في سياق يشهد العديد من التساؤلات حول واقع الدراسات الإسلامية وآفاقها في المغرب، قدم معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق، محاضرة علمية بعنوان: الدراسات الإسلامية إلى أين؟ برحاب كلية الآداب العلوم الإنسانية بالرباط يوم الأربعاء 15 دجنبر 2021. وقد جاءت المحاضرة محملة بمجموعة من الأفكار والتصورات، حول ما ينبغي أن تكون عليه شعبة الدراسات الإسلامية، في ظل التحديات الراهنة التي يفرضها السياق الحالي بكافة أبعاده الفكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ولقد كان من الطبيعي أن محاضرة بهذا الثقل، سواء باعتبار موضوعها الذي بلا شك له راهنيته وحيويته، أو باعتبار صاحبها الذي جمع بين النظرية والتجربة، إذ هو إلى جانب كونه رجلا أكاديميا له إسهاماته المعرفية الغزيرة التي أغنى بها المكتبة العربية والإسلامية، هو أيضا رجل ميداني، قضى على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عقدين من الزمن، كانا كافيين ليعرف الشأن الديني فيهما ازدهارا منقطع النظير، حتى صار النموذج المغربي في التدين مضرب المثل في كل المحافل الدولية، بل أكثر من ذلك فقد أصبحت التجربة المغربية في التدين مطلبا للعديد من الدول التي تعيش نوعا من عدم الاستقرار الديني، على غرار بعض الدول الإفريقية؛ قلت لقد كان من الطبيعي والحالة هذه أن تشهد المحاضرة متابعة إعلامية واسعة تليق بهذا الحدث الكبير، وكان من الطبيعي أيضا أن تثير المحاضرة ردود أفعال مختلفة، نظرا للمكانة الاعتبارية التي يحظى بها الضيف أولا، ولحيوية الموضوع وراهنيته ثانيا. وإذا كان لابد من إعطاء قراءة معينة للموضوع فإنه ينبغي ألا تخرج تلك القراءة عن سياق اهتمامات السيد الوزير وانشغالاته كرجل دولة مشرف على تدبير الشأن الديني بالمملكة، ولقد عبر عن هذه الانشغالات صراحة في مستهل حديثه حينما قال: "والواقع أن لي في اقتراح هذا الموضوع غاية أخرى (...) غاية تتصل بهموم في مشاغلي الحالية، ذلك أنه وكما هو طبيعي لا يمكن لمن له علاقة بتدبير شأن الحياة الدينية لعموم الناس ألا يسأل عن مواقع منابر تدريس الدين، ومحلها من إعراب جمل هذا الشأن وأفعالها ومصادرها ونعوتها والفاعلين فيها والمفعول بهم في صفوفها، لأن هذه المواقع لا مقام لها في حيز الحياد، فإما أنها معينة على ذلك المراد وإما أنها عائقة له". ذلك هو السياق الذي يجب أن تقرأ فيه محاضرة السيد الوزير، وتلك هي الغاية التي دعته لإثارة هذا الموضوع؛ غاية تتصل بهمومه ومشاغله الحالية كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، المسؤول عن ضمان الأمن الروحي لكافة المغاربة عقيدة وفقها وسلوكا. فشعبة الدراسات الإسلامية، في نظره إما أن تكون معينة على تحقيق ذلك المراد وإما أن تكون عائقة له ولا مجال للحياد. ذلك لأن مسألة الحياد في المجال العلمي التي كثيرا ما تشدق بها بعض المفكرين الغربيين، باتت اليوم موضع شك في كثير من الأوساط الأكاديمية، لأن العلم لم يكن يوما مستقلا عن الأيديولوجية، وهذا ما أثبتته الدراسات المنجزة في الموضوع. وعلى هذا الأساس فإنه لا يتصور أن تكون شعبة الدراسات الإسلامية مؤسسة على الفراغ، إذ لابد أن يكون هناك إطار مرجعي تستند إليه، وهذا الإطار المرجعي في السياق المغربي هو ما نسميه بالثوابت الدينية المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي وإمارة المومنين. وهذا ما حاولت المحاضرة أن تبرز أهميته في مجال الدراسات الإسلامية، صيانة للفكر الديني وللهوية الوطنية من خطر الانزلاق نحو التطرف والإرهاب. وإذا كانت المحاضرة قد تعرضت لبعض الجوانب فقط من هذه الثوابت الدينية، فإن ذلك راجع بالأساس إلى كون تلك الجوانب المذكورة، هي التي تعرضت للتهميش أكثر من غيرها في مجال الدراسات الإسلامية. وقد أكد السيد الوزير أن من الجوانب التي ينبغي أن تحظى بالأهمية اللازمة، ما يتعلق بالتصوف الذي مداره على تزكية النفس، التي هي من المهام الأربعة المؤصلة في قوله تعالى:" هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" [الجمعة الآية 2]. وبما أن الدارس في شعبة الدراسات الإسلامية هو مبلغ عن الله، باعتباره من ورثة الأنبياء، فيجب أن تكون هذه المهمة من صميم عمله التربوي والإرشادي، ولذلك فقد دعا السيد الوزير إلى إدراج مادة التصوف ضمن برامج الدراسات الإسلامية، من خلال النقط التالية: أولا: تخصيص حيز من التكوين في التزكية باعتبارها من الإرث النبوي عند المبلغين، وإعطاؤها موقعها المركزي لأنها السبيل إلى التغيير؛ ثانيا: إدارة أمر التزكية فهما وعملا على محاسبة النفس، وترجمتها بالعبارة المفهومة في هذا العصر وهي التحرر من الأنانية؛ ثالثا: تدريس التصوف في برامج الدراسات الإسلامية، الجنيدي في المستويات العادية والعرفاني في المستويات العليا؛ رابعا: تدريس السلوك الصوفي في تاريخ المغرب، في أبعاده الروحية والاجتماعية؛ خامسا: تخصيص حصص في الأعمال التطبيقية لمحاسبة النفس وفق كتاب تضعه جماعة من العلماء؛ سادسا: تخصيص خمس مدة التكوين في الدراسات الإسلامية للعمل الميداني على مستوى الإجازة للخروج زرافات ووحدانا إلى الميدان لنفع الناس في المدن والبوادي، نفعا مقرونا بوازع القرآن والسنة. أما الجانب الثاني الذي أكد السيد الوزير على أهميته في مجال الدراسات الإسلامية ما يتعلق بالإمامة العظمى، حيث ذكر بأن هذه الأخيرة هي "حامية الملة والدين" وبالتالي "يفترض في الدراسات الإسلامية منطقيا أن تكون جزءا من هذا النسيج، وأول ما يستوجب هذا الارتباط أن تكون الإمامة العظمى موضوع درس في تكوين الدراسات الإسلامية، اعتمادا على بعض مصنفات المغاربة في الإمامة العظمى. كما يقتضي هذا المنطق _حسب تعبير السيد الوزير_ أن يكون في برنامج الدراسات الإسلامية درس يتناول البيعة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ المغرب على الخصوص، حيث بقي المغرب البلد الذي يحتفظ بنظامها سواء من جهة كونها تكتب من طرف العلماء الذين يوقعون عليها، أو من جهة كونها تعاقدا مكتوبا على أساس التزام المبايع بالكليات الشرعية، أو من جهة تجديدها من فوق منابر الجمعة أو تجديدها كل عام بحضور ممثلي الأمة، فليس من الإنصاف حرمان طلبة الدراسات الإسلامية من هذا الصنيع السياسي الغني ذي المضمون الكوني، الذي يستند إلى الدين، والحالة أن الحضارات الأخرى ما فتئوا ينظرون إلينا ويعاملوننا كبدائيين في أخلاق العلاقات السياسية. إن الإمامة العظمى _يضيف السيد الوزير_ قمة هرم بقية المؤسسات الدستورية التي لا يجوز أن يغيب علمها عن الدراسات الإسلامية". وأخيرا يمكن القول بأن ما تم ذكره بخصوص الثوابت الدينية الوطنية هو جوهر القضية التي أثارتها محاضرة السيد الوزير، أما ما عدا ذلك، فإنما هو عبارة عن أسباب ولواحق ولوازم غير مستقلة عن ذلك الأساس الإيديولوجي الذي طرح بالكيفية التي رأينا. فالانفتاح على المجالات والعلوم الأخرى كالفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم بالنسبة للدارس في شعبة الدراسات الإسلامية لا يكون إلا بعد تحصين فكره بذلك الأساس المذكور، وتعلم اللغات أيضا يجب أن يصحبه وعي تام بأن اللغة ليست مجرد قوالب فارغة من أي محتوى ثقافي وديني، فاللغة قبل كل شيء هي مرآة لثقافة الشعوب، وهل يمكن عزل اللغة عن الفكر؟ كانت هذه نظرة موجزة حول بعض ما ورد في محاضرة السيد الوزير وهي تعكس وجهة نظرنا أكثر مما تعكس الخلفيات والتصورات والمفاهيم التي تؤطر هذا الموضوع كما ألقاه صاحبه وكما ينبغي أن يفهم بشروطه المعرفية وقواعده المنهجية. والله الموفق وهو يهدي السبيل.