في اليوم الرابع من دجنبر من هذا العام وصلت مسيرة حياة بيير رابحي، بعد عمر مديد، إلى محطتها الأخيرة. كان مزارعا، وإيكولوجيا، وكاتبا، وفيلسوفا. عاش مبهرا بهدوئه، وبهيئته البسيطة، وبشخصيته الباذخة إنسانيا. ورحل دون أن يرحل إذ ترك فلسفة، ومشاريع كثيرة ومتنوعة، وأتباعا وأصدقاء ومُحبين يوصّلون رسالته، ويواصلون مسيرته. ومع ذلك لا يبدو اسمه مألوفا عندنا. عاش غريبا عنا ومات غريبا. فاسمه غير متداول خارج دائرة الباحثين والمهتمين بميدان البيئة في العالم العربي. كما أنه غير معروف لدى قراء اللغة العربية لأنه لم يترجم بعد إليها، علما أنه من أصول عربية. لا بد أنه كان سعيدا في موته كما كان يسعى إلى السعادة في حياته. فمن يعيش سعيدا لا بد أن يموت سعيدا. بعد حياة في المدينة خبر خلالها الضياع والاغتراب والإحساس باللاجدوى قرّر العودة إلى الأرض. ترك كل شيء وراءه، ولم يكن ثمة شيء وراءه غير أغلال العمل، وسعادة مصطنعة، وحياة تافهة تخفي تفاهتها في أوهام برّاقة، وفي سراب خادع. هاجر من المدينة غير آسف على شيء، باحثا بين أحضان الطبيعة عن سعادة أصلية وأصيلة. السعادة في نظر بيير رابحي لا تكون إلا في علاقة وطيدة بالأرض. أنشأ مزرعة، وعكف على خدمتها، وعلى تجويد تربتها ومنتجاتها، دون أن يضحي بخصوبتها. وعاش بعيدا عن الصخب قريبا من نفسه. يرى رابحي أن علاقة الإنسان بالأرض تغيرت كثيرا. إذ أفرغ الإنسان الأرض من عمقها الإنساني، وجعل يعاملها كوسيلة تخدم مصالحه الاقتصادية الضيقة. فباتت مجرد شيء تقاس قيمته بمردوديته. وفي سعيه المستمر إلى مضاعفة المردودية، وزيادة الأرباح، لا يتوانى في استخدام أي شيء، بما في ذلك الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية، وغيرها من المواد التي تسممها، وتقتل الحياة في أحشائها. ما عاد من الممكن في الوقت الراهن الحديث عن الزراعة بمعناها القديم، حيث كانت علاقة الفلاح بأرضه علاقة وجدانية قوية. لقد صرنا نتحول شيئا فشيئا من الزراعة إلى، ما يسميه رابحي نفسه، ب"الصناعة الزراعية". منذ فجر الحداثة أخد الإنسان يؤلّه نفسه، ويضعها في المرتبة الأعلى في سلم الكائنات، ويجعلها وصية على كل شيء في الكون. وقد عمّقت الاكتشافات والاختراعات والصناعات المتطورة والمختلفة هذا الاعتقاد لدى الإنسان إلى أن جاءت كورونا لتزيل اللثام عن الحقيقة، وتكشف الوهم، وتعيد الإنسان إلى حجمه، وتبين له مدى ضعفه وهشاشته. وهذا درس مهم في نظر رابحي لأنه يجعل الإنسان يعيد النظر في ذاته، وفي علاقته بالآخرين، وفي علاقته بالطبيعة. بطبيعة الحال لقد بدأت المشكلة قبل كورونا بكثير. وهي تكشف عن افتقار الإنسانية في نظر رابحي إلى نزعة إنسانيةHumanisme . وهذه النزعة الإنسانية هي التي بوسعها أن تنقد الإنسان من نفسه، ومن تسلطه على الآخرين، وتنشر الأمن والسلام والحياة الكريمة في كل مكان، وتضمن استمرارية التنوع البيولوجي والثقافي في العالم. والغريب أن تحقيق هذه الأهداف لا يحتاج إلى شيء آخر غير تفعيل طاقة حقيقية وواقعية هائلة موجودة أصلا في قلب الإنسان. وهذه الطاقة هي الحب. وهي لا تهم علاقة الناس في ما بينهم فقط، وإنما يمكنها أن تفيض على كل الأشياء، وعلى كل الكائنات. والحب الحقيقي في نظر رابحي لا يمكنه أبدا أن يولّد شيئا آخر غير الحب. كل ما يتطلبه الأمر هو أن يتواضع الإنسان، وأن يغيّر طريقة تفكيره، ومنظوره للأشياء وللحياة. ويركز رابحي هنا على أن المسؤولية ملقاة على عاتق كل واحد على حدة وليس على المؤسسات السياسية والاقتصادية. فتدخل هذه المؤسسات يكون فقط لإصلاح أخطاء تُرتكب باستمرار. إن كل واحد منا مسؤول بشكل من الأشكال عن هذا الوضع الخطير الذي نعيشه، والذي لا يزداد إلا خطورة. وهنا يستحضر رابحي أسطورة أمريكية-لاتينية عن طائر الكوليبري(Colibri) . وهو طائر يحاول إطفاء لهب غابة تحترق بماء يحمله بمنقاره الصغير، لكن يواجهه حيوان (Tatou) يعمل على تثبيط همته، وعلى جعله ييأس. ويأتي جوابه إنه يعرف أن ما يحمله من ماء لن يطفئ النار، لكنه يفعل ما بوسعه فعله (Je fais ma part). لقد كان رابحي نفسه مثل ذلك الطائر تماما. حاول دون أن يدخر جهدا انقاد العالم من الدمار. والأهم أنه قام بواجبه، ليس عن واجب فقط، وإنما، وبالأساس، عن حب. وهذا يقتضي من بين ما يقتضيه، أن يغير الإنسان سلوكه الاستهلاكي. يجب أن يكتفي بما هو أساسي لحياته. على العموم، ثمة أربع حاجيات أساسية، وهي: الأكل واللباس والسكن والعلاج. وما تبقى مجرد كماليات، لكنها تميل إلى أن تصبح ضرورية أكثر فأكثر، على الرغم من أن الحاجة إليها تعبير عن نقص روحي أكثر مما هو تعبير عن حاجة حيوية ما. فالسيارة الفارهة ترف وليست حاجة. إنها بمثابة Phallus social تستخدم كواجهة للتباهي الاجتماعي، ولإثبات الذات بإظهار ما تملكه. ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على التوازن الصعب بين النمو الاقتصادي والبيئة، وعلى الاعتدال في الاستهلاك، وعلى سعادة البساطة، وعلى بركة القليل. من جهة أخرى تفتقر الإنسانية في نظر رابحي إلى الذكاء. صحيح أن الإنسان استطاع أن يطور ملكاته الذهنية، وقدراته المختلفة، لكن ذلك لم يجعل منه كائنا ذكيا. فصناعة قنبلة نووية يتطلب إمكانيات معرفية وتقنية لا حدود لها، لكن ليس من الذكاء في شيء صناعة مثل هذه القنبلة. كما أن ثمة ميزانيات ضخمة تخصص لتطوير تقنيات القتل ولا تخصص ميزانيات مماثلة لتعلم حب الحياة. لا شك أن العلم مهم لكن إذا لم يكن موجها بوعي فإنه سيكون كارثيا لا محالة. وهنا تكمن المشكلة في نظر رابحي: كيف يمكن للإنسان أن يصبح ذكيا؟ يجيب رابحي بأنه يمكن للإنسان أن يتعلم الذكاء من الحياة نفسها. يمكنه أن يستلهمه منها، يكفيه مراقبتها والتعلم منها. يبدو جليا أن الإنسانية ليست شيئا معطى، ومسلما به بشكل قبلي، وتولد مع الإنسان، وإنما هي شيء يجب تعلّمه وتعليمه. وفي هذا الإطار يولي رابحي أهمية كبيرة للتربية. فمن أجل ترسيخ سياسة حب الحياة، وترسيخ أخلاقيات جديدة، وغرس روحانية جديدة، وخلق ذكاء إنساني جديد، نحتاج إلى تربية جديدة. فبدلا من أن نعلم الأطفال كيف يكونون مهمّين ومهيمنين ومنافسين شرسين ومتميزين في كل شيء، يجب أن نركز على أن نعلمهم كيف يكونون متضامنين ومتعاونين ومتآخين، وبكلمة محبين ومتحابين. وبالموازاة مع ذلك يجب أن نفتح أعينهم على الطبيعة، ونعلمهم أهمية الحفاظ عليها، ونحثهم على الدخول معها في علاقة جسدية مستمرة. يجب أن نعيد لهم القدرة على الاندهاش أمامها. تلك القدرة التي باتت تتراجع وتضمحل شيئا فشيئا. إن كل شيء فيها جميل، ومدهش، ومعجزة. لقد عمل العلم والتقنية على نزع الطابع الغرائبي والعجائبي عن العالم، وحان الوقت لأن نعيد إليه ما سلبناه منه. ولعل من شأن هذا أن يجعل مرة أخرى كل شيء جميلا، ويجعل الحياة غنية وعميقة، وذات معنى. وفي هذا السياق يرى رابحي أن السؤال الأهم ليس هو: هل هناك حياة بعد الموت؟ وإنما هو: هل هناك حياة قبل الموت؟ لا شك أن الجواب عن هذا السؤال لا يجب أن يكون عبارة فقط عن كلام نظري مجرد، وإنما أن يكون عملا يوميا، وممارسة ميدانية، ونمط حياة.