خرج الداعية الإسلامي الشيخ محمد الفزازي بانطباعات كثيرة لدى زيارته الأخيرة إلى بعض مناطق الصحراء، لعل أبرزها ما سجله من "تطور عمراني هائل شمل المدن الصحراوية وقراها، جعلها تتحول من التخلف والتهميش إلى مدن عصرية وحديثة". وأورد الفزازي، في مقال خص به هسبريس، أن الصحراء تشهد وفق ما عاينه أجواء من الأمن والأمان الذي يسود مناطقها، فضلا عن ظروف العيش الكريم الذي تحظى به ساكنتها"، ملاحظا أن مواطني المناطق الصحراوية يُجمعون على الوحدة الترابية للبلاد". وفيما يلي نص مقال محمد الفزازي كما توصلت به هسبريس: الصحراء المغربية كما رأيتها بسم الله الرحمن الرحيم وأخيرا... وبعد شوق دام أزيد من ثمانية وثلاثين عاما حظيت بزيارة الربوع المغربية الجنوبية ما بين بلدة الطاح حيث الحدود الوهمية الاستعمارية التي كانت تفصل المغرب عن صحرائه ومدينة الداخلة الساحرة. غير أني أحب أن أعرب عن أسفي الشديد على عدم زيارة كل من السمارة ولكويرة لضيق الوقت. من أكادير انطلقت صحبة زوجتي الفلسطينية وابنتنا الصغيرة إلى الداخلة عبر مراحل - ما قبل أكادير من محطات مثل مراكشوالرباط لا أريد ذكره فهو مألوف ومعروف ... - انتهت المرحلة الأولى بالمبيت في مدينة طان طان مرورا بتزنيت وكلميم. المرحلة الثانية من طان طان إلى العيون مرورا بطرفاية. قضيت في العيون يومين اثنين، ثم انطلقت إلى الداخلة مرورا ببوجدور في مرحلة ثالثة. مدة الإقامة في الداخلة كانت يومين كذلك. ثم العودة إلى طنجة عبر الساحل المغربي الأطلسي الساحر والذي يبلغ طوله حوالي ألفي كيلومتر، دون احتساب الجزء ما بين الداخلة ولكويرة وطوله حوالي 450 كيلومترا. الانطباع الأول من هذه الزيارة يتمثل في اندهاشي الكبير للتطور العمراني الهائل الذي شمل المدن الصحراوية وقراها. مجهودات جبارة بُذلت لتتحول هذه المدن التي كانت عبارة عن قرى غارقة في التخلف والنسيان من قبل الاستعمار الإسباني الغاشم، إلى مدن عصرية بكل معاني الكلمة، لا تفتقر إلى شيء مما هو موجود في شمال المملكة. طرق وجسور ومرافق وملاعب وساحات خضراء... نعم خضراء... ومؤسسات على اختلاف أنواعها... من مدارس ومستشفيات وإدارات وفنادق وأسواق... إلخ. قال لي أحد سكان بوجدور، عند استرجاع الصحراء سنة 1975 كانت المدينة عبارة عن قرية يخيم عليها الفقر والتخلف والحاجة إلى كل شيء. الكهرباء مثلا كان التزود منه يبدأ في السادسة مساء وينتهي في منتصف الليل. وبعد ذلك ظلام دامس ونهار بدون كهرباء.. اليوم، الناس لا يتحدثون عن الكهرباء والماء الشروب وما إلى ذلك... اليوم الناس يتحدثون فيما يتحدث فيه أهل الرباط والدار البيضاء وفاس وطنجة... يتحدثون في البرامج الحكومية والإصلاح القضائي والتدافع السياسي والتنمية البشرية والاقتصادية والمنافسات الرياضية.. لقد توفرت لدى الصحراويين كل أسباب العيش الكريم، فالمدن الساحلية تتوفر على موانئ عصرية مجهزة بما يلزم من مرافق ذات الصلة. ميناء الداخلة مثلا قمة في الهندسة والمعمار، حيث إن القنطرة العملاقة التي تفصل الميناء عن اليابسة شيء أقل ما يقال فيه بأنه معلمة مميزة ومفخرة وطنية بكل المقاييس. الميناء المجاور لمدينة العيون (المرسى، حوالي 30 كيلومترا) ميناء حقيقي لا يقل أهمية عن ميناء أسفي مثلا... وبالمناسبة أقول لمحبي السمك إن ثمن "الشارغو" و "الدرعي" و "الباجو" يكاد يكون رمزيا... في هذا الميناء.. الانطباع الثاني يتمثل في الأمن. الأمن المفقود في جل الدول العربية مستتب في صحرائنا كما هو مستتب في باقي الأقاليم الوطنية. ولا يعني هذا أن دوريات عسكرية أو بوليسية تجوب المدن والقرى على حد قول من قال (زنقة زنقة) أبدا، ليس هناك أي تمظهر من هذا القبيل... نعم، المراقبة الأمنية صارمة عند مداخل المدن. التدقيق في الهويات وتفحص المركبات وتفتيشها إذا اقتضى الحال ... كل ذلك كائن وواقع. وأستطيع القول بأن أمن صحرائنا بين يدي رجال لا ينامون - دركيين، وشرطة، وقوات مساعدة، وقوات عسكرية - كلهم على أتم استعداد للدفاع عن حوزة الوطن. وأحيانا يتعرضون لأحوال مناخية قاسية، لا سيما حينما تهب الرياح عاتية ومحملة بالرمال.. والأهم من هذا كله أن الساكنة الصحراوية مجمعة أو يكاد على الوحدة الترابية... تجلى لي هذا الأمر أثناء خطبة الجمعة ليوم 15 نونبر بمدينة الداخلة، حيث كان موضوع الخطبة يدور حول عيد الاستقلال. وكان الخطيب كلما دعا للملك بالتوفيق وللبلاد بالحفظ والصون من كيد الأعداء المتربصين إلا وتسمع دويًًّ التأمين (آمين، آمين) من مئات المصلين الذين يملؤون المسجد وساحته الخارجية الفسيحة... دون أدنى اعتراض أو إعراض وفي غياب تام عن كل حراسة أمنية. أي أن الحال طبيعي جدا وعادي جدا. الانطباع الثالث يتمثل في الرواج الاقتصادي والسياحي... فالأسواق متوازنة في جملتها بين العرض والطلب ولا يبدو أنها تشكو من شحٍّ من شيء... وقوافل السائحين بين دخول وخروج وذهاب وإياب. سياح يستمتعون بالمناظر الخلابة والشواطئ المترامية وبدفء الأجواء... ويمارسون هواياتهم الرياضية المتنوعة وينعمون بكرم السكان... والصحراوي مضياف بطبعه.. السياح هنا لا يخشون اختطافا ولا اعتداء ولا نهبا ولا سلبا... إنها صورة أخرى من صور المغرب الآمن والمستقر.. بقي أن أقول إن الإصلاحات لا تزال مستمرة في الأوراش المتعددة والمختلفة التي لا تخطئها العين. فلئن عرفت العيون أو غيرها مظاهرات ووقفات اجتماعية واحتجاجات مطلبية أحيانا. وحتى سياسية وحقوقية... فذلك مما يحسب للمغرب وليس عليه. إنها الحرية، وإنها المشاهد ذاتها التي تظهر في الرباط وغيرها من أرض الوطن... كما تظهر في أي دولة ديمقراطية أخرى... وإن على تفاوت.. أجل، سيقول المرتزقة بأن شهادتي هذه تنظر إلى نصف الكأس العامر وليس إلى نصفه الفارغ... وأقول نعم، فقد صدعتم رؤوسنا بالحديث عن السلبيات ولا شيء إلا السلبيات بحق وباطل.... فأحببت الحديث عن الإيجابيات بحق كما شهدته العين في عين المكان... "وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين". رأيت الصحراء إذن بأم العين، ورجعت إلى حيث منزلي بطنجة الجميلة والساحرة، وفي نفسي حسرة هائلة على إخواننا الجزائريين الذين لا ينتفضون في وجه حكامهم الذين لا يراعون حق جوار، ولا حق دين ولا مصير ولا تاريخ... حكام يعلمون علم اليقين أنهم لن يدخلوا الصحراء المغربية أبدا إلا مسالمين كما يدخلها غيرهم إذا استوفوا شروط الدخول القانونية... دون ذلك رقاب أربعين مليون مغربي. أما الانفصاليون فلا ذكر لهم عندي لأنهم لولا الجزائر لما راحوا ولما جاءوا... والبوليساريو بدون جنرالات الجزائر ليسوا في العير ولا في النفير..