بسبق وفضل كان عبد الرحمن بن زيدان صاحب تحفة: "العلائق السياسية" عن ثلاثينيات القرن الماضي، في التعريف بدبلوماسية المغرب، كأول مؤرخ مغربي اهتم بمبحث بطبيعة دولية قال عنه يوما قبل عقود من الزمن بروح فقيه عارف ملم، بما يفيد أن ربط وحسن تدبير علاقات مع الآخر من دول وأمم هو بفوائد جمة، لِما لذلك من تيسير وصل ونمو تجارة وجلب ثروة وحفظ أمن وكسب ثقة، كذا راحة ضمير وضمان مستقبل وشحذ عزم وأخذ بحزم وعمل على رواج بضاعة؛ فضلاً عن ترقية صناعة وأخذ بأسباب رفاهية واستظلال بظل طمأنينة وعافية، باعتبارها سر وحدة دين وفكر وسياسة ومجتمع وثقافة، مشيراً إلى أهمية تدوين فعل العلاقات الدبلوماسية خدمة وإحياء للذاكرة، وتنوير أجيال حاضر ومستقبل حول إرث مغرب ومغاربة؛ مع ما يقتضيه أمر إعداد وتنشئة على اقتداء وأخذ بما أخذ به سلف، داعيا إلى قيم وثقافة تنافس مع الأمم، من أجل كل نافعة وجلب راحة وحفظ موقع وفق ما ينبغي من حكمة وحنكة، ومستحضرا ما كان للسلف المغربي من تميز دبلوماسية سعت عبر الزمن إلى سلم وتعاقد وتعاون، ومسجلاً قلة عناية المؤرخين المغاربة بتاريخ دبلوماسية بلادهم قائلاً: "ما رفعوا عنه القناع ولا وضعوا النقاب ولا كشفوا عن حقيقته الحجاب حتى توهم الأغمار والأغرار أنه لم تكن لدولة المغرب نظم مقررة ولا قواعد محررة". بتوقيع أعلام مغربية وإحالات رمزية ومقتطفات وإشارات وغيرها من أثاث، استهل الدكتور سمير بوزويتة تقديما لكتاب صدر له مؤخراً عن منشورات مجلس الجالية المغربية بالخارج، موسوم ب: "المغرب وبلجيكا التاريخ والذاكرة المشتركة"، بحوالي أربعمائة صفحة؛ توزعت مادته العلمية على إرهاصات علاقات مغربية بلجيكية منذ القرن التاسع عشر، مع ما حصل من إعداد أولي لسلك دبلوماسي بلجيكي بالمغرب؛ فضلاً عما تناول من أحداث وتطورات لوضع محميين مغاربة ومخالطين واتفاقيات تجارية وزيارات رسمية وبعثات وأوراش تعاون، كذا إبراز ما كان لدولة بلجيكا من أثر في تدبير قضايا مغرب هذه الفترة وأحواله. مؤلف حول العلاقات المغربية البلجيكية تأسست مقاربته وتوثيقه للشأن على ببليوغرافيا تقاسمها أرشيف بعشرات الرسائل السياسية والقنصلية البلجيكية والسلطانية مع أمناء مراسي ونواب جهات وغيرهم، كذا رسائل لقضاة وعلماء وأشراف وموظفين وأعيان، إلى جانب وعاء وثائقي وكنانيش ودوريات عن مديرية الوثائق الملكية، فضلاًعن مساحة مراجع واسعة باللغتين العربية والفرنسية. ولعل ما طبع علاقات المغرب بدولة بلجيكا التي نشأت بعد استقلال مقاطعاتها عن هولندا عام ألف وثمانمائة وثلاثين، وفق ما حصل من تعبير ووعي سياسي ثقافي تعلق بهويات قبل تكييف مؤسسات مع واقع، وقبل دستور أحدث مقاطعات بسلطات تابعة ضمن إصلاح كرس استقلالا ثقافيا؛ مع اعتراف بثلات كيانات مجتمعية وأربع مناطق لغوية، جمعت بين فرنسية وهولندية وألمانية، فضلاً عن ثنائية لغوية ميزت مدينة بروكسيل. ولعل ما طبع هذه العلاقات التي كانت بعناية خاصة للسلطان الحسن الأول من خلال ما كان له من سفارة صوب بلجيكا أوردها الجعيدي في "اتحاف الأخيار"، وقائع مثيرة مثلما تعلق بزيارة سرية قادت ملكها "ليوبوند الثاني" إلى المغرب سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين، أورد سمير بوزويتة أنها بقدر ما كانت عليه من تنكر بقدر ما استهدفت موضع قدم بمدينة الصويرة، من أجل محطة في علاقة بلجيكا بالكونغو؛ وهو ما كان وراء حماس بعثة دبلوماسية بلجيكية إلى المغرب مطلع القرن الماضي، كانت هديتها مدافع من صنع بلجيكي. ومما ورد في "الذاكرة المشتركة بين المغرب وبلجيكا"، أيضاً، نجد زيارة الملك البلجيكي "ألبير الأول" للمغرب عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، واستقباله من قِبل السلطان مولاي يوسف وتوشيحه بحمالة الوسام العلوي الكبرى، كذا ما ورد حول أول سفير بلجيكي قدم أوراق اعتماده للسلطان محمد بن يوسف بعد استقلال البلاد في غشت ألف وتسعمائة وستة وخمسين؛ فضلاً عن زيارة رسمية لملك بلجيكا "بودوان" للمغرب نهاية ستينيات القرن الماضي، وتلك التي قام بها الملك الحسن الثاني لبلجيكا عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثمانين. بعض من كثير ما جاء في هذا المؤلف وجوانب وغيرها من دبلوماسية مغربية شهدت دينامية متميزة، إقليمية ودولية، خلال القرنين الأخيرين، استحضرها كتاب "الذاكرة المشتركة بين المغرب وبلجيكا" برصده لِما حصل من طفرة علاقات كان فيها المغرب بنهج دبلوماسي وتفاعل طبعته جملة رهانات وآفاق عمل وتعاون على أكثر من صعيد. بكل هذا وذاك من قضية ودبلوماسية وطرح وتحليل وتوثيق وأسناد، يسجل لكتاب "الذاكرة المشتركة بين المغرب وبلجيكا" إغناؤه للوحة جانب من جوانب تاريخ مغرب معاصر، من أجل فهم أهم وأعمق لطبيعة علاقات زمن ضغوط استعمارية وردود فعل ووقائع فاصلة ومتغيرات. وعليه، بقدر ما استهدف الإحاطة بعوامل ومظاهر تواصل وتلاقح ثقافي حضاري، بقدرما أبرز هذا العمل البحثي التاريخي ذاكرة مجالين جغرافيين، ومن ثمة بلدين، من شأن استثمار مشتركهما الرمزي تطوير الكائن من علاقات وأوراش بينية. ولا شك أيضا أن أهمية الكتاب تكمن في تسليطه الضوء على جوانب هامة تخص تفاعلات بلاد، ذلك أن العلاقات المغربية البلجيكية في بعض تجلياتها وآليتها وتفاعلها كذا قضاياها ليست سوى وجه مصغر لعلاقات مغربية أوربية عموما. يذكر أن زمن المغرب العلائقي كان قبلة دراسات عدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، دراسات نِتاج عمل باحثين مؤرخين مغاربة أغنت نصوصهم ومقارباتهم خزانة البلاد التاريخية والدبلوماسية. وغير خاف عن مهتمين باحثين أن الزمن البيني المغربي الأوربي خلال القرن التاسع عشر كان أول وجهة لهذا الورش في بداياته، لِما توفر من مادة علمية مرجعية داعمة جمعت بين أرشيف وطني وآخر أجنبي، كذا وثائق دبلوماسية وغيرها. وقد أبان ما أنجز حول العلاقات المغربية الأوربية من دراسات عن تفاعل تاريخي وطبيعة تماس مجالي وتوازنات، فضلاً عما كان عليه المغرب من تجربة دبلوماسية ورؤية، ومن ثمة من إرث رمزي. وجدير بالإشارة إلى أن من بصمات الدراسات المغربية العلائقية ما أسهم به إبراهيم بوطالب، وما كان بسبق في الحديث عن العلائقي المغربي الفرنسي منذ ستينيات القرن الماضي، دون نسيان عبد الهادي التازي وذخيرة مجلداته حول تاريخ البلاد الدبلوماسي. بل من الباحثين المغاربة الذين كانوا بفضل في توسيع وعاء هذا الرهان نجد أحمد بوشارب وعثمان المنصوري، اللذين تناولا العلاقات المغربية البرتغالية، كذا ما توجه بالعناية إليه خالد بن الصغير الذي رصد العلاقات المغربية الإنجليزية في زمن حرج بأزمات عدة وأطماع وضغوط أجنبية. وضمن إرث تفاعلات حوض المتوسط كانت العلاقات المغربية الإسبانية بحكم الجوار موضوع أبحاث، تباينت وجهاتها وقضاياها وطروحاتها في علاقتها بفترة استعمار وطبيعة وقائع فاصلة وردود فعل وتطورات. وأما عن علاقات مغربية إيطالية كانت في حكم مجهول، يسجل لبهيجة سيمو أنها ملأت بياضا حقيقيا معتمدة زخماً من وثائق نفيسة سمحت بنص رصين أثرى خزانة البلاد التاريخية. وعن العلاقات المغربية العثمانية يصعب القفز عما كان لعبد الرحمن المودن وعبد الرحيم بنحادة وعبد الحفيظ طبايلي، من مساهمة عبر دراسات كشفت عن جوانب دفينة كانت مغمورة حول هذه العلاقات منذ العصر الحديث. ويسجل أن ما كان عليه هؤلاء من هاجس بحث وأرشيف وتوثيق وتنسيق أغنى خزانة المغرب بنصوص هامة حول علاقة المغرب بالعثمانيين، ومن ثمة حول علاقتهم بالبحر المتوسط وبلاد المغارب. دون نسيان ما تراكم حول العلاقي المغربي المغاربي من أبحاث بقيمة مضافة هامة، منها ما أنجز من قِبل عدد من الباحثين حول العلاقات المغربية الجزائرية، وما تقاسمته هذه العلاقات من ظرفية استعمار وردود فعل وتفاعل ومواقف ومسألة حدود وغيرها؛ فضلاً عما تمت مقاربته من قضايا حول العلاقات المغربية الإفريقية، سواء قبل أو بعد إحداث معهد للدراسات الإفريقية. وصوب اتجاه علائقي مغربي آخر بعيداً عن المجال الأروبي والإفريقي، يسجل لمحمد بنهاشم أنه كان بسبق في التأصيل لعلاقات مغربية أمريكية، بدراسته لتمثيل دبلوماسي أمريكي في المغرب خلال فترة دقيقة طبعته أواخر القرن التاسع عشر إلى غاية فرض الحماية عليه. هكذا كان هؤلاء وغيرهم من دارسين مغاربة عبر نبش بحثي حثيث لسنوات، بدور في بلورة أعمال علمية رفيعة تيمة توثيقا ونهجا، بل مرجع ما جاء لاحقاً. وضمن نفس مسار العلاقات المغربية الأمريكية، إنما تلك ذات العلاقة بأمريكا الجنوبية، يسجل لسمير بوزويتة رصده أصول تمثيل دبلوماسي مغربي أمريكي جنوبي، بمقاربته ما طبع العلاقات المغربية مع البرازيل وفنزويلا والمكسيك والأرجنتين؛ ولعل بقدر ما عرض لأصالة دبلوماسية مغربية بقدر ما وضع صورة تاريخية موثقة عن تمثيلية فعل البلاد الدبلوماسي زمن القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فضلاً عن دعوته لقراءة تاريخ مغرب معاصر من زاويته الدبلوماسية. ولعله بمؤلَّفه الجديد "الذاكرة المشتركة بين المغرب وبلجيكا"، يكون سمير بوزويتة، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، قد توجه لرصد تفاعل دبلوماسي آخر، ذلك الذي تعلق بالعلاقات المغربية البلجيكية من خلال الأرشيف؛ ليبقى بقدر ما استهدف توسيع وعاء دراسات وإغناء نصوص خزانة مغربية، بقدر ما أبرز مشتركا رمزيا بين بلدين، وكان مما خلص إليه أهمية انفتاح أكثر للبحث والباحثين على تجليات العلائقي المغربي، مع ما ينبغي من تنقيب حول مشترك وذاكرة وعيا بما يمكن أن يسهما به، وما يمكن أن يسهم به التاريخ والمؤرخون خدمة لحاضر ومستقبل مغرب. عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث