. "بْصِيرة"... نعم: الكفيف "بْصِيرْ" عندهم.. لأن العَمَى عندهم عيب.. العمى عندهم نقص. إنهم يَرْبِتُون بهذه الكلمة على نفوسنا المُتْعَبَة من همساتهم.. من غمزاتهم التي نحسها ولا نراها.. يقولونها، ربما تَيَمُّناً بتلك الحاجة الدفينة في نفوسنا.. تلك الحاجة التي تُلِحُّ علينا، فتخنقنا.. وتتعبنا.. وتؤْرِق جفوننا.. نعم أنا "بصيرة" .. بصيرة حقيقة لا ادعاء، ولا كذبا. العُميان كُثُر.. ليس الأعمى من فقد حبيبتيْهِ كحالي. ولكن الأعمى من فقد دفء الحياة، وحِسَّ الإنسانية، وجمال القول والفعل.. يل الأعمى من عمي عن رؤية الخير، وزاغت عينه عن الظلم، وغُض طرفه عن الحق !!. منذ خرجت إلى هذا الوجود، وأنا في ظلام دامس، أتخبط في دنياكم أيها المبصرون. لا أرى شيئا مما ترون. لكن ربي عوَّضَني عن فقدي بالكثير مما لا تحسون.. عوضني بقلب مليء بالحب، ووجدان غامر بالخير. خرجت إلى الوجود بعينين جميلتين، أبهرتا كل من رآهما.. فكانت أمي تخبئني عن الناس ونظراتهم، خوفا عليَّ من العيون الحاسدة .. لكن ما لبثَتْ أنِ اكتشفتِ الحقيقة المُرَّة.. نعم، الحقيقة المرة. لقد اكتشفت، بعد أن مرَّرت يدها عشرات المرات أمام عيني.. وأنا لا زلت رضيعة أتعثر في حضنها.. أن رموشي متصلبةٌ .. لا حركة، ولا تفاعل.. أخذت أمي تصرخ بكل ما أوتيت من نَفَسٍ: حليمة عمياء..حليمة عمياء...آهٍ، آهٍ !.. صغيرتي عمياء، صغيرتي لا ترى شيئا .. ما هذا ياربي ! يا سيدي ! يا مولاي! . أهذه العيون الخضراء الجميلة بدون نور؟؟ !!..لا، لا، لا؟ !!. أنين وحزن سيحولان البيت إلى مأتم لا ينتهي.. ! حاولتْ أن تُطَبِّبني، ولا جدوى. حاولت أن تُرْقِيني، ولا جدوى. أبي يبكي في صمت..ملامحه تائهة، صوته لا يكاد يُسمع. في غمرات الليل البهيم؛ تغادر أمي الغرفة، بعد أن تتأكد من نومي، لتختلي بنفسها في ركن من البيت، وتطلق عَبَرَاتها في صمت. أصبح الاِعتناء بي كبيرا. والحديثُ عني على كل لسان..حليمةُ الجميلةُ الرائعة البشوشة .. عمياء ! مرحلة من عمري لم أشهدها لأنني بكل بساطة كنت في أحضان المهد.. كنت لا أميز شيئا، ولا عِلْم لي بشيء. مرت السنوات.. ثقيلة، ثقيلة على أبوايَ، ثم عليَّ لاحقا، بعد أن بدأت أفْقَه معنى الحياة.. أتحسَّس ما حَوَالَيَّ..أفهم معنى أن تكون أعمىً لبقية عمرك وسط مبصرين، أغلبهم لا يكثرت بوجودك، فضلا أن يتألم لك. خلا الوالدين، أدام الله في عمرهما.. لا حنان، ولا عطف، إلا حملات لإعلامٍ يسترقها لمناسبات نكون نحن، ذوي الاحتياجات الخاصة، موضوعا لها.. !! الخبر اليقين يأتي بعد بِضع سنين من المحاولات الفاشلة.. لا أمل في الشفاء !.. لا أمل في الشفاء !.. كالصاعقة ينزل على والدي، ويَهُدُّ حماسهما، ويُطفئ ما بقي من جِذْوَة الأمل في قلوبهما. الحل الآن، أن أقبل بوضعي كما هو، وأن أحاول الاِندماج بعاهتي في وسط لا يَرْحم. حاول والدِي أن يحقق لي شيئا مما حُرمت منه، فوفر لي كل شيء.. أدخلني إلى مركز المكفوفين، وكان يرافقني كل صباح وكل مساء.. وأنا في عالمي الْجُوَاني أنظرُ من عَلُ إلى العالم من حولي، ومئات الأسئلة الوجوديَّة تَرِدُ عليَّ.. لماذا أنا؟. كيف أخطأ القدر غيري وأصابني؟. هل لخلقي معنىً؟ أم أنا سقطةُ شرودٍ في قافلة حياة تمر ولا تبالي؟.. ثم أسترجع الأفكار، وأرتب القناعات.. وأهتدي إلى ربي، واستغفره أن زاغت بي الظنون، والوساوس،.. ثم أٌقول: الحمد لله !. ربما في ذلك حكمة من الله تعالى " عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" . فالبصر نعمة واحدة من ملايين النعم التي أنعم الله بها على خلقه. فإن كنتُ قد فقدتها، فغيري من المبصرين قد فقد غيرها. بل منهم، بالأعين، لا يبصرون. فالكمال ميزة لا تُنال.. إنه هناك وليس هنا.. ! لطالما حدثني والدي عن أساطينَ علميةٍ، وقاماتٍ فكرية، قدمت للعالم الكثير بعيون منطفئة.. حدثني عن حسان بن ثابت الصحابي الشاعر الذي دَبَّ عن الرسول (ص) وعن الدين..وحدثني عن هوميروس الشاعر الإغريقي الظاهرة .. وعن أبي العلاء المَعَرِّي الأديبِ والشاعر العربي.. وعن طه حسين الأديب المصري .. وعن هيلين كيلير الأديبة الأمريكية الكفيفة الصماء.. وعن جون ميلتون العالم الأمريكي المشهور.. وعن سيد مكاوي الموسيقي المصري.. وعن لويس برايل مخترع كتابة المكفوفين.. حدثني وحدثني. كان يحدثني وفي داخلي أمل أن يكون لي شأن في الوطن..بل في العالم. نعم..في العالم !... فمنذ الآن وهنا.. نعم ، منذ الآن وهنا.. لن يرف لي جفن حتى أسجل لاسمي ..حليمة.. مكانا وسط الكبار.. !! دمتم على وطن.. !! (*) مساهمة كتبناها لإحدى البرعومات المتألقات لتشارك بها في مسابقة "فن الخطابة" حول تيمة "الإعاقة"..