مثل التسول عبر التاريخ ويمثل حتى اليوم مرآة تعكس الاختلال الاقتصادي والاجتماعي وعدم التوازن السياسي في المجتمعات. ظاهرة تشكل حيزا على هامش التجمعات البشرية المبنية على قانون البقاء للأقوى والاستمرارية للأصلح، في غياب ترابط وتضامن القوى المكونة لهذا المجتمع. فوفقا لهذا المناخ ترسم هذه الظاهرة لوحات خزي بأشكال وألوان من البراءة والسذاجة أحيانا، والمكر والحيلة أحيانا أخرى. إما بدافع الإكراه والضرورة أو الاختيار والخبث. إنها تنحت مما يدور حولها نماذج وقوالب فكاهية ظريفة تارة، وعنيفة شرسة تارة أخرى. فعلى الرغم من قدم هذه الظاهرة البشرية، فإن لا أحد يستطيع أن يحدد تاريخ بداية التسول ولا متى انطلق؛ لكن ما هو قار وثابت هو أن لها علاقة مد وجزر بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ظاهرة جاءت دائما كإفراز للأزمات السياسية أو الاقتصادية، التي تجتاح المجتمعات من نوعية الحروب والصراعات على السلطة وما يترتب عنها من المجاعات والهجرات الجماعية أو من خلال الكوارث الطبيعة، زلازل وفيضانات وسوء المحاصيل والقحط والجفاف. لقد حظيت ظاهرة التسول باهتمام كبير من لدن الباحثين، كما حفظت لنا أدبيات شفاهية وكتابية حكايات وغرائب وطرائف التسول والمتسولين على اختلاف مشاربهم، وعلى مدى فترات من التاريخ وفي مواطن عديدة انطلاقا من الأسفار القديمة والكتب المقدسة والأساطير الشرقية والغربية. والأدب العربي لم يكن في معزل عن هذه الوثائق والتسجيلات، فقد خلف لنا قديما وحديثا الكثير من هذه الظاهرة؛ مثل مرويات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمداني، وكتاب "حكايات الشطار والعيارين"، أو في كتب مؤرخين مثل أحمد ابن علي المقريزي (1364 1442 م) أو الجبرتي (1753 1825م). كذلك كانت ظاهرة التسول موضوع أعمال أدبية مثل رواية "زقاق المذاق" لنجيب محفوظ أو مسرحية "ملك الشحاتين" لنجيب سرور، أو يحيى حقي في "قنديل أم هاشم"، أو مسرحية "موكب السعيان" لمحمد تيمد، كما كان لها حضور بارز في أعمال مثل "البؤساء" و"أحدب نوتردام" لفكتور هيكو، أو "المتشردون" لماكسيم كوركي، وفي غير هذه من الإنتاجات الأدبية العربية والعالمية العالمي. فإذا كانت ظاهرة التسول تمثل مادة إبداعية تناولتها أقلام الأدباء بالشفقة والعطف عند فئة منهم، وبالريبة والشك عند فئة أخرى، أو بالاحتقار والامتعاض أو حتى كمرض عند فئة ثالثة، فإن بعض المتصوفة نظروا إلى التسول كأسلوب تربية النفس وترويض لها وكبح جماح التعالي فيها ودواء لكبريائها. وفي هذا الصدد، ينقل عبد الوهاب الشعراني، الذي يعد أحد أقطاب التصوف الكبار (1491 1565م)، عن شيخه علي الخواص (أحد أعلام التصوف في القرن العاشر الهجري) حين يقول: "إذا أدّب الله تعالى عبدًا بالفقر والحاجة وضيق العيش، فلا تحسنوا إليه إلا بالرغيف وستر العورة، وإياكم أن تجعلوا له مالا أو تغنوه". كما يروي الفقيه المفسر العلامة الصوفي التطواني أحمد ابن عجيبة (1748 1809م) في كتاب سيرته الذاتية "الفهرسة"، وهو يتحدث عن تأديبه من لدن شيخه محمد البوزيدي (المتوفى سنة 1814) تلميذ الشيخ العربي الدرقاوي (1737 1823م)، حيث يقول: "ثم أمرني"، أي شيخه البوزيدي، "بالسؤال في الحوانيت وأبواب المساجد. فما رأيت في الدنيا أصعب منه ولا أجهز لأوداج النفس منه. ولقد كنت أخرج بنية ذلك وأدور في السوق فيمنعني الحياء. فأرجع وأغبط من يفعل ذلك من الفقراء. وكانت نفسي تتمنى الموت الحسي مرارا في اليوم. حتى إذا كان يوم الجمعة حلفت لها باليمين المغلظة لتبدأن اليوم فلما سلم الإمام خرجت إلى باب الجامع، فجلست بين عجائز السعيان؛ بعضهم عميان وبعضهم فقراء. ومددت يدي معهم للسؤال... فكان وردي ذلك كل يوم بعد صلاة العصر. فبقيت كذلك ما دمت في تطاون". على الرغم من أن التسول قد يبدو لكثيرين أنه حرفة كسب المال مريحة، فإنه يخفي أحيانا وراء واجهته قذارة وبشاعة واستغلالا تتحكم فيها وتسيرها مافيات لا إنسانية. يكون ضحاياه بالدرجة الأولى الفتيات والفتيان الفقراء. صورة فظيعة ومقرفة لهذا العالم سجلها بفنية فائقة المخرج البريطاني داني بويل في فيلمه الرائع "المليونير المتشرد" 2008 المقتبس عن رواية "سؤال وجواب" للكاتب الهندي فيكاس سوارب. إنه عالم له أسراره وخباياه، ويتطلب من ممتهنيه جرأة وحنكة وتقمص أدوار شخصيات حربائية، تتكيف مع المكان والزمان في حلقات مسلسل دون نهاية. أدوار تقوم على قدرة الانسياب والتأقلم مع كل الحالات والظروف والطوارئ وسرعة الارتجال كصناع الفرجة. في الآونة الأخيرة، عرفت ظاهرة التسول انتشارا واسعا وشرسا مدثرا بالجشع أنياب الافتراس، سواء على صعيد التسول الحي المباشر للأفراد رجالا ونساء في الشوارع والطرقات أو غير مباشر مثل التسول عبر الأنترنيت وخلق مشاهد وسيناريوهات وطرق متنوعة لابتزاز المال. كما لم تعد هناك مدينة في العالم تقريبا لم تجتحها ظاهرة التسول بكل أنواعه وأشكاله، التي تتوالد وتتجدد كل يوم وتأخذ أشكلا وصورا متوالدة. ففي العاصمة الألمانية برلين مثلا، لا يمكن للإنسان أن يتصور يوما بليله أو نهاره في أيام العمل أو في نهاية الأسبوع أو في أيام العطل أو الأعياد دون أن يلاقي متسولا أو أكثر وهو يستقل مختلف المواصلات المتعددة داخل المدينة، من قطارات الأنفاق والقطارات السريعة أو قطارات الشوارع. تتعدد هنا الطرق والتسول واحد. إنهم كثيرون نساء ورجال؛ منهم ذوو الأصول الألمانية، أناس دون مأوى إما عن اختيار أو عن اضطرار وكثير من هؤلاء مدمنون على المخدرات أو الكحول. أغلبهم يتسولون عن طريق بيع جريدة أسبوعية اسمها "جريدة الشارع" أنشأتها سنة 1995 جمعية المشردين، خاصة للذين لا مأوى لهم تباع بسعر محدد، يتقاضى المتشرد عن كل نسخة باعها جزءا من ثمنها، وقد ينال تبرعات يجود بها المواطنون عليهم فوق سعر النسخة. هؤلاء المتسولون الألمان لهم شيء من القناعة، فهم يقبلون بكل أنواع الصدقات طعاما كان أو قنينات فارغة للجعة أو غيرها من المشروبات، يبيعونها لاحقا للصناديق الأوتوماتيكية للبيئة المنتشرة في كل الأسواق. منهم الظرفاء مثل تلك المتسولة الألمانية الشابة، التي تقف مع كلبها في محطة قطارات الأنفاق وتقدم خدمات للمسافرين المتسللين دون تذكرة، بتنبيههم إلى أي العربات يوجد بها الآن مراقبو التذاكر. أو ذلك الشاب الذي يحمل ديوان شعر من تأليفه يقصد أحد الراكبين وفي الغالب زوجان ويعرض عليهما إلقاء إحدى قصائده. متسول برفقة كلبين لا يطلب لنفسه شيئا وإنما لكلبيه اللذين لهما نظرات تثير الشفقة وكلهم يأمل في صدقات بلغة وطريقة مزجاة. أحد أظرف المتسولين رجل في سترة نظيفة بربطة عنق وشعر مصفف وله وسامة، يذرع شارع منطقة رفاه ذهابا وإيابا وهو دائما في حالة استعجال من أمره يوقف المارة وفي الغالب النساء يطلب منهن مبلغا زهيدا من أجل إجراء مكالمة هاتفية مستعجلة؛ لأن هاتفه المحمول، الذي يمسكه بيده، قد نفدت شحنته الكهربائية. آخر يتحدث بصوت عال وبلهجة ألمانية لا أعتقد أن أحدا في برلين من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية يفهمها. رجل بلباس أنيق يقف أمام كل راكب وهو يعبر القطار من بدايته إلى نهايته ولا ينبس ببنت شفة. على عكس هؤلاء هناك متسولون آخرون من طينة أخرى، متسولون من جنسيات مختلفة، عرب وأتراك يمثلون أقلية أمام الأغلبية الغجرية المتسولة القادمة من دول أوروبية مختلفة، وخاصة من أوروبا الشرقية. قليل منهم الرجال وأكثرهم النساء والفتيان والفتيات، وهؤلاء الأخيرون يتحدثون اللغة الألمانية بطلاقة؛ لكنهم يلعبون دائما دور الجاهل بهذه اللغة. في ألمانيا، يعيش أكثر من 120 ألفا من الغجر وهم كذلك طوائف وينتمون إلى فصائل غجرية مختلفة؛ فمنهم من يتسول بلغته الرومانية أو الصربية، ومنهم من يكتب طلبه على ورقة بخط واضح ويدور اليوم كله متنقلا بين عربات قطارات الأنفاق أو السريعة، منهم نساء يتسولن برفقة أطفالهن (إن كانوا أطفالهن حقا. فالأطفال يستأجرون أيضا من أجل التسول)، وهناك شابات حاملات حملا دائما لا يضعن حملن أبدا، ومنهم الموسيقيون الذين يعزفون اليوم كله من قطار إلى آخر نفس المعزوفة الصادرة عن مكبرات الصوت من الحجم الصغير أو المتوسط التي يجرونها خلفهم. معزوفاتهم من نوع البلاليكا الروسية. هناك متسولون لهم قدرة تجسيد التكيف والتأقلم مع الحوادث والمناسبات. مثل أولئك النساء اللاتي يجلسن قبل صلاة الجمعة عند أبواب المساجد أو في الطرقات المؤدية إليها. يغطين رؤوسهن بمناديل على طريقة (حجاب) المسلمات، ويمكثن هناك حتى نهاية صلاة الجمعة وانصراف آخر مصل من المسجد، وكل من مر بهن يحيينه بتحية "السلام عليكم" (بالعربية) يمنحن الشعور بأنهن مسلمات. في يوم السبت، يجلسن عند مداخل الممرات المفضية إلى المعابد اليهودية وعلى رؤوسهن مناديل على طريقة النساء اليهوديات، ويحيين كل مار بهن بتحية "شلوم". وفي يوم الأحد، يجلسون رجالا ونساء بأبواب الكنائس وكل من مر بهم ذهابا أو إيابا يرسمون أمامه إشارة الصليب على جباههم وصدورهم. آخر يضع على الكرسي بجانب كل مسافر حزمة مناشف الورق ثم بعد فترة يجمعها. صور عديدة للتسول تتوالد وتتطور كل يوم، التي لا يمكن حصرها في سطور محدودة. جماعة من الفتيان والفتيات الغجر من خلال لباسهم يقدمون أنفسهم كمنظمة خيرية تهتم بمكفوفي البصر في بلدانهم الأصلية. يحملون في أياديهم لوائح يطلبون من المارين التوقيع عليها كدعم لمطالبهم بحقوق المكفوفين. وحين يقع أحدهم في شباكهم ويوقع يطلبون منه التبرع بعشرة يورو للمنظمة. وغالبا ما يقع الموقع في حرج فيتبرع بقسط من المال. هناك طبعا الكسيحون، العرج والمعاقون منهم من يجلسون في كراس متحركة أو يتكئون على العكاكيز؛ لكن بمجرد أن تنتهي فترة تجسيد الدور، ينهضون من كراسيهم، يستقيمون من اعوجاجهم، تطوى هذه الإكسسوارات وتجمع هذه الأدوات وتوضع في سيارة وإلى الغد. لقد أثار عالم المتسولين انتباه واهتمام الكثير من الباحثين والأدباء، وكتبت فيه دراسات وأدبيات خالدة. فمما يثير الانتباه هو أن خمس سكان العالم يعيشون في فقر. كما أن هناك نسبة كبيرة من السكان تعيش على حافة الحاجة وهي مهددة بالانضمام إلى طبقة الفقراء المتسولين.