"في السجن تصبح الذاكرة خليلا وعدوا في آن واحدا" -نيلسون مانديلا "إما أن الذاكرة خداعة كاذبة تختلق ما لا أصل له. وإما أن الدنيا تتغير بقوة لا ترحم الذكريات" -نجيب محفوظ. لقد تساقطت كل أوراق التوت، كي تكشف بجلاء واقع السجن الكبير الذي حشرت دخلت البشرية بقسوة، كما تساق بهائم الذبيحة وجهة المسالخ، وقد اختبرت حاليا هذه التجربة القاسية جدا والعبثية وفق مختلف الدلالات، شعوب الجهة المتحضرة مثل القابعة خلف الشمس. هكذا، هيمنت باسم دواعي طوارئ حرب الوباء واستعادة الرهان على "حياة طبيعة"! توتاليتارية شاملة عنيفة؛ ماديا ورمزيا، تآكل معها بسرعة غير منتظرة حيز الحقوق المدنية والشخصية، التي ناضلت في سبيلها البشرية لقرون عديدة؛ وضحت بأرواحها فداء لبلورتها على أرض الواقع، كي تستمتع بالحياة مثلما يجدر أن تكون حياة آدمية. إذن، ما الحياة اليوم؟ في خضم سياق أثخنته تماما أوبئة سوسيو/اقتصادية لسنوات عدة من صنع أنانية البشر أنفسهم، قلصت باستمرار معنى الحياة التي يفترض بها أن تكون مقبلة ومنطلقة، أي "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" كما قال درويش، بحيث يتحقق التوازن الوجودي المنشود دائما، بين الأنا والآخر وحقائقهما، غير ذلك تغدو الحياة جحيما لا يطاق؛ بل موتا غير رحيم. بالنسبة للجواب على السؤال، بغتة دارت الكرة الأرضية دورة على نفسها، دون إحداثيات هندسية معقولة، فرجعت القهقرى إلى الوراء، وألقت بجلِّ حمولتها؛ سخطا وغضبا نحو كوكب قاحل، بلا طراوة العناصر الكونية الأربعة التي تضفي معنى ملموسا على المقومات الأولى للحياة: الماء، التراب، الهواء، النار. إنها مكونات كوسمولوجية تجعل حقا الحياة ضمن سياق تحقق ممكناتها الأصيلة، مما يجعلها جديرة باستمرارها كحياة. بدأ مشروع تقويض نسيج هذه الجواهر الأربعة، منذ اشتعال ضراوة حروب الجشع بين أوليغارشيات الشركات العابرة للقارات، المهتمة أولا وأخيرا بمراكمة أرباحها وازدهار أرقامها المالية، بحيث انصب الهدف دائما على قاعدة احتفاظ خمس وعشرين مليارديرا على مقدار نفس ثروة نصف عدد البشرية، دون اكتراث يذكر بالتخريب الممنهج لمرتكزات الكون المادية وكذا سلامة بنية الطبيعة وتوازن المناخ، فتوطد هذا المسار الذي لا يمتلك قلبا ولا عقلا ولا حسا، فقط مكر وصوليين مستذئبين، بكيفية تتنافى كليا مع احتفاظ سليم لمكونات المجال الحيوي للحياة، على أفق فتوتها الإنساني والمبدع والخلاق.هكذا، ولجت البشرية طور انتحار جماعي يومي، جراء صنيع جماعة من المدبرين الجشعين لشؤونها. اندثار هوية العالم، بالكيفية التي تراكمت سابقا غاية مارس 2019، نتيجة القطيعة الوجودية التي أحدثها وباء كورونا، بحيث جسَّد أزمة أزمات الرأسمالية منذ دورة 2008، أحدث زلزالا نفسيا عظيما لدى الإنسانية قاطبة لا سيما الأفراد المنسجمين والمطمئنين بانقياد لا لبس معه حيال سيرورات السائد، فبدا لو أن هذا العالم، لم يكن سوى لحظة عابرة سرعان ما توارت مثل سحابة صيف، وأبقى فقط على حدَّين اثنين لا ثالث لهما: الذاكرة/النوستالجيا، بما أن الحاضر على كف عفريت يكابد مخاضا عسيرا، على جميع المستويات القيمية قبل الاقتصادية والسياسية، فلا أحد بوسعه التكهن بطبيعة المولود الجديد. المستقبل/الحلم، مجرد القريب قبل البعيد، وإن بدا جليا الأفق التراجيدي أقرب إلى كنه ما يجري. ربما الجماعة التي بوسعها الانبعاث ثانية سالمة غانمة، من أشلاء كل هذا الدمار، تلك التي امتلك أفرادها ذاكرة حية قصد التحاور باستمرار وعمق مع الماضي، قصد استحضار عبره، ثم خيالا متوثبا ومتوقدا، بهدف تحقيق التفاف دائم على ممكنات المصير المستقبلي. بمعنى ثان، الشعوب التي تبنت منذ زمان ضمن طليعة مشروعها المجتمعي، بناء الإنسان من الداخل والارتقاء بمكوناته الروحية والذهنية والوجدانية، وتلقنه أن الحقيقة تطويها أساسا ذاته، بحيث تكمن أمامه فرص دون توقف كي يبلور بحرية روافد مصيره، بحيث يبدأ كل شيء من الذات وينتهي عندها، ثم في مرحلة تالية بعد تقوية الجانب الأول، تأتي كليشيهات المظاهر ونوعية التوافق على الاستهلاك. يقال، وحده ثراء التجارب الشخصية التي اجتازها الفرد، تجعله ربما إنسانا بالمعنى النقي للكلمة، متسيِّدا بكبرياء على رحلته في هذا الوجود، مواجها بكل جرأة طوارئ الحياة. نفس القاعدة، تسمو موضوعيا وترتقي حضاريا بالشعوب التي اختبرت أطوارا عدة وبقيت دائما فاعلة لا تتراجع ولا تستسلم غير مطمئنة دائما لمبدأ الواقع، تتذكر مثلما تحلم، دون الاستكانة سلبيا إلى سكينة الذكرى، كما أنها تحلم على نحو يجعل معطى الحاضر سلسلة ممكنات لانهائية قصد تحقيق شتى الماهيات.