لم تعرف حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين ( حماس ) منذ تأسيسها سنة 1987 مرحلة أكثر حساسية كما تعرفه الآن، حتى في مرحلة الاغتيالات الشهيرة و البطش الإسرائيلي المتنوع، لم تعرف الحركة تهديدا حقيقيا في وجودها كما تعرفه اليوم. منذ تاريخ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في صيف سنة 2007، ودخول ما سمي آنذاك ب(الحسم العسكري) حيز التنفيذ، لم تهدد الحركة، بشكل مباشر، في وجودها، كما يحصل اليوم. كان الوجود الحركي لحماس دائما مرتبطا بمدى احترامها لمسببات وجودها القائم على اعتبار صراعها مع إسرائيل هو صراع وجود وليس صراع حدود، كما كان تعاملها مع متغيرات منطقة الشرق الأوسط يتميز بكثير من الحذر السياسي، رغم اتساع هوامش عملها العسكري ضد إسرائيل، من حيث النوع، بامتلاكها أسلحة نوعية جديدة، مكنتها من الصمود في كثير من المواجهات العسكرية، ومن حيث الكيف، بتغييرها لإمكانيات مناوراتها السياسية وفق قواعد اللعب السياسي في الشرق الأوسط بتنسيق، مباشر وغير مباشر، مع الفاعلين الأساسيين في المشهد، سواء الحلفاء أو الأعداء. استطاعت حركة حماس الصمود في وجه كل حملات الاقتلاع التي قامت بها أكثر من جهة، سواء بأدوات سياسية أو بأدوات عسكرية ، حتى تبين للجميع أنها أضحت رقما صعبا في المعادلة السياسية والاستراتيجية للشرق الأوسط يصعب كثيرا القفز عليه. استفادت حركة حماس من التناقضات الكبيرة التي ميزت منطقة الشرق الأوسط في العشرين سنة الأخيرة، فاستفادت من الدعم القطريالمالي الكبير، وطورت قدراتها العسكرية، عدة وعتادا، بالاستفادة من تجربة حزب الله اللبناني، واستعانت بمظلة دولة تركيا الدبلوماسية في تسويق وضعها باعتبارها ضحية مباشرة للعدوان الصهيوني، هذا فضلا عن الحرص الشديد على امتدادها الاستراتيجي الأهم وهو الدعم الغير مشروط لسوريا والحفاظ على توازن العلاقة معها، ومن خلالها مع إيران بكل ما تعنيه إيران من مواقف الدعم والمساندة للقضية الفلسطينية، بغض الطرف عن الفصائل وخلفياتهم وتوجهاتهم. يمكن إضافة عامل آخر، لعب هو الآخر دورا حيويا في تثبيت حركة حماس وتقوية مواقفها، هو قناة الجزيرة وما قدمته من دعم إعلامي كبير سواء في التغطية الخاصة لزيارات (أردوغان ) و(الشيخ حمد) للقطاع، أو في إثارة المواقف الإقليمية و الدولية من الحصار المضروب على القطاع، أو في المتابعة الحية والمباشرة للمحاولات الدولية لفك الحصار، عن طريق البر والبحر، وما رافق ذلك من أحداث استغلتها قناة الجزيرة باحترافية كبيرة لصالح الحركة. استطاعت حركة حماس في هذه المرحلة التغلب على كل مشاكلها، أو على الأقل التعامل معها وفق آليات تدبيرية تأخذ في الاعتبار مسببات الأزمة في القطاع، تاريخيا واجتماعيا ثم سياسيا واقتصاديا، وإمكانيات تسييرها، لأن الخروج منها كان وسيظل مستحيلا. كانت حركة حماس، إبان هذه الفورات السياسية، تبتعد أكثر فأكثر عن المملكة العربية السعودية، باعتبارها الراعي الرسمي لحركات الإسلام السياسي المعتدل، كما كانت تبتعد عن الموقف الرسمي للدولة المصرية، وتحافظ فقط على مسافة تنظيمية فاصلة لتنسيق استخباراتي كان مستمرا ودائما، والذي كانت تحكمه حاجات إنسانية أكثر منها سياسية، يحددها (معبر رفح) و ما يحمله هو الآخر من تناقضات تشتعل و تخبو حسب الظروف السياسية في مصر والمنطقة، وفي أحسن الأحوال كانت مصر تلعب دور الإطفائي للتدخل بين الفصائل الفلسطينية، بلغ هذا الدور قمة نجاحه حينما وقعت الفصائل الفلسطينية على ما يصطلح عليها بالورقة المصرية ( وثيقة الوفاق الوطني للمصالحة)، ولكن بدون نتائج ملموسة وواقعية على الأرض الفلسطينية. تعايشت حركة حماس مع متغيرات المنطقة ، واستغلت كل الأوراق السياسية الرابحة في تلك المرحلة من أجل تمكين حكمها وتثبيته في قطاع غزة ، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، ولعبت على وتر المتناقضات السياسية في المنطقة، بشكل جعل عزفها السياسي متناغما مع غنائمها الاقتصادية إذ انهمرت المساعدات المالية والعينية من كثير من الجهات التي أضحت راعيا رسميا لقطاع غزة ومن خلالها حركة حماس، في مقدمتهم تركياوقطر. فما الذي حصل حتى وجدت حركة حماس نفسها في وضعية لا تحسد عليها؟ قوض الربيع العربي الكثير من الثوابت في العالم العربي، وأحدث رجة قوية في البنية العامة للحكم العربي التقليدي، وظهر للعيان، حينئذ، أن التيار الثوري العربي جارف، يستطيع اقتلاع أكثر الدكتاتوريات العربية صلابة، كما استطاعت الشعوب العربية خلخلة البنيات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي كانت متحكمة في نظم الدول العربية، وجعلت النخب السياسية الراعية للأنظمة التقليدية والاستبدادية تنزوي، ولو إلى حين . كل ذلك أعطى أملا كبيرا بأن التغيير في العالم العربي حان وقته، وأن الدورة الحضارية المرتبطة بنهوض الأمم قد وصلت، وأن الديمقراطية كمفهوم وكنظام، أخيرا ستجد مرتعا خصبا لها في الدول العربية. أيدت حركة حماس كل الحركات الثورية ، واعتبرتها من المتغيرات التي تخدم الحركة، لهذا أيدت الاحتجاجات في تونس ونجاح الثورة فيها، ثم كان تأييدها أكثر وضوحا للثورة الليبية، أما الثورة في مصر، بكل تجلياتها و مآلاتها السياسية التي أوصلت الإسلاميين إلى الحكم، فكانت بالنسبة لحركة حماس هي النموذج النهائي الذي يجب أن يعم كل البلدان العربية. من هنا تعاملت حركة حماس مع الأحداث المستجدة في سوريا بنفس المنطق، الشيء الذي جعل موقفها اتجاه الحليف الاستراتيجي الذي هو دولة سوريا، يخضع لضغوطات قطرية وتركية، وبالتالي السقوط في أول خطأ استراتيجي قاتل، وهو الرهان على الممكن، الذي هو إمكانية نجاح الثورة في سوريا، عوض الرهان على الكائن، الذي هو الصمود الكبير للنظام السوري بمساندة قوية من روسيا والصين. لم تحسن حركة حماس قراءة الموقف الروسي والصيني في مجلس الأمن، واستعمال حق الفيتو لصالح سوريا، كما لم تقدر،التقدير الحسن، مدى الدعم العسكري والاقتصادي الذي حضي به النظام في سوريا من إيران وحزب الله، وانصاعت للإملاءات أو التوجيهات القطرية والتركية، ثم كانت القطيعة التي بدأت بنقل مقر القيادة الخارجية لحركة حماس من دمشق، ثم التعبير بعد ذلك عن المواقف السياسية للحركة بشكل ينحاز إلى الثورة السورية. عزاء حماس الوحيد في خسارتها لحليفها الاستراتيجي، كان هو كسب ود حليف افتراضي آخر هو الإخوان المسلمين في مصر. قامت مصر بدورها الداعم للحركة على أحسن ما يرام، بالرغم من الانتقاد الشديد الذي كانت تواجه به في الداخل، وعرف قطاع غزة انتعاشة اقتصادية كبيرة و انفراجة سياسية بدعم كبير من الإخوان المسلمين في دولة مصر الجديدة. غير أن منطقة الشرق الأوسط عرفت زلزالا استراتيجيا ضخما، ابتدأ بتقزيم الدور القطري في المنطقة، بتغيير القيادة السياسية تبعه ضعف دبلماسي واضح في التدخل والتأثير على مجريات الأحداث، كما أن الدور التركي انحسر بشكل ملفث للنظر نتيجة ظهور بوادر ربيع تركي أربك القيادة التركية وجعلها تعيد الكثير من حساباتها السياسية. وقد فُسر تراجع التأثير القطري وانحسار الدور التركي بأنه تعبير عن الفشل الذريع في القيام بالدور المرسوم للدولتين من طرف الراعي الرسمي للمنطقة الذي هو الغرب، وعدم قدرتهما على إنهاء الترتيبات المدروسة للشرق الأوسط الكبير أو الجديد، بالسيناريو المتفق عليه، لذلك كان العقاب هو نقلهما من الصف الأمامي في صنع الأحداث إلى الصفوف الخلفية، مع تغيير في المهمة، من فاعل أساسي مؤثر إلى مراقب ثانوي ينتظر سنوح فرصة أخرى يمكن ألا تعود أبدا. غير أن الضربة التي يمكن أن تكون قد قسمت ظهر حركة حماس، هي التي أتت من دولة مصر بعد نجاح الانقلاب العسكري، وتغير اللعبة السياسية هناك بشكل دراماتيكي. تحول الموقف المصري الرسمي من راع رسمي لحركة حماس في قطاع غزة، إلى رافض لها بشكل مطلق. تم استغلال كل أساليب التقارب بين الإخوان المسلمين، سواء في مصر أو قطاع غزة، بشكل عكسي، إذ تمت إعادة القراءة لكثير من التفاهمات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في سياق آخر، وتم استعمال عنصر التفسير السياسي الماكر للكثير من القرارات السيادية لحكومة الإخوان في مصر، وتم تكييفها مع المتغيرات المرتبطة بالانقلاب العسكري، لكي تصبح كل التفاهمات بين دولة مصر في عهد الإخوان، وحركة حماس تواطؤا حركيا إسلاميا غير بريئ، ثم ليصبح في آخر المطاف خيانة عظمى تستوجب التجريم لإخوان مصر، كما تستوجب رد الدين والقصاص من التدخل الإخواني الحماسي في مصر إلى جانب الإسلاميين. انتقل الحكم المصري الجديد، بسرعة مذهلة، من مستوى التنديد بمواقف حركة حماس، إلى مستوى تنفيذ العقاب في حقها، هكذا تم تهديم الأنفاق، التي كانت تعتبر الشريان الاقتصادي لقطاع غزة، بشكل سريع ومدروس، كما تم منع تزويد القطاع بالغاز والبنزين والسولار، الشيء الذي اعتبر حكما بالإعدام على حركة حماس وعلى قطاع غزة في نفس الوقت، أضف إلى ذاك التحكم المزاجي في معبر (رفح) التي أضحى إقفاله شيئا اعتياديا، كما كان الشأن في عهد حكم حسني مبارك، بل بشكل انتقامي أشد وطأة. زاد الحكم العسكري في مصر من شد الخناق السياسي على حركة حماس، بتواز مع الحصار الاقتصادي، باتهامها بالتدخل العسكري لفائدة الجهاديين والإرهاب في سيناء، كل ذلك بتوجيه مدروس من خلال حملة إعلامية ممنهجة ذات غرض واحد هو تشويه حركة حماس وشيطنتها وتجريم مواقفها الداعمة للحكم الإخواني السابق. لم تنفع كل محاولات حركة حماس في تبرير مواقفها المساندة لإخوان مصر، كما لم تنفع التصريحات المتعددة لعدد من زعماء حركة حماس الكبار في تليين أو تغيير الموقف المصري اتجاه العلاقة مع الحركة، كما لم تنفع حملات التأييد للفريق السيسي التي قام بها موسى أبو مرزوق وغيره، واستمر الحصار الاقتصادي والسياسي والاعلامي للقطاع ومن خلاله حركة حماس بشكل أكثر قسوة حتى وصل الأمر إلى ظهور (حركة تمرد) في نسختها الفلسطينية في قطاع غزة تطالب بسقوط حكم حركة حماس الإخواني، في انسجام تام مع التوجه المصري الرسمي. ورطة حركة حماس الكبرى، تكمن في عجزها عن مسايرة التغيرات العميقة التي طرأت على المنطقة، وفي عدم قدرتها على اللعب السياسي في رقعة تغيرت فيها الكثير من القواعد، وتغير فيها الكثير من اللاعبين السياسيين، حركة حماس وجدت نفسها محرومة من سندها الإديلوجي والاقتصادي الذي هو الإخوان المسلمين في مصر، في الوقت الذي فقدت فيه مساندها ومعضدها الأول الذي هو سوريا، وفي نفس الوقت فقدت واحدا من أكبر مموليها الذي هو إيران. حركة حماس، بين عشية وضحاها، وجدت نفسها عارية وعاجزة وفاقدة لأدوات العمل السياسي في المنطقة. يربط بعض المهتمين الموقف المصري من حركة حماس، بكونه تعبير عن إرادة غربية في إسقاط حكم حركة حماس في قطاع غزة، كما يرجحون فرضية إمكانية قيام الجيش المصري بمهمة السيطرة على قطاع غزة في حالة الضرورة، وأن الأحداث العسكرية الجارية في سيناء ماهي إلا مقدمة لترتيب الأوضاع في المنطقة، وتجريد حركة حماس من حليف مفترض يمكن أن يؤثر في الأحداث. وبالتالي فإمكانية تغيير الأوضاع في قطاع غزة بالقوة وارد جدا، ولكن هذه المرة بسلاح مصري خالص. ورطة حركة حماس الآن، تدفعها إلى ضرورة التفكير في تغيير جذري في الرؤى والاختيارات السياسية التي كانت توجه الحركة طيلة المدة الزمنية الأخيرة، حركة حماس الآن مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بإحداث تغيير جدري في مواقفها السياسية وحتى الإيديلوجية، حركة حماس الآن مطلوب منها نقد ذاتي صارم، مادامت كل حساباتها السياسية كانت في غير محلها، ومادامت كل الظروف المحيطة بها تحتم عليها ذلك، لأن تغيير الواقع السياسي يتبعه ضرورة تغيير في الفاعلين السياسيين. بناء عليه، تقديم حركة حماس لتنازلات استراتيجية أمر حتمي، ولكن، هل ستستطيع الحركة الحفاظ على موقعها الاعتباري والخروج بأقل الخسائر الممكنة في تعاملها مع المستحجدات الأخيرة التي طرأت على المنطقة؟ هل المراجعات الفكرية والسياسية التي تقوم بها الحركة، كافية لتقديم شهادة حسن سلوك جديدة للراعي الرسمي للمنطقة؟ هل يقبل الراعي الرسمي للمنطقة بحركة حماس كلاعب سياسي في خريطة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد؟ هل تغيير شروط اللعب السياسي في سوريا وتراجع الخيار العسكري في حسم الوضع فيها، يخدم حركة حماس أم يساهم في تأزيم وضعيتها؟ هل الموقف السعودي، ومن خلاله الموقف الخليجي العام، من حركة الإخوان المسلمين في العالم العربي، يمكن أن يكون عاملا آخر يساهم في تسريع وتيرة التخلص من حركة حماس، لأن الجميع يعلم كم الكراهية التي توجه الموقف السعودي والخليجي من الإخوان المسلمين، باستثناء دولة قطر طبعا، خاصة وأن النموذج المصري لازال حاضرا بشكل مثير جدا متمثلا في الدعم السياسي الكبير والمساعدات المالية الكبيرة التي تقدم للحكم العسكري الذي أسقط الإخوان في مصر؟ هل يمكن لحكم حركة حماس أن يستمر في قطاع غزة، بدون دعم مالي وبدون مساندة سياسية من بعض الأطراف الفاعلة في المنطقة؟ هل يمكن لحركة حماس أن تستمر في تسويق نفسها كحاملة للواء المقاومة في وقت تغيرت فيه الكثير من المعادلات السياسية في المنطقة؟ ثم هل لها من القوة المعنوية والعسكرية، الآن، ما يمكنها من شن حرب على إسرائيل لتسويغ مقولة المقاومة، وهي بين كماشتي الجيش الإسرائيلي والجيش المصري، وكلا الجيشين يحدده هدف واحد هو اقتلاع الحركة من الوجود، ولا ينتظران سوى ضوء أخضر سياسي من الراعي الرسمي للمنطقة دائما؟ إلى أي حد يعتبر الرأي القائل، بأن الشرق الأوسط الجديد سيكون بدون وجود الإخوان المسلمين، منسجما مع المستجدات الموضوعية في العالم العربي بعد انهيار مقولة الربيع العربي؟ هل النموذجان المغربي و التونسي في الحكم، اللذان أفرزهما الربيع العربي، صالحان للبناء على مقتضاهما، في النظر إلى حركة حماس؟ هل تستطيع حركة حماس تقديم نفس التنازلات الموضوعية الكبيرة التي قدمها الإسلاميون، خاصة في المغرب، للحفاظ على حكمها؟ هل تستطيع حركة حماس الصمود في وجه الإعصار الذي يضرب منطقة الشرق الأوسط؟ كل المؤشرات تشير إلى أن شتاء حركة حماس سيكون ساخنا جدا، وأن العد العكسي قد بدأ لترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بواسطة لاعبين كبار يختلفون في الشكل والجوهر عن اللاعبين السابقين بزعامة تركياوقطر. إن التراجع في التأثير في الأحداث يتبعه ضرورة انحسار في الفاعلية السياسية، لذلك حركة حماس يمكن أن تكون قد دخلت في مرحلة الانحسار الوجودي الذي يتبعه، ضرورة، الموت السياسي. يبقى الرهان الوحيد الذي يمكن أن تستغله حركة حماس هو الورقة الإسرائيلية، لذلك، الاعتراف بالكيان الصهيوني على المحك، وتبعا لذلك مصداقية حركة حماس ومبرر وجودها هو الآخر على المحك.