يَتبنّى خُصومُ «اللِّسان العربيّ» خطّةً ماكرةً في تنقُّصه تقوم على إتيانِ استدلال ذي طابع علميّ يَتمثّل في أنّ الأمر لا يَتعلّق فقط ب«لسان معياريّ»، وإنّما أيضا ب«لسان مُصْطنَع» سَوّاه اللُّغويُّون بشكل مُناسب للغرض، ممّا يجعله لسانا مُنْقطعا عن «اللّهجات العاميّة» ومحصورا في التّعليم المدرسيّ والاستعمال الإداريّ-الرَّسميّ. وبالتّالي، فإنّه ليس «لسانا طبيعيّا» يُكتسَب ك«لسانِ أُمٍّ» فيَتكلَّمُه النّاسُ بصفته «لسانَهم الأوّل». تُرى، ما حقيقةُ هذا الاستدلال من النّاحية العلميّة؟ وهل «اللِّسان العربيّ» يَختصّ بكل تلك الصفات الكفيلة، لو صحَّتْ، بجعله لسانا نُخبويّا ومحدودا؟ لا بُدّ، 0بتداءً، من التّنبيه على أنّ أُولئك الخصوم يُمارسون - بوعي أو من دونه- نوعا من «التّضليل المُتعالِم» من حيث إنّهم يَعتمدون بعض النُّتَف والمُختصَرات التي تُتيح لهم تنقُّص «اللِّسان العربيّ» وتبخيسَه بالشكل الذي يَفسح المجال للألسن التي ترتبط بها، في الواقع، مَصالحُهم الماديّة و/أو الرمزيّة. وإنّهم، في حرصم على التّضليل، ليَغْفُلون عن ثلاثةِ أُمور أساسيّة: أوّلُها أنّهم لا يُحقِّقون، بما يكفي، في علاقةِ «اللِّسان المعياريّ» بما يُسمّى «لسانَ الأُمّ» (بمعنى «اللِّسان المنسوب إلى الأُمّ والمُتّصل بها» ؛ وليس «اللِّسان الأُمّ»، بمعنى «اللِّسان الأصل»، كما هو شائع!) ؛ وثانيهما أنّهم يعتمدون مفهوم "اللِّسان" ك«نموذج أمثل» لا يكاد يُوجد إلّا في أذهان بعض "اللِّسانيِّاتيِّين" (أقصد «الباحثين المُتخصِّصين في "اللِّسانيّات"») الذين لم يُصحِّحوا بعدُ نصيبَهم من المعرفة على ضوء المُكتسبات المُستجدّة بالخصوص في "الاجتماعيّات" و"الإنْسيّات" ؛ وثالثُها أنّهم يَنْسَوْن أنّ فصلَهم «اللِّسانَ العربيَّ» عن لهجاته (بل إنكار عُروبتها تماما!) لا يَستقيم إلّا بافتراض أنّه 0ستثناءٌ بين أبرز ألسُن العالَم التي يَظُنّونها قائمةً من دون لهجات (لهجات تكون مُباينةً، بهذا القدر أو ذاك، لكل لسان على حِدَةٍ)، وهو ما يَفضح غرضَهم المُتمثِّل بالتّحديد في جعل «اللِّسان العربيّ» يبدو كأنّه لا يُكتسَب إطلاقا ك«لسان أوّل»! ولعلّ مِمّا يَجدُر الانتباه إليه، بهذا الصدد، أنّ "اللِّسانيّات" لم تَعُدْ علمًا مُهيمنًا على «عُلوم الإنسان» كما كانت إلى حدود السبعينيّات من القرن الماضي، إذْ أنّها «لم يَعُدْ لها لدى أحدٍ دَوْرُ العلم القائد الذي ظُنَّ سابقا أنّه بالإمكان أن يُعطى لها»[1]. ولهذا انتقلت الرِّيادة إلى بعض فُروعها مثل «التّداوُليّات» و«تحليل الخطاب» و«البلاغيّات الحجاجيّة» في انفتاحها على مُختلِف المُكتسبَات في «فلسفة اللُّغة» و«فلسفة الذِّهْن» و«عُلوم التّعرُّف» و، من ثَمّ، «الاجتماعيّات» و«الإنْسيّات» بشكل عامّ. وليس معنى ذلك أبدًا القدح في علميّة "اللِّسانيّات" بإطلاق، وإنّما معناه تأكيد أنّ «الواقع اللُّغويّ» لا يَقبل أن يُختزَل في "اللِّسان" الذي اصطنعه رُوّاد "اللِّسانيّات" موضوعا للدِّراسة العلميّة فأبْعَدوا (ولو مُؤقَّتا) "الكلام" وكل ما يَنتمي إلى «اللِّسانيّات الخارجيّة»[2]. ف"اللِّسان" بوصفه "قِطْعةً" من «الكُتْلة السَديميّة» للواقع اللُّغويّ المُتغيِّر والمُتحرِّك باستمرار لا يَشمل، في تزامُنه الآنيّ، كل التّلوُّنات والتّموُّجات التي يَأتي بها المُتكلِّمون في مُمارَستهم التّواصُليّة والتّخاطُبيّة والتي تجعل "اللُّغة" على ألسنتهم مُستوياتٍ مُتفاوتةً ومُتداخلةً من "التّغالُب" بواسطة "الكلام" في سياقاتٍ شديدةِ التّنوُّع ومَقاماتٍ بالغةِ التّعقُّد[3]. ولأنّ واقع المُمارَسة اللُّغويّة يَتجاوز بكثير ما يُريد له "اللِّسانيّاتيُّون" أن يكون «اللِّسان-المعيار» (أو، أحسن، «اللِّسان-المِثال»)، فإنّ استعمالات الكلام داخل جماعةٍ لُغويّةٍ مُعيَّنة لا تَقبل أن تُوصَف في حدود «لسان معياريّ» يَفرض نفسَه على المُتكلِّمين منذ نشأتهم الأُولى من خلال ما يُسمى «لسانَ الأُمّ» الذي يُتصوَّر مُماثلا أو مُساويًا له. ولعلّ هذا ما يُستشَفُّ من قول "أُندري مارتيني": «كل أمريكيٍّ يَتكلَّم لهجةً ما، لهجةَ بُوسطن أو لهجةَ نيويورك أو لهجةَ شيكاغو أو، إذَا سافر كثيرا، لهجةً هجينةً نوعا ما، من دون أن يَشعُر أبدًا بأنّه يَتكلّم لُغةً أُخرى غير الإنجليزيّة الأمريكيّة بشكل مقبول تماما في كل مَقاماتِ الحياة. ويُذكِّر هذا الوضعُ بما يَحدُث في باريس وفي المَراكز الحَضريّة بفرنسا غير الجنوبيّة حيث هناك تنويعاتٌ كثيرةٌ للفرنسيّة تبدو، على لسان النّاس المُتعلِّمين، مقبولةً إلى حدِّ أنّ ما يُميِّز بعضَها عن بعض يَمُرُّ عموما من دون أن يُدرَك. وعلى نحو تقريبيّ، تُقابِل اللّهجات الأمريكيّة ما يُسمّى الفرنسيّات المَحليّة، وليس إطلاقا العاميّات بفرنسا، ولا أيضا اللّهجات الألمانيّة أو الإيطاليّة، التي هي مُتباينة جدًّا فيما بينها بما لا يُتيح التّفاهُم من ناحيةٍ إلى أُخرى على مستوى التُّراب الوطنيّ.»[4]. والأمر نفسُه كَشَف عنه "وليم لابُوڤ" الذي قام، بالخصوص في دراسته عن «اللُّغة في أحياء السُّود المُهمَّشة»[5]، بتبيان أنّ الأمريكيّ الأسود في الأحياء الشعبيّة المُهمَّشة يَستعمل – بالمُقارَنة مع «الإنجليزيّة المعياريّة» - لُغةً "مُنْكسرةً" (أو، أحسن، "مَكْسُورة" تماما مثل صفة "دارجة" عندنا بمعنى "مُعْوَجّة"!). وبالتالي، فإنّ "لابُوڤ" يُؤكِّد أنّه من السُّخْف أن يُقال بأنّ «اللُّغة الدّارجة» لدى السُّود تُعدّ نظاما لُغويّا مُنفصلا عن نسق "الإنجليزيّة" بصفته نسقا يَشمل في الواقع عدّة "لُغيَّات" (أو لهجات) مُتباينة بهذا القدر أو ذاك. ولذلك، فإنّ ما يَنبغي تبيُّنه هو أنّ موضوع اكتساب اللُّغة يَتجاوز مجال «اللِّسانيّات التّزامُنيّة» ويندرج بالأحرى في مجال يَشمل، إلى جانب «علم النّفس التّعرُّفيّ» و«علم نفس النّمُو اللُّغويّ»، عُلوما مثل "الاجتماعيّات" و"الإنْسيّات". ولهذا، نجد "پيير بُورديو" قد أكّد أنّه «ما دام اللِّسانيّاتيُّون يَجهلون الحدّ المُكوِّن لعِلْمهم، فَلن يكون لهم من خيار آخر سوى أن يَبحثوا يائسين ضمن اللِّسان عمّا هو مُسجَّلٌ في العلاقات الاجتماعيّة حيث يَشتغل، أو أن يُمارسوا علم الاجتماع وَهُم لا يَشعُرون، أيْ مع خطر أن يَكتشفوا في النّحو نفسه ما جَلَبَتْهُ إليه بلا وعي اجتماعيّاتُ اللِّسانيّاتيّ العفويّة.»[6]. وكونُ هُواةِ "التّضليل" بشأن «اللِّسان العربيّ» يَظُنّون أنّ "اللِّسانيّات" – كما يفهمونها- هي العلم المُناسب لتمكينهم من غرضهم لا يَترُك أمامهم أيَّ فُرصةٍ للالتفات إلى كل تلك المُقتضيات التي تُوجب بالغ التّبيُّن في الاعتماد على مُكتسبَات البُحوث "اللِّسانيّاتيّة"، وبالخصوص حينما يَتعلّق الأمر بوقائع التّغيُّر اللُّغويّ والتّفاوُت اللُّغويّ ونزاعات المشروعيّة اللُّغويّة المُتعلِّقة بكل الجماعات اللُّغويّة. وهكذا، فإنّ الحديث عن اكتساب اللُّغة على أساس ما يُسمّى «لسان الأُمّ» يُعَدّ، على أقل تقدير، غير مُناسب. ذلك بأنّ واقع التّداوُل اللُّغويّ يَشهد أنّ "اللِّسان" الذي يَفرض نفسه، عادةً، بصفته «لسانَ الأُمّ» لا يصير كذلك إلّا في المدى الذي يكون لسانًا غالِبا/مُسيطرا على مُستوى المجتمع كُلّه، وهو ما يجعله في بعض المجتمعات «لسانَ الأب» وليس «لسان الأُمّ»[7]. ومن هُنا، فإنّ ما ٱعْتِيد أن يُسمّى «لسان الأُمّ» يَتحدّد في الواقع العمليّ والتّداوُليّ باعتباره «اللِّسان الغالِب/المُسيطر» اجتماعيّا وثقافيّا واقتصاديّا على النّحو الذي يَفرضه ك«لسان أوّل» قد يَحظى بعناية مُؤسَّسيّة ورسميّة تُقيمه ك«لسان معياريّ» (أو «لُغة فُصحى») يَتميّز في مُقابل "العامِّيّات" التي لا تُعدّ دارجةً ومُبتذلةً إلّا في ارتباطها ب«عامّة النّاس» كفئات تَشمل غير المُتعلِّمين وغير المُسيطرين اجتماعيّا وثقافيّا و، من ثّم، المَغْلوبين رمزيّا. إنّ «اللِّسان 0لأوّل»، بما هو كذلك، ليس 0متيازًا إلّا مِن حيث أهميّتُه في تيسير التّنشئة الأُولى والتّمهيد للتنشئة النِّظاميّة التي صارت، في إطار المجتمعات المُعاصرة، مُتعلِّقةً ب"0لمدرسة" حيث يُعادُ إنتاجُه تهذيبًا وتنقيحًا في صُورةِ «لسانٍ معياريٍّ» هو في الواقع، كما يُؤكِّد "بُورديو"، «لُغة مشروعةٌ» تُعبِّر عن 0شتغالِ آلياتِ "0لسيطرة" 0جتماعيًّا وثقافيًّا في 0رتباطها ب«0لعنف الرمزيّ»، أكثر مِمّا تُعبِّر عن «لسان 0لأُمِّ» في أَوّليَّته وعفويَّته المُفترَضتين ؛ بحيث ليس هناك لِسانٌ يُعلَّم في "0لمدرسة" يَستحِقّ أنْ يُسمّى «لسانَ 0لأُمِّ» تمييزًا وتفضيلًا. ولهذا، فإنَّ «لُغةَ 0لأكثريّة» لا تكون أبدًا واحدةً ومُحْتَتِنةً إلّا في المدى الذي تشتغل مُؤسَّساتُ "0لدّولة" (وعلى رأسها "0لمدرسة" و"وسائل 0لإعلام الجماهيريّ") بتنميطِ وترسيخِ «0للِّسان 0لمعياريِّ» بما هو «لُغةٌ مشروعةٌ» يُفترَض فيها أنْ تضمن لأكثريّةِ المُواطنين «كفاءةَ الكلام» المُناسِب واللائق الذي تَتحدَّد بالنِّسبة إليه، ودُونَه، «رَطانةُ 0لْعَوَامّ» الذين قد يكونون بالفعل هُمْ الأكثريّة في بلدٍ لم يُنْجِزْ بعدُ 0لِانقلابَ المُتعلِّق بتعميم «0لتّعليم 0لمدرسيّ» (الذي يرتبط به «التّأْهيل الألفبائيّ»). ف«لُغة الأكثريَّة» تبقى مُتكاثِرةً ومُتبايِنةً في واقع التّداوُل اللُّغويّ على النّحو الذي يَجعلُ الحديث عن لسانٍ بعينه كما لو كان واحدًا ومُحتتِنًا حديثًا يُغْفِلُ أنَّ "0للُّغةَ" لانهائيّةٌ من الفُرُوق والتّغايُرات 0لِاستعماليَّة بفعل التّفاوُت الحاصل في شُروط الوُجود و0لفعل 0لبَشريَّيْن و، أيضا، لكون "0لتّعليم 0لمدرسيّ" هو وحده الذي يُحاوِل تقليلَ وتلْطيفَ تلك الفُرُوق والتّغايُرات من خلال تثبيت وترسيخ «0للِّسان المعياريّ». من البَيِّن، إذًا، أنّ اكتساب (واستعمال) "اللُّغة" في المُجتمعات المعاصرة قد صار، منذ قيام «الدّوْلة-الأُمّة» (أو، أحسن، «الدّولة القُطْريّة»)، مُرتبطا بالسياسة العُموميّة للدّولة، حيث نجد أنّ «اللِّسان المعياريّ» قد أصبح يُعرَض (ويُفرَض) في مُختلِف فضاءات المَجال العُموميّ (وسائل الإعلام والاتِّصال، لوحات الإشارة والعَرْض بالشّارع، دُور الاحتضان الأوَّليّ للأطفال، المدرسة). وبالتالي، فإذَا كانت "اللُّغة" فيما مضى لا تُتداوَل في المجتمع إلّا بقدر ما ترتبط بقبيلةٍ أو مجموعات مُتغلِّبة سياسيّا أو مُسيطرة اجتماعيّا واقتصاديّا وثقافيّا، فإنّ تداوُلها الآن قد اتَّخذ طابع «الإكراه السياسيّ» من خلال تفعيل رَسميّة «اللِّسان المعياريّ» والعمل على ضبطه ونشره على مُستوى كل الجهات الخاضعة لنُفوذ "الدّوْلة". وليس يخفى أنّ وُجود «اللِّسان العربيّ» في وسائل الإعلام والاتِّصال (الإذاعة، التّلْفزة، الانترنت) يجعل تلِّقيَه واكتسابَه من قِبَل الأطفال يَحدُثان فعليّا منذ السنوات الأُولى حيث إنّ مُعظم الصغار يَتشربّون أصوات ومفردات "العربيّة" من خلال مُتابعتهم اليوميّة وإدمانهم على برامج الأطفال كما تَعرضها، منذ عُقود خَلَتْ، القنوات التّلْفزيّة. ولذا، فمن يَقول بأنّ «اللِّسان العربيّ» لا يُكتسَب كلسان أوّل وأنّه ليس له مُتكلِّمون أصْليّون إنّما يَنسى، جهلا أو عَمْدًا، أنّه لسانٌ لم يَسبق قطّ أن تأتّى له أن يُلامس أسماع وأبصار ملايين النّاس منذ الطّفولة الأُولى كما هو حالُه الآن. وبالتالي، فإنّ الاحتجاج بذريعة «لسان الأُمّ» ضدّ «اللِّسان العربيّ» احتجاجٌ باطلٌ علميّا وواقعيّا بحيث لا يُصرّ عليه إلّا من لم يُسْعفه الاستناد إلى شيء آخر لفهم و/أو تفسير واقع التّعدُّد والتّغيُّر اللُّغويَّين والاقتدار، من ثَمّ، على تعليل واقع التّفاوُت والتّغالُب على المُستويين اللُّغويّ والثّقافيّ حتّى داخل نفس الجماعة اللُّغويّة. وإنّ كون الفرد الواحد لا يَملك أن يُوقف تيّارات التّغيُّر والتّبايُن التي تتجاذب أحوالَه في الكلام، وكونَ النّاس عموما لا يشتركون في اللُّغة بالتّساوي التامّ، لأمران يُوجبان الانتباه إلى أنّ اكتساب أيِّ لسان يَخضع لمجموع الشروط المُحدِّدة لوُجود البشر وفعلهم في هذا العالَم، وهي شُروط مُتغيِّرةٌ ومُتفاوتةٌ بالشكل الذي يَقتضي ألّا يكون ثمة نُزُوعٌ فعليّ نحو التّوحُّد أو التّساوي في اكتساب (واستعمال) لسانٍ ما إلّا بقدر ما يُجتهَد جماعيّا وموضوعيّا في ترشيد أنماط التّعامُل مع مُختلِف تلك الشروط الضروريّة. وفي جميع الأحوال، فإنّ كلامَ أيِّ امْرِئ على «اللسان العَربيّ» لا يُؤخَذ به إلّا بِناءً على اجتماع شُروط ثلاثة فيه: أن يكون مُتْقِنًا له ومُتَفَقِّهًا فيه إلى أبعدِ حدٍّ مُمكن ؛ وأن يكون مُلِمًّا بمُختلف مُكتسبَات العُلوم المُعاصرة في تكامُلها ؛ وألّا تكون له مَصلحةٌ مُعلَنةٌ أو مُضمَرةٌ في تنقُّص هذا اللِّسان لترجيح كِفّة غيره عليه. وفقط بهذه الشُّروط يُمكن اعتبار ما يقوله فُلانٌ أو عُلانٌ عن «اللِّسان العربيّ». وعليه، فإنّ التحدِّي قائمٌ بهذا المعنى في وجه كل الذين يَتهجّمون على «اللِّسان العربيّ»، ليس فقط لكيْ يَنهضوا بمُقتضيات البحث العلميّ فيما يُرسلونه من أحكام بشأنه، بل أيضا لكيْ يُثبتوا أنّ العجز المُفترَض في هذا اللِّسان يُعدّ جوهريّا وبنيويّا بما أنّه قد وُفِّرت له موضوعيّا كل شُروط الاكتساب والاستعمال فَلَم يُفْلح في الوفاء بأغراض مُستعملِيه على غرار الألسن المُهيمنة عالميّا (وهيهات أن يَستجيب "المُبطلون" لهذا التحدِّي المُزدوِج!). ومن ثَمّ، ينبغي أن يكون بيِّنا أنّ تكاثُر المُتقولِّين على «اللِّسان العربيّ» ليس دليلا ضدّه، وإنّما هو بالأحرى دليلٌ لصالحه من حيث إنّه لسانٌ يُزعجهم وُجودُه واستمرارُه (على الرَّغم من عَراقته المُتَّصلة بالحاضر على نحو لا يكاد يُضاهيه أيُّ لسان آخر من هذه الجهة!)، وتُغيظُهم حيويّتُه التي لا تُجاريه فيها مُعظَم الألسُن السّائدة عالميّا. وليس هذا إلّا لأنّه لسانٌ لَابَسته "الرُّوح" التي تُنْطِق أصلا الكائنات والتي تَستديم الحياة لبعضها إلى حين. أَلَيْس «اللِّسان العربيُّ» لسانَ الوحي الخاتَم الذي تَكفَّل الحقُّ بحفظه إلى يوم الدِّين؟! فكيف يُراد للِسانٍ هذا شأنُه – على الأقلّ بين المُسلمين- أن يكون مجرد لسان عاديٍّ يُترَكُ لتَفعَل به صُروف الزَّمان وتَعبث به عامّةُ النّاس كما تشاء؟! وأكيدٌ أنّ الذين يُغيظُهم ربطُ «اللِّسان العربيّ» بنصِّ «القُرآن الكريم» و«الحديث الشّريف» لن يزدادوا إلّا صَلفًا في تشبُّثهم بلَوْك ما أَلِفوه من التُّهَم السخيفة والشُّبَه المكرورة، لأنّهم لا يَقُومون إلّا كما يقوم من أُشرب في قلبه أنّ "العقل" و"الوحي" ضدّان وأنّ أيّ مُحاوَلة للجمع بينهما ليست سوى استنجاد بحُجّة السُّلطان لتسويغ ما لا سند له في الواقع الموضوعيّ الذي يَنْفكّ، حسب ظنّهم، عن كل ما هو "غيبيّ" أو "فوقيّ"! ومن كان ذاك حالَه، فإنّه يُطالَب بالبَرْهنة علميّا على أنّ "اللُّغة" في عالَم البشر وضعٌ عقليٌّ محضٌ وأنّ استعمالَها مقطوعٌ تماما عن كل الشُّروط التّداوُليّة في تحديدها لاشتغال «السِّحر الاجتماعيّ» الذي يُولِّد أشكال السيطرة الثقافيّة وما يَرتبط بها من «عُنف رمزيّ» يَتحوَّل من جَرّائه كل ما هو "اعتباطيّ" إلى شيء يبدو بصفات "الطبيعيّ" و"البَديهيّ" (من دون أدنى حاجة إلى أيّ تدخُّل سُلْطويّ). فهل يستجيب "المُبْطلون" فيَأتون – في تحَدٍّ ثالث- ببُرهان بيِّن على أنّ ما يَسعون لفَرْضه عُموميّا من "اللُّغة" بريءٌ تماما من آثار «السِّحر الاجتماعيّ» الذي يَنْسون (أو يَتناسون) أنّه هو وحده الذي يُزيِّن لهم ما تَشتهيه أهواؤُهم فلا يتوانون عن تبريره حتّى يكتسي لباسَ «المصلحة العامة»؟! هوامش: [1] اُنظر: - Oswald Ducrot et Jean-Marie Schaeffer, Nouveau Dictionnaire encyclopédique des sciences des langage, éd. Du Seuil, coll. Points/Essais, Paris, 1995, p. 7. [2] اُنظر: - Louis-Jean Calvet, Essais de linguistique : la langue est-elle l'invention des linguistes ?, éd. Plon, 2004. [3] اُنظر: - Pierre Bourdieu, Ce que Parler veut dire, éd. Fayard, Paris, 1982. [4] اُنظر: - André Martinet, Eléments de linguistique générale, éditions Armand Colin, coll. Cursus [1960], 5e dition, Paris, 2012, p. 162. [5] اُنظر: - William Labov, Language in the inner City: studies in the Black English Vernacular, University of Pennsylvania Press, 1972, p. 37-38; traduit par Alain Kihm, éd. De Minuit, Paris, 1978, p. 72-73. [6] اُنظر: - Pierre Bourdieu, Ce que Parler veut dire, éd. Fayard, Paris, 1982, p. 14-15. [7] اُنظر: - Louis-Jean Calvet, la guerre des langues et les politiques linguistiques, [Payot, 1987], Hachette, Paris, 2005, chap. 6. وراجع: لويس جون كالفي، حرب اللغات والسياسات اللغوية، ترجمة د. حسن حمزة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2008، الفصل السادس، بالخصوص ص. 148-158.