ترسل لكَ عبر الرياح أشواقها آناء الليل وأطراف النهار. وهل ثمة ما هو أفضل، وأجمل، من الرياح لتبليغ الأشواق؟ تصلك أشواقها أنّى كنت، وأنّى ذهبت. ترصدك، وتترصّدك لك، إلى أن تلقي عليك القبض هاربا. تلاحقك من فورها، وتلحقك، دون أن تخطأ في هويتك، أو تتيه في طريقها إليك. بيد أن عادتك السيئة جدا تدفعك إلى أن تتجاهل، وتتجلّد، وتحاول أن تبدو كأن شعرة لم تهتزّ في مفرقك. وبقدر ما يزيد عنادك بقدر ما يزيد إصرارها. سلطتها تكمن في أنها تعرف أنك لا تستطيع أن تقاوم طويلا، والشوق يهزمك سريعا، فتُلقي ما في يدك كاملا، وتهرع إلى نفض الغبار عن حقائبك. تلك هي مدينة الصويرة. اسمها القديم موكادور من ميكدور، التي تعني، في اللغة الفنيقية، "الحصن الصغير". ما عاد، اليوم، ذلك الحصن الصغير صغيرا، فقد كبر في الواقع، كما في الوجدان. أضحى الحصن مدينة تسكنها الرياح، يتداخل في معمارها ما هو محلي بما هو أجنبي، وعاشت وتعايشت فيها أديان مختلفة، وحلّت عليها بركة محمد، ويرقد فيها سيدي بلال رقاده الأبدي، وجمالها سرّ لا يتقاسمه اثنان، ودونه ضُرب حجاب، وأُغلق عليه باب. أُحيطت المدينة بأسوار، بها أبواب معلومة وأبراج مراقبة، لجعلها منيعة، وفي مأمن من الأعداء. ويشهد التاريخ على أن المدينة ما كانت منغلقة على نفسها أبدا، وما كانت مجال صدّ وردّ فقط، وإنما ظلت نقطة اتصال بين الداخل والخارج، بين البرّاني والجوّاني. تسوء الأوضاع، بين مد وجزر، بين أطماع ودفاع، بين تحارب وتجاذب، فتنغلق ثم تعود سريعا إلى الانفتاح. لا طاقة لمدينة على أن تغلق أبوابها أمام البحر طويلا. قبالة البحر تنتصب المدافع، لكن البحر مهيب ولا يهاب المدافع. يقضي نهاره يرنو إلى مدينته الحسناء يغمر جسدها بمياهه. تعدّ لنفسك كأسا من الشاي. عندما يصير جاهزا ترتشفه ارتشافا، ثم تجلس تتأمل وريقات رقدت في قعر الكأس كما لترتاح من سفر طويل. تنظر إليها، ثم تعيد النظر، فتجد نفسك، هكذا فجأة، في مدينة الصويرة. فعن طريق ميناءها عبَر الشاي، كلمة ومواعين وثقافة، من قارة إلى قارة عبر قارة ثالثة، من الشرق إلى الشمال ثم إلى الجنوب، من أسيا إلى أوربا ومنها إلى الصحراء. من ميناء المدينة انطلقت القوافل تجوب الصحراء لتحط الرحال في مدن صحراوية كثيرة واسطة عقدها تومبكتو. لا شك اليوم في أن الكثير من العادات والتقاليد قد تغيرت بشكل كبير في المجتمع الصحراوي التقليدي، إلى حد يمكن معه القول إنه في طور النهاية، لكن الشاي ظل محافظا على قوة حضوره، وحافظت طقوسه على جماليتها. من الواضح أن الصحراء مدينةٌ للصويرة بالشيء الكثير. تغمض عينيك، وتسمع اصطداما بعيدا بين الحديد والحديد. حروب غير متكافئة كثيرة جرت ربحها الرابحون وخسرها الخاسرون. تم اقتياد الخاسرين من السودان بمعناها القديم، بعيدا، وكان الوطن، في غفلة من الجميع، محمولا في دمهم، وقد ظل على الدوام ساخنا، وحارّا، ومؤججا، وينتقل من جيل إلى جيل. تراهم اليوم يستعيدون التاريخ، يسدّدون دينا رمزيا للذين قضوا نحبهم، ويذكرون من ينتظر، يرسمون بأجسادهم لوحات عن حياة ظل هؤلاء يحلمون بها عبثا. تراهم يتقافزون إلى الأعلى، إلى السماء، يحتفون بمتعة التحرّر والانعتاق، يميلون بنشاط، إلى هذا الجانب أو ذاك، ضد السلاسل والقيود، وتسمع أرجلهم تردّد نشيد الأرض الأبدي دون وجل. صوت القراقب يتعالى، ويتوالى دق الطبول، وتتلوى أوتار الكمبري نشوة. يأخذك كل ذلك من نفسك، فتجد نفسك منخرطا في طقس شعائري مقدّس. انخراطك في حمى الرقص يكشف القناع عن ذاك الفنان المجنون الذي لا تعرف هل تسكنه أم يسكنك. في القديم، كان الإغريق يقولون إن الشخص غير المتعلم شخص لا يعرف الرقص. فالرقص هو علامة الإنسان المتعلم الفارقة. ورقصك شطحات ترتدي فيها الروح عباءة الجسد، ويصير الجسد روحانيا، وبوابة يصير عبرها غير العياني عيانيا، وغير الملموس ملموسا. في النهاية، كما في البداية، لا يمكنني الصويرة إلا أن ألبي نداء الأشواق. أنا قادم، ولا يمكنني إلا أن آتي. ولأن الأذن تعشق قبل العين أحيانا، فإن معي، هذه المرة، منْ أحبكِ بهذه الطريقة ويتحرّق شوقا إليكِ. أربط فيك ماضيا بعيدا، منذ اللقاء الأول قبل أن أكون وأن أصير ما أنا عليه من لوعة، بحاضر جميل ومديد. افتح يا باب البحر أبوابك، فما عاد بوسع الانتظار أن ينتظر أكثر.