وددت لو أن الأمور في سوريا كانت بالبساطة التي يصورها الزميل العزيز محمد الراجي في مقاله "هل جن القوميون العرب؟" فما فهمته من هجوم زميلي - الذي أكن له الكثير من الاحترام - على موقف القوميين العرب المعارضين لتدخل أمريكي غربي عسكري (خارج مظلة الشرعية الدولية الممثلة في الأممالمتحدة ومجلس الأمن) أنه يقع في خانة الشعارات الحنجورية الجوفاء والحقد العاجز على الأمريكان وتوسع نفوذهم في المنطقة، ودعمهم الخجول لنظام يتستر خلف مبادئ القومية العربية. وقد يكون هذا التصور صحيحاً إلاّ أنه يغفل العديد من الجوانب المهمة والمعقدة للأزمة السورية والتي يجب على كل مراقب منصف أن يراعيها ويضعها نصب عينيه بدل الاصطفاف في خندق معين مشيطناً الخندق الآخر. وبعيداً عن نظريات المؤامرة التي يؤمن بها الكثيرون في التيار القومي العربي وغيره، هناك عدة حقائق لا نختلف عليها مهما كانت نظرتنا للأزمة السورية، فنحن نواجه اليوم نظاماً مجرماً سفاحاً يقتل شعبه سواء بالمجازر المروعة على الأرض أو بالقصف اليومي العنيف أو بالسلاح الكيماوي وهو أمر بات الجميع بلا استثناء مدركاًلخطورته ومدى إجرامه فضلاً عن خسته وانحطاطه. على الجانب الآخر، لدينا معارضة مسلحة تقف في مواجهة نظام الأسد وتتخندق خلف مبادئ الثورة السورية، غير أن هذه المعارضة، سواء كنا معها أم ضدها، تنطلق من منظورين مختلفين - وربما يصلان إلى درجة التناحر - فلدينا الجيش الحر وجناحه السياسي ائتلاف المعارضة السورية المدعومان من الغرب وبعض دول المنطقة (محور الاعتدال العربي) ولدينا جبهة النصرة وغيرها من فصائل التيار الإسلامي الجهادي (المغضوب عليهم من الجميع عرباً وغرباً ونظاماً). كما يدرك الجميع قوميين عرباً وغيرهم ضرورة وقف أنهار الدم وسيول اللاجئين والنازحين من رحى الحرب في سوريا. غير أن كلاً من الأطراف لديه وجهة نظر معينة للحل. فالجيش الحر وفصائل المعارضة المسلحة في الداخل السوري ترى التدخل الغربي بقيادة أمريكا ضرورة ملحة لوقف حمام الدم وكسر شوكة نظام الأسد الإجرامي وكذلك ترى فصائل التيار الجهادي، التي ترى التدخل الأمريكي والغربي من باب ضرب الظالمين للظالمين و"كفى الله المؤمنين شر القتال". إلى هنا يبدو أن الجميع متفقون على دعم الضربة العسكرية التي يحاول أوباما حثيثاً تأمينها ضد الأسد ونظامه. وهنا بالذات تبرز أهمية الرأي الآخر أو رأي القوميين العرب في المسألة بغض النظر عن دوافع تبني هذا الرأي. فالكل يعول على نجاح هذه الضربة العسكرية في إسقاط نظام الأسد على الأرض، ولكن ماذا لو وضعنا احتمالاً ضئيلاً لعدم سقوط هذا النظام المجرم بعد الضربة الأمريكية المزمعة خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن حزب الله اللبناني وشيعة العراق وإيران - دون أن نغفل الدور السياسي الدوليلروسيا والصين - سيضغطون بكل ثقلهم في هذه المعركة لصالح الأسد وزبانيته وربما يحولونها إلى معركة إقليمية كبرى. مما يبدو على الأرض وتوازنات القوى أن النظام في حال عدم سقوطه سيتوحش أكثر وربما يمارس أنواعاً من الإجرام والقتل قد تفوق ما شهدناه حتى الآن والدليل على قوة هذا السيناريو هي الأعداد المهولة للنازحين من سوريا في الأيام القليلة الماضية إلى لبنان وتركيا ودول الجوار خوفاً من انتقام الأسد ومن معه في حال توجيه ضربة عسكرية لهم. لكن لنطرح هذا السيناريو المرعب جانباً، ولنتخيل أن الضربة الأمريكية (التي لم نعرف حتى الآن هل هي محدودة أم موسعة، تهدف إلى إسقاط الأسد أم إضعافه فقط) نجحت في تحقيق هدفها الرئيسي وهو القضاء على نظام الأسد وخلصت الشعب السوري من سنوات الإجرام والقمع والاستبداد التي عاشها. هل ستنتهي الأمور عند هذا الحد؟وهل ستصل الأزمة السورية إلى النهاية السعيدة التي تستحق بعيش أبناءها في دولة الحرية والعدل والقانون ومعاقبة المجرمين والقتلة؟ رغم أنني أتمنى أن يتحقق هذا السيناريو من كل قلبي إلا أنني أستبعده نظراً لما شاهدته وقرأته من نتائج التدخل العسكري الأمريكي في الدول (أفغانستان والعراق وليبياكنماذج). أغلب الظن أن سوريا في حال سقوط الأسد ستتحول إلى عراق أخرى تتنازعه الصراعات الطائفية والمذهبية ويعيش على دوي الانفجارات الإرهابية اليومية. فبقايا نظام الأسد سينتقلون للعمل تحت الأرض لإفشال أي حكومة أو نظام آخر في سوريا عبر المجازر وعمليات القتل الانتقامية. وحتى إن لم يقم فلول النظام السوري بهذه المهمة فإن الصراع الذي سيندلع بين ائتلاف المعارضة السوري والجيش الحر من جهة والتيارات الجهادية بقيادة جبهة النصرة من جهة أخرى بضغط من الولاياتالمتحدة والغرب والعرب المعتدلين سيحول البلد إلى جحيم طائفي ودموي يصعب على أي إنسان العيش فيه. أكره أن أخرج بمثل هذا التحليل المتشاءم والسوداوي لمصير الأزمة السورية غير أن الحقيقة دوماً ما تكون مؤلمة وموجعة بقدر ألم ووجع أخوتنا السوريين الذين باتوا اليوم بين خيارين دمويين أحلاهما مر. أملي الشخصي أن تحصل المعجزة ويتخذ حل الأزمة السورية نفس المسار الذي اتخذته أزمة كوسوفو عام 1999 وأن أرى بشار الأسد في مكان سلوبودانميلوسيفيتش وهو يحاكم على ما اقترفت يداه هو وزبانيته في حق الشعب السوري الشقيق من جرائم وفظائع. إن الله ولي ذلك وهو على كل شيء قدير.