إن عودة عبد الإله بنكيران إلى الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية لم تأت بمحض المصادفة، لقد تم التخطيط لها طيلة أيام العملية الجراحية التي خرج منها بنكيران سليما ومعافى. ومن المتوقع أن ينكب بنكيران، في الفترة المقبلة، على القيام بعملية جراحية تجميلية لحزب العدالة والتنمية، تكون بمثابة ولادة قيصرية جديدة، تُخرِج الحزب في "لوك LOOK" أو مظهر خارجي مختلف. لم يعد بنكيران إلى قيادة حزبه ليعيد إطلاق قهقهاته الساخرة إزاء خصومه، أو من أجل ترديد حكاياته الرمزية المقتبسة من عالم الحيوان. لقد بُعث بنكيران من قِبَل أهل "الحل والعقد" لكي يمارس دَور المرشد في هذا التيه الحزبي الذي يوجد في حالة تفتت تنظيمي، بعد نكسة انتخابات الثامن من شهر شتنبر. لم يعد بنكيران إلى حلبة المواجهة السياسية لكي يتشابك مع عزيز أخنوش، رئيس الحكومة الجديد، من أجل تصفية حسابات سابقة، أو أن ينازع المعارضة اليسارية على قيادتها. لقد عاد بنكيران إلى الأمانة العامة لحزب "المصباح" من أجل التأسيس لقطيعة جذرية مع الصورة "الشعبوية" التي عُرفت عن هذا الحزب، في أفق القيام بمراجعة فكرية وتنظيمية؛ وذلك بهدف تجديد خطابه الديني وعصرنة قاموسه وتنقيح مرجعياته، وممارسة سياسة النأي بالنفس عن أطروحات الإخوان المسلمين الدوغمائية التي تدعو إلى الانغلاق المتشدد ومواصلة عدم الفصل بين الدعوي والسياسي، من خلال تجميد العلاقة الرابطة بين "البيجيدي" وحركة "التوحيد والإصلاح" وفك الارتباط القطعي مع ازدواج العضوية بين السياسي والحركي. أما على المستوى التنظيمي، فإن العمل سينصب على تعبئة القواعد الحزبية ودعوتهم إلى الالتفاف على وحدة الحزب. لقد شدد بنكيران، إبان انعقاد المؤتمر الاستثنائي، في كلمة موجهة إلى المؤتمرين، على (أن حزبه على المستوى التنظيمي يطمح إلى إعادة رص الصفوف بمصالحة المتخاصمين وإعادة الحماس لمن فقدوه) من مناضلي الحزب الذين أصيبوا بصدمة نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومن الذين لم يحسموا موقفهم الواضح من طبيعة المَلَكية في المغرب، ووعدهم بنكيران بأنه لن يكون متسامحا معهم في هذه الفترة، واكتفى بذكر اسم واحد من هذه الفئة المتنطعة الذي كان يمازحه أمام مناضلي المؤتمر بنعته "بالحماقة". كما أنه سيعمل على إبعاد بعض "البيجيديين" من الحرس القديم ومنظري المجال الدعوي في جمعية "التوحيد والإصلاح"، الذين ما زالوا يتشدقون بأن حزب العدالة والتنمية كان صاحب "فضل" على الدولة المغربية حينما حماها من المصير الذي انتهت إليه بعض الدول العربية التي اجتاحها الربيع العربي. كما أنه سيعمل على إبعاد بعض مناضلي الحزب من جيل المؤسسين إلى الصفوف الخلفية، لكي يشرك الشباب من الجيل الثاني في معركة المراجعة الفكرية التي سيقبل عليها الحزب في إطار تأسيس قطب إسلامي واسع. وسيعمل على التقارب التنظيمي وتقريب شقة الخلاف مع الأحزاب الإسلاموية المغربية في بوتقة جديدة، لكي يكون "البيجيدي" الحاضن لهم مع احتفاظهم باستقلاليتهم الرقيقة، وائتلافهم في القضايا الوطنية الكبرى، مثل حزبي "العدل والإحسان" الذي ما زال يبحث عن شرعيته و"النهضة والفضيلة"، وبعض الجماعات السلفية غير المهيكلة وبقية الجمعيات الدعوية والتربوية بعيدا عن الاندماج الكاثوليكي، يضاف إلى القطبين اليساري / الديمقراطي، بقيادة الاتحاد الاشتراكي حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية وفيدرالية اليسار الديمقراطي وحزب الأخضر المغربي، وبقية مكونات اليسار من الجمعيات الحقوقية والثقافية والنقابية وأفواج واسعة من مثقفي اليسار المستقلين، والقطب الليبرالي، مع حزب الأحرار الإداري الذي يعد مجرد "ظاهرة انتخابية" اقترن بشخص مؤسِسه أحمد عصمان، وهو لا يمتلك إلى حد الآن قيادة كاريزمية وليست له ملامح أيديولوجية وفكرية واضحة. ويعتبر هذا النزوع الوحدوي من أجل تأسيس تحالفات بين الأقطاب الحزبية الكبرى، على طريقة التركيبة الحكومية الحالية التي قامت على ما يسمى الأغلبية الليبرالية، كنموذج يقتدى بها في تأسيس جبهة مغربية عريضة من التحالفات بين الأحزاب شبه المنسجمة، وهي في الوقت نفسه بمثابة ضرورة تاريخية لتحصين جبهتنا الخارجية في مواجهة خصوم وحدتنا الترابية والمُعرقلين لمسارات التنمية البازغة التي يعرفها المغرب التي هي الفيصل الحاسم بالنسبة إلى تقويم كل موقف من قضيتنا الوطنية، كما جاء في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والستين للمسيرة الخضراء، الذي شدد على الوضوح في العلاقة الثنائية مع المغرب، متوجها "بالنسبة لأصحاب المواقف الغامضة والمزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم بأي خطوة اقتصادية أو تجارية لا تشمل الصحراء المغربية". أما بالنسبة إلى التوجهات الجديدة التي لمح إليها بنكيران في تصريحاته الملغزة على هامش التحضير للمؤتمر الاستثنائي للحزب، فقد جاءت على شكل إشارات غامزة عندما قال: (إن حزبه في حاجة إلى مقاربة جديدة تُبقيه فاعلا في المجتمع ونافعا للدولة) لكي ينكب على إعادة بناء الذات وترتيب البيت "البيجيدي"؛ لكن، على الرغم من دعوات ملك المغرب لحكام الجزائر إلى التحلي بالحكمة ويد المصالحة الممدودة إليهم من جهة المملكة المغربية، وطمأنته" للجزائريين بأن ما يسوءهم يسوء المغاربة والعكس صحيح، فإنه لا حياة لمن تنادي، يظهر أن سياسة اليد المفتوحة لطي صفحة الماضي لا تخدم الإستراتيجية الجزائرية التي ترى بأن المغرب عليه أن يواصل في تجسيد دور الفزاعة وأن عصابة النظام العسكري الحاكم في المرادية ما زالت تدق طبول الحرب، وأن هذا الوضع العدائي المريض جعلني أستحضر العبارة الصاعدة من أعماق روح المرحوم الملك الحسن الثاني الذي قال ذات مرة (إن مغربية الصحراء شيء لا جدال فيه، "إننا كنا ننتظر أن يعرف الناس مع من حَشَرنا الله في هذا الجوار"، وأن يعرف الناس النوايا الحقيقية لمن هم يساكنونا ويجاوروننا، لقد انكشف الغطاء، وعُرف كل واحد بقيمته الحقيقية وقيمته البشرية والسياسية، وهذا هو الربح الأول). لقد يئس المغاربة من كل مُفاهمة شفافة أو بادرة مصالحة مع قادة الانقلاب العسكري في الجزائر، فالمتتبع لكرونولوجيا الأحداث والوقائع يجد أن الجزائر كانت سباقة إلى المشاكسة المستفزة مع المغرب عبر منعه من عبور طائراته للمجال الجوي الجزائري، وهي التي بادرت إلى قطع العلاقة الدبلوماسية مع الرباط متهمة المغرب بارتكاب أعمال "عدائية". ولقد وصف المغرب هذه التصريحات العدوانية بأنها غير مبررة وعبثية، كما أنهم عملوا على إيقاف تمديد مرور أنبوب الغاز عبر التراب المغربي. وحسب جريدة العرب اللندنية (نرى أن هناك هجوما عسكريا وهميا لتهيئة مناخ الحرب مع المغرب) وأن حادثة قتل ثلاثة جزائريين يدحضها (النفي الموريتاني الذي يجرد البيان الجزائري من أية مصداقية). وما زالت تتوالى الأحداث العدائية من جهة الجزائر؛ وذلك في إطار تحويل أنظار الشعب الجزائري عن الواقع الاجتماعي المتردي، وتفاقم أوضاع الحقوق المدنية وخاصة لدى مناضلي الحراك الجزائري. لكن رُب ضارة نافعة، لقد أثمرت هذه المنازعات بين البلدين ظهور كتائب ضاربة من المثقفين المغاربة الشباب، المتطوعين للدفاع عن صورة الوطن المجيدة، بالكلمة الملتزمة والحجج الدامغة والثقافة المتنوعة التي أبهرت بعقلانيتها وموضوعيتها جمهور المستمعين والمتلقين المغاربة، وحتى الجزائريين في الضفة الأخرى؛ بينما نجد أن ما يسمى بالمحللين السياسيين عند الجزائر يعتمدون في سجالاتهم على خطابات متكلسة من زمن الحرب الباردة، وهم أشبه بالموظفين الذين يعملون في الإدارات زمن الحكم الستاليني الشمولي في عهد روسيا الشيوعية، يرددون كالببغاوات ما يُؤمَرون به من مافيا العسكر الجزائري، ويعكسون بذلك المستوى الثقافي المنحط لحكامهم، معتمدين على الشائعات الرخيصة التي يرددها الكابرانات ضد إخوانهم في الحراك الشعبي الجزائري، الخائفين من كل محاولة للتقارب بين الشعبين الجزائري والمغربي؛ وذلك عبر وسْم المغاربة بأحكام متهافتة تقوم على نظرية المؤامرة المشروخة، وفوبيا العداء الموجه للجار المغربي... لكن الملاحظ أن الوضع الجيوسياسي المغاربي لم يعد منحصرا بين الجارين المغرب والجزائر، ليطول علاقات المغرب مع الدول المغاربية؛ فعلى المستوى المغاربي، نلاحظ أن المشاكسات الموجهة من الأحزاب الإسلاموية التي تساند نظام المافيا الجزائري العسكري تستهدف المغرب تحديدا، خاصة عندما طالب التونسي راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة بتنسيق مع العسكر الجزائريين أن يقوموا بإقصاء المغرب من منظمة "وحدة المغرب العربي" وبتأسيس وحدة مغاربية جديدة تتكون فقط، من ليبيا وتونس والجزائر وبدون وجود المغرب، على الرغم أن المغرب هو مؤسس مؤتمر طنجة للاتحاد المغاربي سنة 1958. وفي السياق نفسه، اجتمع هذا الثلاثي المغاربي، أخيرا، للتحضير لمؤتمر باريس المتعلق بالأوضاع في ليبيا. وكان الهدف الخفي منه هو طرد المغرب وعزلته مغاربيا على شاكلة دولة قطر في صراعها مع الدول الخليجية. كما أن حزب (حركة مجتمع السلم) الإسلاموي في الجزائر كان يغتنم كل فرصة لانتقاد موقف سعد الدين العثماني من التطبيع مع إسرائيل، دون أن يتصدى الإسلاميون المغاربة لهكذا مؤامرات، ولم يعملوا على توضيح مواقفهم، وتركوا المجال فارغا أمام ادعاءات الإسلامويين التونسيين والجزائريين المغرضة، حتى انعقاد المؤتمر الاستثنائي ل"البيجيدي"، عندما خرج علينا بنكيران ولأول مرة، بخطاب موجه إلى المسؤولين الجزائريين لقي قبولا حسنا. لقد تأسس مشروع الإسلام السياسي على أطروحة الأمة الإسلامية والخلافة من جهة، وحتى إلى عهد قريب كان أتباع الإسلام السياسي من الإخوان المسلمين يمقتون الوطن والوحدة الوطنية، كما صرح مرشد الإخوان المسلمين مهدي عاكف "طز في مصر". ويساوي بعض الإسلاميين المتطرفين بين الوطن والكفر، حيث يتنازع مفهوم الوطنية والوطن بالمعنى الحديث مع مفهومهم للأمة والخلافة، بين الولاء للجماعة الإسلامية على الدفاع عن الأوطان. ولهذا، كانت حصيلة حزب العدالة والتنمية في ما يتعلق بملف الصحراء المغربية باهتة، عندما اكتفوا بالتعاطي معها على المستوى المبدئي كفرض كفاية، سواء على المستوى الحكومي أو الدبلوماسي أو النضالي، أيام أن كانوا يرأسون الحكومة في نسختها الأولى والثانية، ولم يدافعوا عن قضية الصحراء كما يفعل اليساريون والقوميون المغاربة بالحماس اللازم في المحافل الإسلامية والدولية منذ عقد الستينيات من القرن الماضي. من الممكن أن تكون عودة بنكيران إلى الأمانة العامة للحزب تكفيرا عن سنوات الضياع مع القضية الوطنية، أو من أجل الانتقال إلى معركة ممارسة المعارضة الصغرى إلى خوض المعركة الكبرى ممثلة في قضية الصحراء المغربية في المحافل المغاربية أولا والعربية والإسلامية. لقد لمح بنكيران في هذا الاتجاه نفسه لرئيس فريق "البيجيدي" المعارض في البرلمان بأن نهج المعارضة "البيجيدية" سيكون بقفازات ناعمة، وتخفيفا للضغط على حكومة أخنوش، ولربما سيكون هذا الموقف عند أحزاب الموالاة والمعارضة لكي يلتقوا في ميدان أُم المعارك لمُنازلة خصوم الوحدة الترابية، والله أعلم. (*) كاتب وباحث مغربي