(لا تيأسوا ولا تحزنوا.. إن الله معنا) طالما نظرت إليه، فرأيته مطأطأ الرأس، مقوس القناة، ناشبا أظفار بصره في الكتب والأوراق والمجلات أمامه.. وقلم الرصاص لا يفارق أنامله الرقيقة، يسطر تحت هذه الجملة، ويطوق -بهالة- تلك الكلمة، ويطوي طرف هذه الصفحة.. وبين الفينة والفينة، يبتسم وقد يقهقه، ويشبك أصابع يديه، وكأنه عثر على إكسير الحياة..! لطالما رأيته كذلك، مرارا وتكرارا، صباحا ومساء.. مذ صرت من مرتاديي هذا المقهى، قبل سنة تقريبا.. فصرت أتخذ مجلسي قرب "مكتبته" بالمقهى، وأسترق النظر إلى ما بين يديه من الكتب والدفاتر والأوراق؛ "ديداكتيك تدريس.." "بيداغوجيا.."، "الكتاب الأبيض.."، "الرؤيا الاستراتيجية.."، "تدريسية اللغة.."، "علم النفس التربوي..".. ومجلدات أخرى رص بعضها فوق بعض؛ "شرح ابن عقيل.."، "الكشاف"، "أسرار البلاغة"، "الخصائص"، "فقه اللغة".. فأجيل نظري بين ما يتراءى لي من سطور، وتقودني الكلمات التي تسقط عليها عيني إلى عالم مخملي، كدت أنساه بفعل الزمن: (النظم، التخييل، الادعاء، المجاورة، التوارد، طبقات.. البرنامج الأدنوي، النموذج المعيار..)، وأفهم أنه بصدد الاستعداد لمباراة التعليم، التي لم يبق على الاعلان عن تفاصيلها إلا أيام معدودات، وعن اجتيازها أسبوعان أو ثلاثة.. ..اليوم، بعد أسبوع، رأيته -على غير العادة- مكفهرا مغتما، مقطب الحاجبين، كثير الزفير والتنهد، والكتب موصودة مطوية أمامه، بين يديه لوحه الإلكتروني، يرن مشعرا إياه بجديد، فيزفر زفرة كأنها تخرج من فوهة بركان، أو يلطم بيده على الطاولة، حتى يترنح كأس القهوة، ويفيض كأس الماء..! أثارني سلوكه، وأباح لي التلصص على لوحه، الذي سرقت منه عيناي وابلا غزيرا من عبارات؛ "عيد ميلاد سعيد يا جميل"، "سنة حلوة.."، ".. بمزيد من التوفيق والسداد"، "..إن شاء الله نراك أستاذا متألقا..".. وفجأة أستدار عندي على حين غرة، بعدما لاحظ التصاق عيني بشاشة جهازه، فقلت رفعا للحرج: "عيد ميلاد سعيد، بتحقيق ما لم يحقق بعد.." فتنهد.. ووقع علي رده أحد وأمضى من السكين "إنه عيد ميلادي الثلاثين..!!" فقمت لاعنا مجلسي وكل المجالس والنماذج..!