الكاتب الموريتاني و التحديات التي تواجهه هو الموضوع الذي سوف أحاول التعرض له بشكل مقتضب في إطار هذه الورقة. و قد تبدى لي أن أقارب هذا الموضوع من خلال: 1- إماءة سريعة إلى ماهية الكتابة و بواعثها و مراميها 2- إلقاء بعض الإضاءات على عملية الكتابة ذاتها و العوامل المحفزة عليها ضمن المجتمع الموريتاني التقليدي 3- التعرض بإيجاز إلى أوضاع الكتاب الموريتانيين و الإكراهات و الضواغط التي يعانون منها في السياق الوطني الحالي و انعكاسات ذلك على الكتابة كأهم نشاط يستهدف إنتاج المعرفة و تنمية التراث و بلورة الفكر و تطوير العلوم و الفنون بمختلف أنواعها و أبعادها 4- العراقيل و التحديات التي تواجه الكتاب الموريتانيين و تعيق إقبالهم على الكتابة و تفرغهم لها ضمن السياق الاقتصادي و السوسيوثقافي السائد حاليا و في ظل الذهنية و المسلكيات و المنظومة القيمية التي افرزها هذا السياق 5- السبل الكفيلة بتخطي هذه العقبات و رفع تلك التحديات 6- الرهانات التي من شأن الكتابة كوسيلة لإنتاج المعارف و تنمية التراث أن تساعد على كسبها و رسملتها للنهوض بأوضاع البلاد على كافة الصعد. المبحث الأول: ماهية الكتابة و بواعثها يمكن تعريف عملية الكتابة بأنها نشاط ذهني و ممارسة فكرية تتمثل في تسجيل دقيق و تدوين ممنهج يقوم به بعض الرجال و النساء لثمرة تجاربهم و حصيلة مداركهم و خلاصات تأملاتهم و زبدة الاستنتاجات والآراء و الأفكار و الاعتقادات و الرؤى التي تتكون لديهم تبعا لما قد ألموا به من معارف و ما قد اطلعوا عليه من علوم و فنون و ممارسات و أداءات مختلفة. و عملية الكتابة لا يمكن أن تكون عبثية لا ترمي إلى بلوغ غاية أو تحقيق هدف، بل هي عمل هادف يرمي إلى الوصول إلى غرض محدد سلفا. فالكاتب يتوخى جدوائية و مرد ودية مادية أو معنوية أو روحية من وراء عمله. المبحث الثاني : الكتابة في المجتمع الموريتاني التقليدي ، دوافعها و أغراضها و الصعوبات التي كانت تواجهها. كان المجتمع الموريتاني التقليدي في غالبيته العظمى مجتمعا بدويا يتسم نمط حياته بالترحال و الإنتجاع و انعدام الأمن و شح الموارد مع ما ينجم عن ذلك من عدم الإستقرار و غياب الطمأنينة. كما أن محيطه الجغرافي كان عامل عزلة يحد من تواصله بالبلدان المجاورة له في الشمال و في الجنوب. و بالنتيجة كان الحصول على الكتب صعبا و التوفر على وسائل الكتابة من ورق و حبر و أقلام ووسائل الحبك و الطباعة محدودا ، كما أن الظروف المعيشية و المناخية الملائمة للكتابة لم تكن متوفرة على الوجه المطلوب. ورغم هذه العوائق و الإكراهات، كان هناك إقبال على التعلم و نزوع إلى اكتساب المعرفة و اهتمام بالعلوم و الثقافة، و كان هناك العديد من الرجال و النساء اهتموا بالكتابة و التدوين و التأليف. و ما كان ذلك ليكون لولى أنه كانت لديهم دوافع و حوافز تجعلهم يتحملون ما تستلزمه عملية الكتابة من نصب و مشقة و معاناة. فما هي المحفزات التي كانت تدفع المؤلفين الموريتانيين حين ذاك إلى الكتابة ؟ أعتقد أن ماكان يدفع المؤلفين الموريتانيين الى تجشم عناء الكتابة يتمثل أساسا في : أ- البحث عن الأجر و الثواب المأمولين من وراء تفقيه الناس في شؤون دينهم ووعظهم و إرشادهم و إفتائهم في ما يعرض لهم من نوازل و ما يتوقون إلى معرفته من الأحكام الشرعية المنظمة لمختلف جوانب حياتهم وذلك انطلاقا من الاعتقاد بحرمة كتم المعرفة وفقا للقول المأثور " من كتم علما علمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة" ب- نشر الرأي المتصل بالمذهب و الطريقة الصوفية التي يعتمدها الفقهاء بغية تسويغها و الترويج لها من خلال تدوين المساجلات و المناظرات و المحاججات. ج - التوق إلى الشهرة و احتلال المكانة السامقة وصولا إلى استقطاب الكثير من التلاميذ و المريدين خدمة للدين و المذهب و ربما للطريقة الصوفية المعتمدة. د – الحظوة عند أولي الأمر و صناع القرار محليا و جهويا ( الأمراء الحليين و ملوك البلدان المجاورة). ه – الاستجابة لرغبة ذاتية جامحة للبوح و التعبير عما يختلج في النفس من أفكار و أحاسيس يشعر الكاتب بدافع قوي إلى تقاسمها مع الغير و جعلها في متناول جميع الناس. المبحث الثالث: الكتاب و الكتابة في السياق الموريتاني الحالي يواجه الكتاب و ما يتوخون القيام به من كتابة ضمن السياق الموريتاني القائم اليوم العديد من العراقيل و الإكراهات و التحديات، من شأنها أن تحد من تطور الكتابة ومن اتساع نطاقها و أن تضعف الاهتمام بها و الإقبال عليها. وتتمثل هذه التحديات في : ا - الأمية الأبجدية و الحضارية المتفشية في البلاد ب - صعوبة توفر الظروف الملائمة للكتابة نتيجة لنمط الحياة السائد في المجتمع الموريتاني ( تعذر خلو المرْء بنفسه ليتمكن من التأمل و التفكير و الكتابة) ج- قلة دور الطباعة و النشر و التوزيع و ارتفاع كلفة طباعة الكتب د- ضعف المقروئية و ضآلة مردودية الكتب بالنسبة للمؤلفين ه- انعدام المحفزات من أي شكل كانت و- ضعف اهتمام السلطات العمومية بالشأن الثقافي و تهميش الكتاب و المثقفين و عدم العناية بهم. ز- مفعول تتأثير وسائل الاتصال الحديثة كالتلفزيون و الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ( فيس بوك-تويتر-س م س..). و الذي يزيد و يفاقم مفعول هذه العوامل هو قيام مجتمع استهلاكي خاضع للإعلان و الإشهار وواقع تحت سلطة الفضائيات و ما تقدمه من مسلسلات خرقاء و برامج سمجة تنزع إلى السطحية و الابتذال و تهدف أساسا إلى الترفيه الساذج و التسلية و الفرجة أكثر منها إلى التوعية و التثقيف و التوجيه و بلورة الفكر النقدي المتبصر. و لا شك أن ما يزيد الطين بلة هو الضعف المريع لمستوى التعليم في البلاد و ما قد انجر عن ذلك من غياب البحث العلمي و انعدام الإبداع الفني و الابتكار العلمي و الاختراعات التكنولوجية. و الشيء الذي يدعو إلى الحسرة و التأسف هو غياب الوعي عند صناع القرار بالخطورة البالغة لهذه الأوضاع على مستقبل البلاد و على وتيرة انزياحها نحو التقدم و الإرتقاء و التحضر. المبحث الرابع : سبل مواجهة هذه التحديات إن أول إجراء ينبغي القيام به من أجل تحضير الأرضية المواتية للكتابة و خلق المناخ الملائم لبروز الكتاب و تنمية مواهبهم و قدراتهم هو إصلاح المنظومة التربوية الوطنية و تعزيز البحث العلمي.كما أنه ينبغي أن تولي السلطات العمومية العناية القصوى للشأن الثقافي من خلال الاهتمام بالكتاب و تحفيزهم ماديا و تشجيعهم معنويا و تكريمهم و الرفع من شأنهم اجتماعيا. و يتوجب كذلك على هذه السلطات أن تسهل على الكتاب طبع و نشر و توزيع مؤلفاتهم و أن تجعل الكتابة و إنتاج المعارف و العلوم و الفنون نشاطا مربحا و مجديا و مثمنا و مقدرا حتى تستنهض همم أصحاب المواهب و ذوي الكفاءات و المبدعين في كل مجال من مجالات المعرفة، و ذلك سعيا إلى جعل التألق الذهني و التميز الفكري و التفرد الفني هي انجع السبل إلى إحراز النجاح و نيل التقديرو الحظوة في المجتمع. و على السلطات المختصة في البلاد أن تقوم بدعم و مآزرة المكتبات و إنشاء دور للقراءة على امتداد التراب الوطني و مواكبة نشاطاتها.كما أن عليها تشجيع و دعم إقامة معارض للكتب الموريتانية مما سوف يحفز المؤلفين الموريتانيين على بذل المزيد من الجهود في مجال الكتابة و التأليف. ولا ريب أن صرف الجوائز للمؤلفات المتميزة في مختلف المجالات من شأنه هو الآخر أن يعطي دفعة كبيرة للكتابة و حركة التأليف في البلاد. المبحث الخامس: الرهانت التي يجب كسبها إن الكتابة كوسيلة لإنتاج المعرفة و بلورة الثقافة و تنمية التراث الوطني هي عا مل من عوامل التنمية الاقتصادية و النهوض الاجتماعي و الارتقاء الفكري، ذلك أن الثقافة هي رافعة اقتصادية بالغة الأهمية و تشكل بصفتها تلك أحد أهم عناصر الثروة الوطنية. ففي القرن الواحد و العشرين لم تعد موارد البلدان و مصادر ثرائها تتمثل بالدرجة الأولى في ثرواتها الطبيعية و المعدنية و الحيوانية، بل فيما تتوفر عليه من معارف و خبرات و كفاءات و تقنيات. فالإقتصادات الرائدة اليوم هي اقتصادات المعرفة و المجتمعات المتفوقة هي مجتمعات المعرفة، كما أن الرساميل المثرية والمنافسة و المسيطرة هي الراساميل البشرية العالية التأهيل. و من هذا المنطلق فإن الجهود التي يجب بذلها من أجل مسايرة اشتراطات العولمة و مواكبة متطلبات الحداثة و اللحاق بالأمم المتقدمة و من أجل كسب الرهانات المفضية إلى النهوض و التقدم فإنه يتوجب التخلص من الأمية بكل أشكالها و ردم هوة الرقمنة و اعتماد تقنيات الإعلام و التواصل المتطورة و إقامة مجتمع المعرفة. ولا مراء في أن الطريق إلى هذه الأهداف أللإستراتيجية تمر حتما بتعزيز و تثمين الكتابة و دعم و مؤازرة الكتاب و تكريمهم و الرفع من شأنهم بصفتهم رأس مال وطني ثمين تحتاجه البلاد للنهوض الاجتماعي والنماء الاقتصادي و التطور التقني و العلمي و الارتقاء الفكري و الرقي الحضاري.