عاشت البشرية عبر التاريخ أنواعا مختلفة من الجوائح تركت تأثيرات في العقل الجماعي كان لها الوقع العميق على مجتمعاتها لن تنساها حتى اليوم تعد الجائحة وباء واسع الانتشار بين البشر يتجاوز مجتمعا معينا ويمتد أحيانا خارج حدود الدولة الواحدة أو القارة الواحدة، بل إن من عايش الجائحة لا يزال يتذكر تفاصيلها القاسية تارة والمؤثرة تارة أخرى. أما بالنسبة لجائحة كورونا (COVID 19) في العصر الحالي والذي يعرف كذلك باسم المرض التنفسي الحاد (كورونا المستجد) ، فهو مرض يصيب الجهاز التنفسي والعدوى بالفيروس المسبب لمرض كوفيد-19 يمكن أن تنتقل بالمخالطة المباشرة من طرف أشخاص مصابين أو غير مباشرة عبر ملامسة أشياء لامسها الشخص المصاب. صراع البشرية مع الجوائح: في الماضي لم تكن حياة الإنسان قد تحققت لها شروط التقدم الاقتصادي والتقني والعلمي كما هو الشأن اليوم، لكنها رغم ذلك، وبالوسائل المتاحة آنذاك، تمكنت من السيطرة والقضاء على بعض الأوبئة مصدر الجوائح مثل الطاعون، الجدري، السل، فيروس نقص المناعة المكتسبة، أنفلونزا الطيور... إلخ، واستطاع البحث العلمي من خلال الاكتشاف السريع لمصادر بعض الفيروسات والجراثيم التحكم في منشأ الأوبئة والقضاء عليها بعدما كلفت أرواحا بشرية. لقد خلفت الجوائح عبر التاريخ مآسي نقلت أخبارها الأجيال المتعاقبة التي عايشت الأوبئة الفتاكة واكتوت بمعاناتها بسبب ضعف الإمكانات الصحية ومستوى البحث العلمي آنذاك، غير أنه وفي ظل ما تحقق لاحقا بفضل تقدم الأبحاث العلمية والاختراعات التقنية/المعلوماتية ومجهودات العلماء وتنافسية المختبرات والشركات الدوائية الكبرى وجدت البشرية نفسها مجددا، وبفعل جائحة كورونا، في حيرة من أمرها، أمام ضرورة خوض صراع جديد مبهم الآفاق وهي تسعى ليل نهار لإيجاد لقاح فعال يحد من تمدد الجائحة ويقينا صداعها وعزلتها القاسية التي فرضتها علينا، ويدفع المعاناة عن الإنسان الذي أصبح يحس تحت ضغط الجائحة بثقل الحال وهاجس الخوف والتوجس وغموض الأفق والترقب لما يمكن أن يحمله المستقبل، ناهيك عن التأثيرات الأخرى المتلاحقة خاصة بعد ظهور سلسلة "دلتا" شديدة العدوى متجاوزة الأعراض التقليدية لكورونا لقدرتها على الانتقال بسرعة تفوق الفيروس الأصلي، مما يزيد من الحالات المصابة ويثير القلق. لقد ساعد تقدم البشرية بفضل تطور التقنيات الحديثة وكفاءة العنصر البشري وما ساهمت به الطفرة المعلومياتية والإعلامية في التقريب بين المجتمعات أفاد الإنسان وعمم المعرفة وكسر حدود العزلة. في سياق ما سبق، تفتحت أعين المجتمعات النامية على مكامن الاختلالات لديها وهي تشخص أحوالها وترصد أسباب القوة لدى الطرف الآخر ومستوى تدبير الأزمات لديه، (معالجة الجوائح نموذجا) مما دفع البعض أن يسعى إلى نسخ النموذج الأنسب لمجتمعاته أو سلوك الطريق الوسط دون التفريط في التشبث بالهوية التاريخية المجتمعية. إن المتتبع لأطوار تدبير الجوائح، بما فيها جائحة كورونا، بعد أن أصبح الوباء عالميا منذ ظهوره، وبغض النظر عما تحقق من محاولات تطويق الوباء المضنية، يلاحظ أنه كلما اقترب الإنسان من جني ثمار منجزات التقدم والبحث التقني والعلمي، كلما زاد الاعتقاد لديه بأن مجهودات أخرى يجب أن تبذل أكثر لاحتواء ظواهر أخرى قد تداهم الإنسان وتفتك به ولا يملك من أجل التصدي لها وسيلة جاهزة، صحيح أن البشرية حققت تقدما تغلب على كثير من الأوبئة والآثار الناجمة عنها وخرجت منها قوية رغم الندوب القاسية التي خلفتها والتي كادت أن تؤثر على مناحي الحياة الأخرى. إن ما تقاسيه المجتمعات المعاصرة اليوم (متقدمة أو نامية)، بسبب جائحة كورونا جعلها، على اختلاف مستوياتها تعاني، وبنفس الدرجة، من آثار الوباء رغم فوارق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي وامتلاك وسائل تدبير الأزمة الصحية وما رصد لها من إمكانيات مادية وبشرية ودعم مالي... الآثار الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا: – المجال الاقتصادي: تعتبر بعض المجالات الاقتصادية والخدماتية الحيوية القطاعات الأكثر تأثرا من جائحة كورونا، مما كان له انعكاس على استقرار اليد العاملة بها باعتبار أن التشغيل بجميع أنواعه (الدائم، المؤقت، الموسمي...) يعد المصدر الوحيد لدخل وعيش الأسر حيث تقلصت ساعات العمل وانخفضت الأجور في بعض المقاولات، إلى جانب توقف كثير من المقاولات المتضررة (السياحة، النقل، الأشغال العقارية... إلخ)، بفعل توقف سداد ديونها. كما أن تراجع مردودية بعض الأنشطة (الحرف، المقاهي، المطاعم، تدبير الحفلات، محلات الترفيه، المهرجانات والفعاليات الرياضية...)، مكان له الأثر الواضح كذلك على تردي الظروف المعاشية للمشتغلين في هذه المهن، مما دفع بالدول التي داهمتها الجائحة إلى وضع خطط طوارئ مستعجلة وتجنيد أطقمها الطبية للتصدي منذ البداية لمنع توسع العدوى، وعيا منها بآثارها الصعبة على مجتمعاتها ولعدم مسايرة الإمكانات والتجهيزات اللوجيستيكية الطبية لمواجهة الجائحة. جائحة كورونا وطفرة المعلوميات ورقمنة الخدمات: لقد خلقت جائحة كورونا وقائع جديدة لم تكن منتظرة وتغييرات متسارعة انعكست على علاقة التواصل المرفقي المباشر بين الإدارات والمقاولات (العامة والخاصة) والذي أصبح إلكترونيا من جهة، وفي نفس الاتجاه تلبية الخدمات الإدارية للمرتفقين باستخدام لغة التواصل الإلكترونية من جهة ثانية، وهو معطى جديد كان فيه للتقنيات والبرامج المعلومياتية دور هام. إن التحول الجديد (العصرنة والرقمنة) لم يكن مقرونا فقط بمجيء الجائحة، لقد تبنته الإدارات وعملت من أجله جميع الدول وقطع شوطا في التطبيق ويتم تعميمه تدريجيا، ومن هنا يمكن الحديث عن فوائد "الإدارة الإلكترونية"، غير أن ظروف الجائحة ساهمت في تسريع وإرساء قواعد "الإدارة الإلكترونية" ودعمت الاقتناع بمزاياها في السرعة وربح الوقت للطرفين (الإدارة والمواطن) ناهيك عن تطوير وسائل التدبير وربح جودة الخدمات الإدارية... رغم مزايا التحول الخدماتي المرفقي نحو "الإلكتروني" وفوائده التي لا تنكر، كما هي بادية للعيان، فإن عدم بلوغ تعميم التجهيزات والتكوين في البرامج المعلوماتية والتقنية بالنسبة للمقاولات (المتوسطة والصغرى الناشئة) بغض النظر عن غير المهيكلة، والأمر هنا يهم البلدان النامية، سيخلق لا محالة واقعا متعثرا بالنسبة للمقاولات الناشئة. كما أن عدم تحسيس الأفراد المرتفقين بالثقافة المعلومياتية ومواكبتهم ودعمهم سيجعل من الصعب تدارك ومواكبة والتعايش مع الواقع الجديد المتحول لما بعد الجائحة. ونتيجة لما سبق، إن الإكراهات الداهمة على الدول التي عرفت الجائحة ستجعل مجتمعاتها تعيش انفصاما بين قطاعين، إن لم يتم تدارك الأمر، الأول يعيش على التدبير الخدماتي التقليدي والثاني قطع أشواطا يصعب معها الرجوع إلى الوراء وهو ما سيضيع فرص النمو للقطاع الأول. – المجال الاجتماعي: * تدابير لمواجهة الجائحة: لقد كان من تداعيات الجائحة أن عملت الجهات الإدارية والاجتماعية والصحية في البلدان المتقدمة والنامية على السواء، باتباع تدابير تكاد تكون مناهجها متشابهة، مع اختلاف مستوى الإمكانات واللوجستيك، للحد من الآثار القاسية للوباء على الصحة العامة ولحمل المواطنين على احترام التدابير الاحترازية منعا لاتساع دائرة الوباء ووضع برامج لحملات التحسيس والتوعية وتنظيم الاستفادة من برامج التلقيح وهو ما تطلب مجهودات كبيرة دون إغفال الحرص على تطبيق التباعد الاجتماعي بين الأفراد وارتداء الكمامات وتوجيه الأفراد، عند الضرورة، باتباع قواعد الحجر المنزلي، العزل الصحي وحظر السفر والتنقل، والكل لتطويق انتشار فيروس كوفيد19. غير خاف أن التدابير الاحترازية المتخذة المبررة لمواجهة الجائحة، هذه الأخيرة كان لها انعكاس ملحوظ على الحركية الاقتصادية والتشغيل ونمط الاستهلاك اليومي للأفراد، بسبب الارتباك الاقتصادي والاجتماعي الذي يهدد تماسك المجتمع وبمستويات متفاوتة وخاصة بالنسبة للفئات التي تعاني الهشاشة الاجتماعية ومحدودية الدخل ساعد على ظهور شريحة "الفقراء الجدد". كان لانكماش إنتاج ومردودية بعض الأنشطة المهنية أو الحرفية أن عرفت مقاولاتها، وخاصة الصغرى منها أو غير المهيكلة تردي أحوال المشتغلين بها وخاصة أصحاب الحرف التقليدية ذات العلاقة بالأنشطة السياحية، مثلا، مما دفع بعضها إلى الإفلاس مع تزايد حدة البطالة. وأمام هذا المعطى الجديد لم تتمكن بعض الدول من استيعاب النتائج الاقتصادية المتلاحقة لأزمة كورونا منذ الوهلة الأولى نظرا لتفرغها لتوفير شروط التدبير الاستعجالي لمحاربة الوباء، وموازاة مع ذلك، أقدمت على اتخاذ مبادرات تضامنية على شكل إعانات مؤقتة للفئات المحدودة الدخل والعمال الموسميين وعمال وعاملات المنازل والعائلات المعوزة المتضررة. * ارتباك العادات والسلوكات الاجتماعية في ظل الجائحة: نتيجة لضغط جائحة كورونا على المجتمعات وبالتحديد الأسر عرفت بعض أنماط العادات الاجتماعية تغيرات على مستوى السلوك الجماعي والأسري والفردي، بين حريص على احترام التباعد الاجتماعي والعزوف عن حضور التجمعات ذات الأنشطة المختلفة خوفا من الإصابة بالعدوى، وآخر ملتزم باتباع التدابير الاحترازية وأخذ التلقيحات في الأوقات المناسبة ومراعاة قواعد الوقاية الصحية، حتى لا يصيبه الفيروس وآخر غير مبال أو غير مكترث إلا من تتبع لأخبار الجائحة ووقائعها وإحصائياتها وحالة الوباء اليومية. وإذ نشير هنا إلى آثار الجائحة على السلوك الاجتماعي العام منذ بداياتها كذلك كانت لها انعكاسات على بنية الأسرة، هذا الجانب يبقى في الواقع من اختصاص الباحثين من علماء الاجتماع وعلماء النفس، كونهم يعتبرون الأجدر للقيام باستكشاف ضغط الجائحة وسبر آثارها على السلوك الفردي والفعل الاجتماعي في ظروف الوباء القاسية. وهنا لا ينبغي أن تفوتنا فئة الشباب وخاصة الذين هم في سن المراهقة وتأثير الجائحة على بناء الشخصية الذاتية لمن عاشوا ضغوطاتها، لما تحتاجه فئة الشباب والأطفال من حرية في بناء القدرات وتفتح المواهب وحركية وتفاعل مجتمعيين. تقييم تجربة "التعلم عن بعد" في ظل الجائحة: يحتاج الأمر بالنسبة للمجال التعليمي والتربوي من الباحثين الأكاديميين المختصين والتربويين الانكباب سريعا، بما يساعد دراسة واقع العملية التربوية والتعليمية في ظل الجائحة للسنتين الماضيتين، ومن أجل بحث نتائج تجربة التحصيل المدرسي (التعلم عن بعد) المعرفية مع استحضار دور المدرسة في تنمية شخصية الطفل، والمساهمة في تربيته وتوجيه وصقل مواهبه أولا من خلال حضوره وتتبعه الحي والمباشر بالمدرسة يلي العملية التعليمية، تتبع البرنامج الدراسي) بجميع مستوياتها (الثانوي والجامعي، دون إغفال دور الأسرة المحوري المتتبع في هذا الشأن. إننا لا ننكر هنا أهمية وجدوى وسائل وأدوات التعليم عن بعد العصرية، هذا إن توافرت للجميع، وعملت المدرسة العمومية على تعميم أدواتها على التلاميذ وساعدتهم على تحقيق الثقافة المعلومياتية التي اضطرتهم إليها ظروف الجائحة، وهي إمكانية لن يتم تحقيقها في القريب لكون الدول تواجه في الظرف الحالي أولويات ملحة في مواجهة تداعيات كورونا، تتعلق بالصحة العامة والحماية الاجتماعية وعدم تزايد انتشار الفقر دون الحديث عن آثارها ومخططات تجاوزها. إن المسألة هنا لا تتعلق، فقط، ببحث مردودية أو جودة العملية التعليمية، وهو هدف أساسي ولا شك، بل ينبغي، كذلك، أن يؤخذ بعين الاعتبار ملاءمة برامج منتوجات العملية التعليمية للظرفية الاقتصادية والخدماتية الحالية والمستقبلية لما بعد الجائحة عندما يقوم الجيل الجديد بالبحث عن فرص التشغيل التي تهيمن عليها وظائف المعلوميات وتقنيات الاتصال الحديثة وروابط التواصل العابرة للدول والقارات، وهو ما سيشكل آنذاك مصدر قلق لكثير من الأسر التي أنفقت الكثير من أجل تعلم أبنائها تعليما يؤهلها لولوج المدارس والمؤسسات العليا والجامعات داخل أوطانها أو خارجها ذات التخصصات الاقتصادية العلمية، والمعلومياتية... إلخ. لقد خلقت تجربة "التعليم عند بعد" اليوم، نقاشا مستفيضا في كثير من الدول التي عايشت التجربة بين مؤيد لها لم يجد عنها بديلا في زمن الجائحة، ومنتقد لها يرى في الرجوع إلى الأصل (حضور القسم) الحل لكي تتبوأ المدرسة مكانتها ودورها في العملية التربوية والتعليمية، ومن هنا يرى أصحاب هذا الاتجاه في الرأي الداعي إلى تعميم التلقيح على التلاميذ 12-17 سنة، بالنسبة للموسم الدراسي المقبل حلا مناسبا شريطة إرفاقه ببرنامج احترازي يناسب المتمدرسين. المواطن رهان أساسي لتطويق تداعيات الجائحة: يعد إشراك المواطن عنصر أساسي في تدبير الجائحة نظرا لنوع الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي عاشها ولم يكن متعودا عليها طيلة عقود مضت (خوف، تباعد اجتماعي، حجر صحي، قيود التنقل...). إن وعي المواطن بأسباب الجائحة وطنيا وخارجيا وتمكينه من خطاب مدعوما بسياسات جريئة ودعم مالي لسد احتياجاته الأساسية (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية)، من شأنه أن يقوي الجهود التضامنية وألا يزيد من معاناة الفقراء التي قد تستمر باستمرار الجائحة وتوفر له أجواء الثقة في المستقبل والأمل في رفع قيود الركود الاقتصادي والتخفيف من أزمات العمل المؤقتة والنزاعات الاجتماعية. عند الحديث عن تعزيز أسس الحماية الاجتماعية والحفاظ على روابط التماسك الاجتماعي الأسري من الناحيتين الصحية والنفسية، لا بد أن نستحضر أهمية السكن الاجتماعي السليم الذي يجب أن يوفر الظروف المواتية للعيش الكريم في زمن الجائحة. كما لا ينبغي كذلك إغفال دور المرأة التي لعبت دورا رائدا، إلى جانب الرجل، في المساهمة في تدبير عملية محاربة الوباء كممرضة وموظفة وربة بيت... إلخ، وهي حافظت، إلى جانب ظروف العمل القاسية في ظروف كورونا، على تماسك أسرتها وتحملت متاعب البيت وتربية الأطفال وتوفير شروط السلامة الصحية لهم والمساهمة في إشاعة روح الطمأنينة بين أفراد عائلتها الصغيرة.