أصبح موضوع الطعن بالاستئناف في القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية يوم 29 شتنبر الأخير، القاضي بإلغاء الاتفاقيتين التجاريتين الموقعتين بين الرباط وبروكسيل المتعلقتين بالتجارة والصيد البحري، خارج دائرة اهتمام الحكومة المغربية، لمبررات قانونية وتاريخية وسياسية طبعا. فمن الناحية القانونية فالأصل أن للأحكام أثرا نسبيا، أي لا يضار ولا يستفيد منها إلا من كان طرفا في الخصومة حقيقة أو حكما، والمغرب لم يكن طرفا في الدعوى التي صدر بشأنها قرار المحكمة الأوروبية المذكور، باعتبار أن طرفيها هما الاتحاد الأوروبي من جهة ومرتزقة البوليساريو من جهة أخرى. ولعل القضاء الأوروبي بقراره هذا أضر بمصالح أعضائه جراء التطبيق الجامد لقوانين أصبحت متجاوزة، وجدت في الأصل لتفادي تكرار كوارث الحربين العالميتين. ولعل ذلك من بين الأسباب التي أدت إلى خروج بريطانيا من الحظيرة الأوروبية؛ ناهيك عن الأزمة القانونية الحالية، إذ لم تقبل اللجنة الأوروبية بقرار المحكمة الدستورية البولونية القاضي بأولوية القانون البولوني على قوانين الاتحاد الأوروبي. إن العلاقة التاريخية التي تربط الضفتين لا يمكن بحال من الأحوال أن يحجبها قرار المحكمة الأوروبية أو أن تنظمها وتضبطها قواعد قانونية متجاوزة، بل إنها خضعت لصيرورة تاريخية تحكمت فيها الحروب والصراعات تارة، وتارة أخرى الهيمنة والوصاية. ولعل إطلالة موجزة على العلاقة التاريخية بين الضفتين كفيلة بتأكيد حقيقة مفادها أنها تتجه وبالتدرج نحو بناء علاقات عادلة يحكمها الاحترام والمصالح المتبادلة والوضوح، بعد أن كان القوي يفرض منطقه. فقبل الحماية كان المغرب محط أطماع القوى الاستعمارية، إذ أبرم مع إسبانيا العديد من الاتفاقيات المتعلقة بالصيد البحري اتسمت بعدم التكافؤ، فتأتى لها تركيز نفوذها وتنمية مصالحها به أسوة بالدول الأوروبية الأخرى، وأسست لما اصطلح عليها ب"الحقوق التاريخية". فكل من اتفاقية مراكش لسنة 1767، واتفاقية السلام والصداقة والملاحة والتجارة وصيد الأسماك بمكناس سنة 1799، واتفاقية التجارة لسنة 1861، أعطت إسبانيا حرية كبيرة في المياه المغربية والاحتكار الرسمي للصيد بها. وتكرست تلك الحقوق بإعلان الحماية سنة 1912، إذ أصبحت إسبانيا المكلفة بتحصيل الرسوم، علما أن اتفاقية الجزيرة الخضراء كانت قد أقرت سياسة الأبواب المفتوحة والمساواة الاقتصادية، فلم يكن للمغاربة الحق في الصيد إلا في حدود 6 أميال. وبإعلان استقلال المغرب ورغبته في استغلال ثرواته السمكية تأثرت مصالح إسبانيا بعد أن تم تنظيم العلاقات الثنائية المتعلقة بالصيد من خلال نظام مؤقت ملحق باتفاقية التجارة لسنة 1957. وبدأ التعامل بالمثل ينظم علاقة البلدين بعد أن كان العمل بالحقوق التاريخية إلى حين إبرام اتفاقية فاس في 4 يناير 1969، التي دخلت حيز التنفيذ في 13 مايو 1969، وارتبطت باسترجاع مدينة إفني، إذ أنشئت بمقتضاها ولأول مرة لجنة ثنائية مختصة في التخفيف من النزاعات دون أن تكون لها اختصاصات قضائية للبت في المخالفات؛ وقد استطاعت فيها إسبانيا انتزاع بعض المزايا المعتبرة "حقوقا تاريخية" لم تدم طويلا بعد أن قرر المغرب تمديد مياهه البحرية إلى 70 ميلا سنة 1973 ثم إلى 200 ميل سنة 1981، ما شكل ضربة قوية لقطاع الصيد الإسباني، إذ اعتبرت إسبانيا نفسها متضررة من الأنماط الجديدة للصيد التجاري الذي فرضه المغرب، وأجبرت على التفاوض على اتفاقيات مرهقة ومكلفة. بدخول إسبانيا إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت اتفاقيات الصيد البحري من اختصاص الاتحاد الأوروبي، وكان طبيعيا أن يستخدم المغرب ورقة الصيد البحري لخدمة سياسته الخارجية ومصالحه الإستراتيجية. وقد ووجهت هذه الخطوات المغربية بمناورات سياسية من قبل إسبانيا مساندة من قبل أوروبا. ومما لا شك فيه أن الصيد البحري بالنسبة لإسبانيا وأوروبا في المياه المغربية هو موضوع حيوي منذ القدم، وستزداد أهميته أكثر بعد التحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم. وقد كان الأسطول الإسباني في حاجة ماسة إلى اتفاق مغربي أوروبي لعدم قدرته على التكيف مع مصايد مغايرة، عكس سفن التجميد الكبيرة التي تم طردها من ناميبيا، وبوسطن، والنرويج و"منظمة مصايد شمال الأطلسي". واستطاع المغرب أن يصمد خلال مفاوضات جد عسيرة أبان فيها عن طول نفسه إدراكا منه لمواجع الطرف الآخر. ومن خلال هذه الإطلالة المختصرة على تاريخ العلاقات المغربية الإسبانية أو الأوروبية، وفي ظل التحولات التي يعرفها حوض البحر الأبيض المتوسط، أصبحت العلاقة بين الجوار محكومة بالوضوح لبناء مستقبل يسوده السلام والرفاهية ومراعاة المصالح المشتركة. وأعتقد جازما أن المغرب لن يقبل التمييز بين مياهه ويابسته من طنجة إلى الكويرة كما يستشف من الخطاب الملكي بمناسبة عيد المسيرة، ليبقى قرار المحكمة الأوروبية حجة بين طرفيه، ولا دخل للمغرب فيه. لقد ولى عهد "الحقوق التاريخية" المبرمة بالقوة بعد أن تقلصت الهوة التي تفصل الضفتين، فلا قدرة لأي قرار على أن يختزل صيرورة التاريخ والجغرافيا، سوى وضوح المواقف وتغليب قوة المنطق على منطق القوة.