ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع مالك بن نبي في الذكرى الأربعين لوفاته
نشر في هسبريس يوم 26 - 10 - 2013


(1973-2013)
مالك بن نبي والجيل الثاني من دعاة التجديد الديني والإصلاح الاجتماعي..؟
أنشودة رمزية
في مقدمة كتاب (شروط النهضة) أورد مالك بن نبي قطعة نثرية معبرة وهي كما كانت من قبل لا تزال معبرة برمزيتها على واقع العالم الإسلامي حيث يعاني الدعاة والمصلحون ما يعانون.
ونحن إحياء لذكراه نفتتح حديث الجمعة لهذا الأسبوع بهذه الأنشودة:
أي صديقي:
- لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق.
- وكل من سيستقيظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة.
- ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته، هنالك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة.
- ستحمل إشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك المبارك، في السهل الذي تبدر فيه، بعيدا عن خطواتك.
- وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك.. بعيدا عن ظلك.
- أبذر يا أخي الزارع. من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك... في عمق المستقبل.
- ها هي بعض الأصوات تهتف. الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي. وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين.
- غن يا أخي الزارع لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر، نحو الخط الذي يأتي من بعيد.
- وليدو غناؤك البهيج. كما دوى من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدت فيها الحضارات.
- وليملأ غناؤك أسماع الدنيا. أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك.
- ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ، السوق وملاهيه، لكي يميلوا هؤلاء الذين جاءوا على إثرك، ويلهوهم عن ندائك.
- وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات، لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك.
- وها هم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار. ولكي يطمسوا بالظلام شبحك، في السهل الذي أنت ذاهب إليه.
- وها هم قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة.
- ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام كما حدث يوم تحطم هبل في الكعبة.
*******
شخصيات متميزة
مما لاشك فيه أن القرن العشرين شهد بروز شخصيات مهمة ومتميزة أخذت على عاتقها القيام بدور بناء وايجابي، في خدمة النهضة العلمية والفكرية في العالم الإسلامي ومن مواقع مختلفة ومن مشارب فكرية مختلفة كذلك، ولا يزال الرأي العام المهتم بالقضايا النهضوية في العالم الإسلامي يشيد بهذه المواقف ويذكرها بالتنويه والإشادة، ذلك أن الأوضاع السائدة والتي عرفها العالم الإسلامي خلال قرون عدة والتي شكلت عائقا حال بين الأمة الإسلامية ومواصلة دورها الحضاري الذي كانت تقوم به منذ القرنين الأول والثاني الهجريين القرنين السابع والثامن الميلاديين، والتي كانت فيها هذه الأمة في مقدمة الأمم والشعوب على المستوى العالمي وذلك لقرون، إلا أنه ولعوامل وظروف معينة، وجدت هذه الأمة نفسها في المؤخرة وبالنسبة للأمم التي كانت تعيش في الظلام خلال قرون، والتي كانت حينها منبهرة بما كان عليه العالم الإسلامي من تقدم حضاري في كل المجالات.
الحرب السجال
ولكنها بعد صراع مرير كانت فيه الحرب سجالا بين الطرفين لفترة طويلة، ولكن كان هناك إصرار من جانب معزز بتقنية جديدة مدعمة بخلفية فكرية ونظرية دفعت بالشعوب إلى الأمام، في أخذ زمام المبادرة في مواجهة قوى الاستبداد والإقطاع والاستغلال فأعلنت شعوب متعددة ثورة فكرية سياسية اقتصادية صناعية في حين انتقل الجمود في الفكر والثقافة وبالأحرى تحكم الاستبداد والتحجر في كل مناحي الحياة الى الضفة الأخرى، وأصبحت شعوب العالم الإسلامي غنيمة وفريسة للأطماع الاستعمارية التي صارت تقتطع أجزاء هذا العالم جزء جزء حتى أتمت السيطرة على هذا العالم بكامله. مع الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
النخبة تتحرك
إن هذا الوضع دفع فئة من نخبة المجتمع الإسلامي إلى تدبر الأمر في كل وطن من الأوطان التي تنتمي إلى هذه الرقعة الجغرافية محور طنجة جاكارتا التي تمتد فيها شعوب مختلفة الألوان والألسن، ولكنها متحدة المشاعر وتنتمي إلى حضارة ذات أصول موحدة وجذع مشترك تتفرع عنه غصون تمثل خصوصيات هذه المجتمعات التي تفرضها البيئة الطبيعية وأصول حضارية تنتمي إلى ما قبل الاهتداء بهدي الإسلام والالتزام بتعاليمه.
الحقوق والوحدة
اما فيما بعد ذلك فإن رجلا ورحالة من بلد معين ينتقل في هذه الرقعة كلها ويتمتع بنفس الحقوق وربما أكثر مما كان يتمتع بها في بلاده الأصل وهذا ما نلحظه عند تتبع أصحاب الرحلات حيث ينتقل رجل مثلا مثل (ابن بطوطة) من المغرب إلى الشرق الأقصى ويجد لنفسه المكانة أو ربما أكثر التي يجدها في بلاده وليس هذا على مستوى الحقوق فقط ولكن كذلك على المستوى التعليمي والدراسي، فالمناهج التي تدرس في أصولها واحدة ولا يوجد بينها إلا ما يفرضه اختيار رأي واجتهاد مذهب من مذاهب أهل السنة أو أحد فروع الشيعة الاثنا عشرية أو الزيدية، لقد كانت هذه الوحدة السياسية مع الاستقلال الإقليمي أو اللامركزية قائمة كما كانت الوحدة الثقافية والتربوية سائدة بين هذه المجتمعات ولذلك فعندما تحرك الاستعمار في هذه الرقعة وجدت النخبة العلمية أو السياسية أو الجهادية ضرورة التحرك كل في موقعه وهكذا بدأت الحركة التجديدية في المجال الديني.
التحرك المبكر
وإذا كان الرواد انطلقوا مبكرا مع اللقاء الأول مع الاستعمار والاحتكاك بالقوة الأوروبية فإن من جاء بعدهم أخذ المشعل وانطلق مع تطوير العمل وأدواته فإن ما جد من أحداث في القرن العشرين وانهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وفرض الإرادة الاستعمارية على المغرب الأقصى الذي كان آخر الدول الأساس في الأمة الإسلامية الذي تفرض عليه القوة الاستعمارية سيطرتها، وهكذا برز جيل جديد من المجددين الدينيين والمصلحين الاجتماعيين، وكانت الدعوة إلى التجديد الفقهي مواكبة للدعوة السلفية المهتمة بتنقية العقائد الإسلامية مما علق بها من البدع والخرافات بفعل تطاول الزمان وهيمنة الركود والخمول على النفوس والعقول منذ مرحلة ما سمي بالانحطاط الفكري والأخلاقي وسيادة الخرافة والأوهام.
وجه متميز
إن الأوضاع التي أدت إلى سقوط العالم الإسلامي هذا السقوط المدوي يرجعها الباحثون والمؤرخون إلى المرحلة التي يسمونها مرحلة الانحطاط التي أصابت الحضارة الإسلامية بعد ستة قرون من العمل الجاد والمنتج في المجال الحضاري وما تخلل تلك القرون من الصراع مع قوات مختلفة ولكنها كانت تسعى لإسقاط هذه الحضارة وإزالة النفوذ الإسلامي عن الوجود.
أما الشخصية التي نتحدث عنها اليوم وهي (مالك بن نبي) فإنه يرى وهو يتحدث عن لقاءات العالم الإسلامي مع الغرب وهو لا يحقب المرحلة كما يفعل مؤرخو الأدب العربي ولكنه يربطه بحدث معين في تاريخ الغرب الإسلامي وهو سقوط دولة الموحدين، الذي كان عام (668ه-1269م) إذ تاريخ العالم الإسلامي ينقسم عنده إلى قسمين: ما قبل نهاية حكم الموحدين وما بعد الموحدين ولذلك فإنه يرى وهو يتحدث على بداية بروز عوامل القابلية للاستعمار بقوله ويؤرَّخ لتلك الظاهرة (ظاهرة الانحطاط). في كتابه وجهة العالم الإسلامي.
حضارة تلفظ الأنفاس
ويُؤرخ لتلك الظاهرة في التاريخ الإسلامي بسقوط دولة الموحدين، الذي كان في حقيقته سقوط حضارة لفظت آخر أنفاسها.
ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان ما بعد الموحدين، ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة، بعد أن كانت في عهد الأغالبة قمة المُلك، وقمة الأبهة، والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيرا من ذلك، لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحى البياني.
إنسان ما بعد الموحدين
العالم الإسلامي كما هو موحد ومتوحد في الرخاء وفي التقدم الحضاري فهو كذلك موحد في المصائب والمحن فهو كما عبر دائما قادته ان هذا العالم هو متضامن في السراء والضراء وهذا ما يوجزه مالك بن نبي في الفقرة التالية:
«فإذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعية وجدنا أن جميع الأعراض التي ظهرت في السياسة أو في صورة العمران لم تكن إلا تعبيرا عن حالة مرضية يعانيها الإنسان الجديد إنسان ما بعد الموحدين الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات مفترقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين».
إبراز الخلل
إن مالك بن نبي يبرز في الفقرة أسفله ما أصاب المجتمع الإسلامي فيما بعد الموحدين من عيوب ونقائص، وما يتخلل الحياة الاجتماعية من أمراض تنخر كيان الأمة فيقول:
«فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية، وبطرائفنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاط الاجتماعي، ليس ذاك فحسب، بل إنه يعيش الآن بين ظهرانينا، وهو لم يكتف بدور المحرك الخفي الذي دفعنا إلى ما ارتكبنا من خيانة لواجبنا، وأخطاء في حق نهضتنا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا إلى ما ارتكبنا من خيانة لواجبنا وأخطاء في حق نهضتنا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا، لم يكتف بأن بلغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي، فبلغنا ذاته أيضا».
ويرى مالك بن نبي أن هذه الأوضاع الفاسدة صاحبناها وانتقلت معنا إلى الوقت الحاضر عندما كان يضع الكتاب في أواخر أربعينيات القرن الماضي فيقول:
«هذا الوجه المتخلف الكئيب مازال حيا في جيلنا الحاضر، نصادفه في المظهر الرقيق البرئ الذي يتميز به فلاحنا الوديع القاعد، أو راعينا المترحل، المتقشف المضياف كما نصادفه في مظهر الكاذب الذي يتخذه ابن أصحاب (المليارات) نصف المتعلم، الذي انطبع في الظاهرة بجميع أشكال الحياة الحديثة، فأكسبه (مليار) أبيه وشهادة البكالوريا مظهر الإنسان العصري، بينما تحمل أخلاقه وميوله وأفكاره صورة (إنسان ما بعد الموحدين).
إسلام الإنقاذ
إن مالك بن نبي في الفقرة التالية يصف حالات لاحظها في حينه في حياته ولكن هذه الحالة التي نتحدث عنها منذ حوالي سبعين سنة لا تزال قائمة في مجتمعاتنا حتى بعد الحصول على الاستقلال وادعاء أننا أصبحنا ضمن المجتمعات الحرة والمتقدمة فيقول مالك وهو يواصل وصف وقع إنسان ما بعد الموحدين.
وطالما ظل مجتمعنا عاجزا عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، وما دام متقاعسا عن تجديد كيان الإنسان طبقا للتعاليم الإسلامية الحقة، ومناهج العلم الحديث، فإن سعيه إلى التوازن لتجديد حياته وتركيب جديد لتاريخه سيكون باطلا عديم الجدوى.
ما يشغل الضمير الإسلامي
ويرى مالك بن نبي ضرورة العمل على معرفة الإنسان نفسه.
«إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية، فهذه تعتبر خطرا في مجتمع ما زال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيرا من صنع محرك، أو ترويض فرد على استخدام رباط عنق. وإنسان ما بعد الموحدين في أية صورة كان، باشا أو عالما مزيفا أو مثقفا مزيفا أو متسولا يعتبر بصفة عامة عنصرا جوهريا فيما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارة، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلوها التي تشغل اليوم فيما يبدو الضمير الإسلامي».
وربما رأينا من الضروري على الأقل أن تقوم ألوان النشاط الدالة على يقظة الضمير الإسلامي في مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية على أساس دراسة عليه للعوامل السلبية، وأسباب العطل الضارب بطنبه في حياتنا.
تجسيد قابلية الاستعمار
لقد كان مالك بن نبي وهو يحلل الواقع في المجتمع الإسلامي يرى ضرورة الكشف عن الأمراض التي تنخر كيان الأمة، وهي بالدرجة الأولى ترجع إلى تفكك الأخلاق الاجتماعية وانعدام الضمير الإسلامي والتمسك بالقديم والإخلاد إلى الأرض جمودا و تحجرا فيقول:
فإذا كان عسيرا أن نتعرف على (إنسان ما بعد الموحدين) إلا إذا تشخص في سمات رجل (كأغاخان) فإنه على أية حال تجسيد القابلية للاستعمار، الوجه النموذجي للعصر الاستعماري، والبهلوان الذي أسند إليه المستعمر القيام بدور (المستعمَر) وهو أهل لأن يقوم بجميع الأدوار، حتى ولو اقتضناه الموقف أن يقوم بدور (إمبراطور).
الجيل الثاني
وهكذا يتضح لنا فكر ومنهاج هذا الإنسان الذي أردنا أن نتحدث عنه اليوم إذ كان مالك بن نبي المفكر والمصلح الاجتماعي الجزائري المولود عام 1905 والمتوفي في 31 أكتوبر 1973. لقد كان واحدا من تلاميذ المدرسة الإصلاحية الذين ساهموا بحظ ملحوظ في مقاومة الوضع الاستعماري من الوجهة الفكرية والعلمية، وله في هذا الصدد تراث فكري استقطب اهتمام الباحثين والدارسين الذين رأوا في إنتاجه وفي سلوكه ما أهله ليكون واحدا من بين الجيل الثاني من قادة النهضة الحضارية والسياسية في العالم الإسلامي.
شعب مقاوم
وإذا كان وطنه الجزائر من أوائل الأوطان التي سقطت تحت نير الاستعمار وسيطرته 1830م فإن ما أبداه الجزائريون من صنوف المقاومة منذ ذلك التاريخ مثلهم مثل كل الشعوب الإسلامية أتاح لهذا المفكر أن يستقرئ تجارب المجتمع الذي نشأ فيه إذ رغم كل صنوف التهجين ومحاولة إذابة الشخصية الإسلامية الجزائرية في سياسة استعمارية مقيتة مبنية على كل الأساليب المنحطة من عنصرية واستغلال واحتقار واستبداد التي مارسها الاستعماريون في كل مكان.
خارج السرب
ولكن الجزائر كانت للاستعمار فيها غايات وأهداف لم يكن يرى نفسه مهيأ ليحققها في غيرها من البلاد الأخرى، هذا الوضع الذي نشا فيه مالك بن نبي وتعرض لكثير من تفاصيله في كتبه وفي مذكراته "شاهد القرن" أتاح له أن يتجه في عمله الفكري والإصلاحي منحى آخر ربما هو متميز عن غيره من دعاة التجديد والإصلاح الآخرين، وفي نظري فإن مالك بن نبي مع خصوصية دعوته التجديدية والإصلاحية فإنه يشخص الوجه الآخر من الناس الذين ظن الاستعمار أنه أنشأهم على عينيه ووفق سياسته ليكونوا في خدمة السياسة الاستعمارية ذلك أن الرجل لم ينل من تعليم اللغة العربية ما يؤهله للكتابة بها والتعبير عن أفكاره بواسطتها وعندما عبر كان خارج السرب الذي سار عليه أغلب المتعلمين والمعبرين عن فكرهم باللغة الفرنسية.
فضح سياسات وأساليب
وإذا كان أغلب من كتبوا أو يكتبون باللغة الفرنسية في تلك المرحلة يسيرون وفق خطة مدروسة وضعها الاستعمار فإن مالك بن نبي جاء ليفضح هذه السياسة وليوضح للناس ألاعبها وغاياتها، سواء في الجزائر أو في غيرها من البلاد الإسلامية، وهو ما جعل الرجل يضع ان شئت الدقة برنامجا مضادا واختار أن يضع هذا البرنامج في إطار مشروع حضاري تحت عنوان عام "مشكلات الحضارة" وذلك بعد ما شخص الواقع في كتابي وجهة العالم الإسلامي وشروط النهضة، وهو يسير سيرا حثيثا ليكتمل التصور لديه.
أثمن هدية
ولا يمكن أن يكتمل دون وضع قاعدة صلبة لهذا المشروع فكان كتابه (الظاهرة القرآنية) هذه الظاهرة التي عالج فيها الوحي والدراسات القرآنية بأسلوب جديد ومنهج جديد ولابد ونحن نتكلم عن هذا الكتاب أن نبرز أصل الحكاية بالنسبة للكاتب وتأتي في سطرين من الإهداء إذ جاء فيهما (إلى روح أمي.... إلى أبي الوالدين اللذين قدما لي في المهد أثمن الهدايا... هدية الإيمان).
وصية شاتلييه
ان مشروع مالك بن نبي كله يكاد تكون الغاية منه هي الحفاظ على هذه الهدية الثمينة هدية الإيمان، والحفاظ على هذه الهدية يتطلب صيانتها من سياج الأشواك الذي سعى التبشير والاستعمار ليضعا الشبيبة الإسلامية محاطة بها فلاشك أن وصية (مسيو شاتلييه) واضحة المعالم عندما قال:
«ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته.
التعليم أداة التنصير
ويواصل شاتلييه وصيته بقوله:
ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل ان لا تقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم لأن لهذه المشروعات أغراضا اختصاصية... فتبقى مجهودات ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية، نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة" ثم يضيف:
وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعية الفرنساوية (ص: 11). الغارة على العالم الإسلامي.
ويقول شاتلييه في فقرة أخرى من نفس المقال:
الهدف تقدم إسلامي مادي
ولاشك في أن إرساليات التبشير من بروتستانية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الانكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوروبا وتتمدد السبل لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها». (ص:12)
دور الأسر
هذا المخطط الذي أراد منه الاستعمار والتنصير إخراج الشبيبة الإسلامية عن معتقدها وجعلها ملحقة بدولة الاستعمار هو ما جعل مالك يقدم الظاهرة القرآنية التي يسعى من وراء كتابتها إلى الدفاع عن الإيمان في وجه الإلحاد وعن الإسلام في وجه التنصير، بذلك الإهداء الذي جعل الإيمان راسخا وقويا لديه، وهو يبرز في نفس الوقت الدور الذي لعبته الأسر المسلمة المؤمنة في الحفاظ على العقيدة والمبدأ، وهذا لم يتم تجاه الظاهرة الاستعمارية الواضحة فقط ولكنه تم كذلك مع الحكام الذين جاءوا بعد ذلك ليجعلوا الخطة أقوى وأعنف وذلك ليظهروا للاستعمار أنه أقدر على ما لم يقدر عليه.
التجربة العلمانية
والنموذج هو ما حصل مثلا في تركيا الكمالية، لقد طبق أتاتورك الوصية الاستعمارية تحت (مقولة اللائكية) بكل فظاظة وعنف حيث قام بما لم يقو الاستعمار على فعله، ولكنه كان الهدف الذي يسعى إليه ولو بعد عقود وحتى قرن أو أكثر، لقد ألغى أتاتورك الحرف العربي وألغى الأذان بالعربية وأغلق المساجد وشنق الأئمة وقتل العلماء وسجن الدعاة وفرض بوحشية ما عليها من مزيد ما أسماه "لائكية" بطريقته الخاصة.
أعلام صمدوا
ولكنه كان هناك بضعة أشخاص داخل السجون أو المنافي ولكنهم كانوا قدوة ومثالا للشعب حذا حذوهم في الحفاظ على العقيدة والدين وفي مقدمة هؤلاء ثلاثة شخصيات مهمة في الفكر الإسلامي المعاصر وهم: (سعيد النورسي) السجين المجاهد حيث رسائل النور كانت اسما على مسمى وتلامذته ومريدوه كانوا أقوى من الطغيان، وكان الشيخ (مصطفى صبري) المطارد والمرابط يقاوم خارج البلاد والعَلم الآخر (زاهد الكوتري) الذي كان فارسا في الدفاع عن العقيدة والوسطية، وهكذا عادت تركيا بفعل هؤلاء وأمثالهم والأسر المسلمة التي كانت تربي في السر أبنائها على العقيدة الإسلامية إلى هويتها الحقة لما واتتها الفرصة دون أن تتخلى عن التحديث الحق الذي يعني الشورى وحسن الإدارة والتدبير، وليس التنكر للعقائد والأديان.
صورتا الاستعمار
لقد كان مالك بن نبي مدركا تمام الإدراك لهذا المخطط في أوطان الإسلام، ولكنه كان ينزله في المنزلة التي ينبغي أن ينزل فيها وهو يقاوم التخلف والاستعمار.
وإذا كنا تحدثنا عن تشخيصه للتخلف فإننا سنأخذ فقرة يحدد فيها أخطر نوعي الاستعمار:
«ولاشك أن من الضروري تحديد مفهوم عبارة (الاستعمار الاستبدادي)، فإن للاستعمار صورتين: إحداهما صورة الاستعمار المتحفظ، لأنه لا يتدخل مباشرة في نواحي حياة المستعمر جميعا، بل يطلق لأبناء المستعمرة بعض مظاهر الحرية، وعلى العكس من ذلك صورة «الاستعمار الاستبدادي»، الذي يتدخل تدخلا مباشرا في جميع تفاصيل الحياة، حتى الدينية منها، فتدخله يمتد إلى كل شيء بحيث يخصص لأبناء المستعمرات "مدرسة استعمارية" يستعمر بها عقولهم، وإذا ما سمح لمستعمر بأن يدير مقهى لحسابه ألزمه ان يتخذ لمقهاه عنوانا تجاريا يسم تجارته بسمة المستعمرين.
والعجيب أن لهذا الاستبداد الشامل بشئون المستعمرات مجامع علمية تتبناه، وتقوم على دراسته وتوجيهه، ك: (مدرسة العلوم الاستعمارية بباريس)، وله أيضا خطته العامة: وهي الميثاق الاستعماري الذي يتعدل تبعا لظروف الموقف، وسير الأحداث».
ولنا عودة للموضوع.
أستاذ الفكر الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.