"اعتماد اللغة الأم في التعليم الأولي وفي السنوات الأولى من التعليم الابتدائي، كلغة للتعليم ولاكتساب المعرفة الأساسية." "من الضروري استقبال الأطفال في المدرسة الأولية بلغتهم الأم. ينبغي أن يتمكن كل طفل من لغته الأم قبل تعلم لغة ثانية بغية تفادي أي قطيعة لغوية مبكرة. على مدرسة التعليم الأولي أن تكون موجهة أكثر لتعليم المهارات المشتركة كالقراءة والكتابة والحساب، حيث لا ينبغي أن يعاني الطفل من الحاجز اللغوي في " تعلم الحياة" هذه بعض توصيات الندوة الدولية حول التعليم "سبيل النجاح"، التي عُقدت في الدارالبيضاء يومي 4 و 5أكتوبر الماضي، والتي أثارت ردود فعل متباينة، شجبت معظمها هذا التوجه وعَدَّتْهُ استهدافا للغة العربية لتمكين الفرونكفونية من التغلغل في دواليب المؤسسات التعليمية والمجتمع المغربي، بعد إضعاف اللغة الرسمية للبلاد. القراءة الأولية لهذه التوصيات تحيلنا على بعض المحددات الأساسية التي تؤطر رؤية الإصلاح وفق منظور المشاركين في الندوة، وهي: - تمكين الأطفال من لغتهم الأم قبل تعلم لغة ثانية لتفادي القطيعة اللغوية المبكرة و المعاناة من الحاجز اللغوي في "تعلم الحياة". - اعتماد اللغة الأم كلغة للتدريس وحصر هذا التوجه في التعليم الأولي والسنوات الأولى من التعليم الابتدائي. - تركيز مدرسة التعليم الأولي على تعلم المهارات المشتركة كالقراءة والكتابة والحساب. لابد في البدء، الإقرار ببعض الإشكالات المرتبطة بلغات التدريس وتدريس اللغات وخاصة العربية، وعلى رأسها ضعف التحصيل اللغوي في المعارف الأساسية بالمدرسة المغربية ومنها اللغة العربية، وهو ما تؤكده الاختبارات الدولية والوطنية، إذ تمركز المغرب في الرتبة ما قبل الأخيرة سنة 2011 متبوعا باليمن التي تذيلت قائمة الترتيب، في اختبار الدراسة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي "Pirls" التي تهدف قياس مكتسبات التلاميذ في مجال القراءة؛ كما أن نتائج اختبارات البرنامج الوطني لتقويم التعلمات في اللغات لسنة 2008، عكست عدم التحكم في المهارات اللغوية حيث تمكن تلاميذ السنة الرابعة ابتدائي من ربع الأهداف التعليمية المحددة لهذا المستوى الدراسي فقط، بما يمثل نسبة 27% مقابل نسبة 39% مسجلة في السنة السادسة ابتدائي؛ كما ساهم الاعتماد شبه الكلي لدى العديد من المدرسين والمدرسات وفي مختلف الأسلاك الدراسية على العامية المغربية في تدريس المواد بما في ذلك مواد اللغة العربية واللغات الأجنبية ذاتها، في محاصرة اللغة العربية، بمبرر الهروب من قيود الفصحى وقوانين النحو، رغم أن أسرة التعليم مصنفة ضمن فئة المثقفين التي يجدر بها إجادة لغة بلدهم الرسمية، وتكريسها في المؤسسات التربوية، والمحيط الاجتماعي. إن التصور الذي اقترحته هذه الندوة لتجاوز اختلالات المدرسة المغربية يضعنا أمام تحديات معرفية، وديدكتيكية، ومنها: - إذا كان الحسم في كون اللغة العربية لغة ثانية بالنسبة للأطفال الناطقين بالأمازيغية فإنه لا يمكن الحسم في كونها كذلك بالنسبة للأطفال الذين يتحدثون العامية المغربية، نظرا لشدة التداخل بينهما إلى درجة أن نسبة الالتقاء بينهما في المجال المعجمي قد يصل إلى 81% حسب بعض الدراسات اللسانية، بل هناك من اعتبر العامية المغربية مشتقة من الفصحى عكس ما ذهب إليه محمد شفيق (1994) إلى كونها مشتقة من الأمازيغية. وعليه، فإنه من الأولى مقاربة الموضوع من زاوية الازدواجية اللغوية باعتبارها ظاهرة طبيعية موجودة في جميع اللغات ومنها العربية، وهي تعني وجود مستويين: مستوى اللغة الفصحى، ومستوى العامية أو اللهجات المحلية، حيث يكون التباين في بعض المظاهر الصوتية والمعجمية والأسلوبية.. - لو سايرنا جدلا الطرح الذي تتبناه الندوة بالتلميح إلى العامية "اللغة المغربية" لغة أم، فإننا سنجد أنفسنا أمام إكراهات متعددة منها أننا أمام عاميات مغربية مترامية، لا يمكن توحيدها أو تغليب بعضها عن بعض، علاوة على تميزها باللااستقرار على مستوى الأصوات ودلالات المفردات لكونها محكومة بظرف الزمان والمكان والتفاوتات الاجتماعية، كما أنها تفتقر إلى نظام كتابي خاص بها، ما يجعلها عاجزة عن تنمية المهارة الكتابية التي تعتبر من أولويات المؤسسة التعليمية، وعليه لا يمكننا تصنيف العامية لغة حية وإن اتسمت بأنها لغة حياة. - لنفرض جدلا أننا تبنينا اللغة الأم "اللغة المغربية" كلغة للتعليم ولاكتساب المعرفة الأساسية، في التعليم الأولي، وفي السنوات الأولى ابتدائي، فبأي لغة سندرس هذه المعارف في بقية السنوات، وما هي الآثار المترتبة عن التحول من العامية إلى اللغة العربية الفصحى كلغة للتدريس؟ إننا حتما سنكون أمام مغامرة غير محسوبة النتائج خاصة بعد استحواذ العامية على كل الفصول الدراسية، والتضييق على مجالات اللغة العربية. إن اقتراح إحلال العامية مكان العربية الفصحى في المستويات الأولى من التعليم المدرسي، سيدخلنا في دوامة من النقاش المفتوح والعقيم حول سباق الأولوية والأجدرية بين العاميات والفصحى، مع أن تناول الموضوع كان من الأولى أن يحمل طابعا توصيفيا لواقع حال لغات التدريس بالمغرب، والذي يتميز بثنائية التوسل إلى العامية في معظم المواد وخاصة أثناء الشرح وبناء المفاهيم، والعودة إلى اللغة العربية الفصحى عند الإنجازات الكتابية والتقويمات، ومن تم نجد أنفسنا أمام خيارين اثنين على المسؤولين على القطاع التربوي الحسم فيهما بين الاعتراف بهذه الظاهرة وتكريس وجودها بالتخلي الفعلي عن العربية الفصحى، وهو أمر صعب المنال لموانع عديدة متداخلة الأبعاد بين ما هو تشريعي وهوياتي ولساني وأنتربولوجي...، أو وضع حد لهذه الحالة الشاذة، بالتفكير في آليات بيداغوجية لإعادة الاعتبار للفصحى كلغة لتعلم العلوم والمعارف بمختلف أصنافها ومستوياتها. لعل المسار البيداغوجي الأنسب لتجاوز هذا الإشكال وخاصة عند بداية ولوج الأطفال المؤسسات التعليمية، يقتضي منا نهج مقاربات بيداغوجيات تستثمر الرصيد المعرفي الذي يمتلكه المتعلم(ة) قبل ولوجه المدرسة والذي استقاه من محيطه الاجتماعي، واستثماره في بناء معارف جديدة واكتساب كفايات تساعده على الاندماج الاجتماعي وتحقق حاجته إلى الانتماء الحضاري والهوياتي، ومنه، فعلى مؤسسات التعليم الأولي والابتدائي، أن تربط الصلة بين المعرفة الاجتماعية والمعرفة المدرسية، من خلال الاستعانة بالرصيد المعجمي الذي يوظفه المتعلم(ة) في محيطه التواصلي والانطلاق منه في وضعيات سياقية لإكسابه اللغة العربية الفصحى، وذلك عن طريق تشجيعه على التعبير الشفهي عن المواقف الحياتية متوسلا بالعامية، والعمل على تفصيح هذا الرصيد تدريجيا إلى أن يتم امتلاك مهارات اللغة العربية الاستقبالية منها والإنتاجية عبر مختلف السنوات الدراسية، والسعي بعدها إلى تعلم لغات أخرى، وهو ما يجعلنا نساير التطور الطبيعي لامتلاك اللغات، عكس ما تفعله بعض المؤسسات الخصوصية التي اعتبرت الفرنسية لغة أم بالنسبة للأطفال المغاربة الذين يلجونها، واعتمدتها لغة أساس في التدريس والتخاطب منذ مرحلة الروضة، وهو ما كان للندوة أن تثير عواقبه قبل فتح إشكالية التعليم بين العربية الفصحى والعامية. (*) باحث تربوي