قال طلال أبو غزالة، المفكر الاقتصادي الفلسطيني-الأردني، إن "نهاية الوباء رهينة بنشوء نظام عالمي جديد تحكمه سلطة موحدة قادرة على فرض قراراتها على الصعيد الدولي، بخلاف ما نراه اليوم من خلافات سياسية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين". وأضاف أبو غزالة، في حوار أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية، أن "طول أمد الأزمة يفرض على الدول الإقليمية استغلال الفرصة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي"، داعيا إلى "التفكير في خلق صناعات وطنية، وتوفير بيئات معرفية مناسبة للمواطنين من أجل مواكبة التغييرات الحاصلة، ولن يتأتى ذلك سوى بتحسين البنيات التحتية التقنية والعلمية". وأرجع المفكر الاقتصادي دوافع رفض الاتحاد الأوروبي لقاح "سينوفارم" الصيني إلى "المصالح الاقتصادية"، موضحا أن "الاقتصاد هو الذي يوجه السياسة، ويحدد منحى التصعيد العسكري أيضا"، مستدلا على ذلك بالخلافات التي نشبت بين الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنظمة الصحة العالمية. وإليكم نص الحوار كاملا: رسخت الجائحة ما يسمى "السيادة الرقمية" في ظل اتجاه البلدان نحو رقمنة الخدمات واعتماد صيغة "العمل عن بعد" من أجل تفادي التبعات الصحية والاجتماعية الناجمة عن تفشي الفيروس التاجي. هل نجحت بلدان المنطقة فعلا في تكريس هذه "السيادة الرقمية"؟ لا شك في أن التحول الرقمي فرض نفسه على بلدان العالم، بغض النظر عن "أزمة كورونا" التي ساهمت حقيقة في إبراز أهميته بشكل ظاهر للعيان. ومع ذلك، ما زالت شرائح مجتمعية بالمنطقة لا تدرك أهمية التكنولوجيا في الانتقال الاقتصادي والسياسي، خاصة أننا أصبحنا نتحدث عن الثورة المعرفية القائمة على أساس الذكاء الاصطناعي. لقد انتقل العالم من الثورة الزراعية إلى نظيرتها الصناعية بمختلف أنواعهما وصنوفهما، حتى بتنا نعيش في عالم الثورة الرقمية التي غيرت النظام الدولي الذي أصبح يحتكم أكثر إلى المعرفة والاتصالات، لكن "أزمة كورونا" سرعت مأمورية ذلك، من خلال اعتماد الأنماط الرقمية للتدريس والعمل. سلطت الجائحة الضوء أكثر على "موضوع السيادات"، نظرا إلى تدابير الإغلاق التي رافقت انتشار "كوفيد-19" في العالم. كيف ساهم ضعف البحث العلمي في أغلب دول المنطقتين الإقليمية والإفريقية في صعوبة تحقيق "السيادة اللقاحية"؟ أولا، يجب أن نعلم بأننا سنتعايش مع الوباء لسنين طويلة، وهو ما أكدته منظمة الصحة العالمية التي حددت مدة استمرارية "كورونا" في السنوات الخمس المقبلة على أقل تقدير. وبالنسبة إلي، فنهاية "كورونا" رهينة بنشوء نظام عالمي جديد تحكمه سلطة موحدة قادرة على فرض قراراتها على الصعيد الدولي، بخلاف ما نراه اليوم من خلافات سياسية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين. ثانيا، أثبتت الأزمة الصحية أن الكل يرفع شعار "بلدي أولا" من أجل تطعيم المواطنين، وهي أنانية لا يمكن أن تسهم بتاتا في القضاء على "كورونا"، لأن الحل الوحيد للخروج من الوضعية الحالية يتمثل في تنسيق الجهود الصحية في الوقت عينه، ذلك أن أي دولة يمكنها تأمين حدودها الداخلية، لكن ستظهر موجات جديدة من الوباء في بلدان أخرى لم تفلح في تحقيق المناعة الجماعية. ثالثا، كشفت "كورونا" عن واقع العلاقات الدولية في الظرفية الحالية، حيث نجحت فواعل في تطعيم سبعين بالمائة من مواطنيها، فيما تمكنت أخرى في تطعيم خمسة بالمائة فقط من السكان، ما يستدعي ضرورة اتجاه بلدان المنطقة صوب تشييد مصانع اللقاحات بغية تحقيق السيادة الداخلية، خاصة أن تصنيع اللقاح أصبح مصدر قوة اقتصادية في الوقت الراهن. اتسمت الاستجابة السياسية لبلدان المنطقة الإقليمية مع أزمة "كوفيد-19" بنوع من "الديكتاتورية" مثلما أسماها البعض، اعتبارا لغياب المعلومات الشفافة والواضحة إزاء القرارات المتخذة وعدم إشراك الهيئات غير الرسمية في صياغة القرارات. هل استغلت بعض الأنظمة الأزمة القائمة لتقويض الديمقراطية؟ أثارت "أزمة كورونا" معضلة حقيقية بخصوص مفهوم الديمقراطية، باعتراف الرئيس الأمريكي بايدن بنفسه حينما انتقد عدم فعالية الديمقراطية في تطبيق بعض القرارات على أرض الواقع من الناحية المبدئية، اعتبارا للنجاحات التي حققتها الصين على مستوى احتواء الإصابات والوفيات بالمقارنة مع مؤشراتها الديمغرافية. ومع ذلك، فإن تدبير الطارئ الصحي على مستوى المنطقة العربية ينبغي أن يتم وفق منهجية شمولية، لأن القرارات المتخذة لا تقتصر على البعد الصحي فقط، وإنما تشمل كذلك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ وبالتالي، لا بد من مناقشة تلك الأبعاد داخل مجالس محلية متعددة الأطراف لتحديد الأولويات. تداعيات اقتصادية جمة تواجهها بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في ظل الجائحة، حيث استطاعت أنظمة إقليمية الصمود أمام الأزمة، بل استغلتها لتحقيق انطلاقة اقتصادية جديدة، فيما فشلت أخرى في تفادي سيناريو "الانهيار". ما قراءتك لتأثيرات الجائحة على الاقتصاديات الإقليمية؟ تعاني دول المنطقة من مشكلة الإنتاج بصفة عامة، في الوقت الذي انتعشت فيه اقتصاديات كبرى من الوباء، وهي سلوكيات قديمة تسم أوقات الأزمات، حيث كنا نتحدث قديما عما يسمى "أغنياء الحرب". لقد غيرت "كورونا" المفاهيم المتداولة، حيث أصبح تركيز البلدان منصبا على إنعاش الاقتصاد الوطني. ومع طول أمد الأزمة، فإن الدول الإقليمية عليها استغلال الفرصة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، حيث انتقلنا من الحديث عن انتهاء الأزمة بنهاية سنة 2020 إلى تأكيد استمرارية الوباء في السنوات المقبلة، نتيجة ظهور الموجات الجديدة من فيروس "كورونا" المستجد، ما دفع الدول إلى إضافة حقنة ثالثة من اللقاحات أمام تفشي السلالات المتحورة. على الصعيد الدولي، استثنى الاتحاد الأوروبي الأشخاص المطعمين بلقاح "سينوفارم" من دخول أراضيه، بسبب ما أسماه مواصلة الاشتغال على البيانات التقنية والعلمية الخاصة بهذا اللقاح الصيني. هل ترى أن هذا القرار تحكمه اعتبارات سياسية بالدرجة الأولى؟ نعم، القرار تحكمه المصالح الاقتصادية بالأساس، لأن الاقتصاد هو الذي يوجه السياسة، ويحدد منحى التصعيد العسكري أيضا. ويمكن ملاحظة ذلك عبر متابعة الصراع المندلع بين الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنظمة الصحة العالمية بسبب الوباء، لما رفضت هذه الأخيرة اتهام الصين بكونها المتسبب في بروز الفيروس، وتحفظها على لقب "الفيروس الصيني" الذي كان يستعمله الرئيس الأسبق دونالد ترامب. وبالفعل، نفذ ترامب وعده بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية بسبب عدم تجاوبها مع خطابه السياسي، وهي حقيقة مؤلمة في الواقع لأنها توضح الصورة الكبرى لطبيعة النظام العالمي القائم، ما تسبب في شل أعمال المنظمة على مستوى فروعها العالمية. الكل منهمك في تدارس سيناريوهات الفترة الحالية من تفشي الجائحة، لكن لا يتم الحديث كثيرا عن ملامح "عالم ما بعد كورونا". كيف سيبدو العالم بعد الجائحة في نظرك؟ يصعب توقع السيناريوهات لأن فيروس "كورونا"-مثلما قلت آنفا-سيبقى معنا لمدة معينة، غير أن الأهم يكمن في صناعة المستقبل بعد الوباء، وهو ما ينبغي أن ينتبه إليه صناع القرار السياسي، عبر تدعيم الإنتاج الغذائي والصناعة الدوائية، إلى جانب تشجيع البحث العلمي في الميادين العلمية. إذن، المطلوب أن تبدأ دول المنطقة في إرساء قواعد الاكتفاء الذاتي المحلي لتفادي تبعات الأزمات المستقبلية؛ وبالتالي، ضرورة رسم ملامح خطة جديدة لتحديد الأولويات؛ إذ لا يعقل أن بعض البلدان لا تستطيع حتى صناعة أدوية تخفيف صداع الرأس، علما أن الملكية الفكرية للأدوية محددة في عشرين سنة، وبعدها يمكن لأي دولة صناعة الأدوية المتاحة في السوق شريطة أن يباع باسمها الخاص. تبعا لذلك، ينبغي التفكير في خلق صناعات وطنية، وتوفير بيئات معرفية مناسبة للمواطنين من أجل مواكبة التغييرات الحاصلة، ولن يتأتى ذلك سوى بتحسين البنيات التحتية التقنية والعلمية، وتغيير فلسفة التعليم القائمة لأنها متجاوزة، حتى نتحرر من تبعية الدول الأجنبية. وهنا أستدل بمقولة الأمين العام لجامعة الدول العربية في مؤتمر سابق: "أمام الأمة العربية خياران لا ثالث لهما؛ الابتكار أو الاندثار". ما زال التنافس محموما بين الصينوالولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا بخصوص قيادة العالم في الفترة المقبلة، وهو ما تكشفه طبيعة الصراعات الإقليمية التي يتم تأجيجها من لدن هذه القوى الكبرى. هل يتجه النظام الدولي نحو التعددية القطبية؟ من وجهة نظري، يوجد قطبان أساسيان في العالم، يتوزعان بين القطب الأولي الذي تجسده الولاياتالمتحدةالأمريكية بمعية حلفائها التاريخيين، وتأتي بريطانيا في مقدمتهم، والقطب الثاني الذي تمثله روسياوالصين بشكل مشترك. لذلك، سيبقى الصراع مستمرا بين الطرفين، ولن ينتهي سوى بمواجهة عسكرية جديدة، سيضطر إثرها الأقطاب للجلوس إلى طاولة الحوار وحل الخلافات السياسية. هناك إشكالات كبرى في العالم مردها إلى التنافس بين القطبين، وهو التنافس الذي لم ينحصر في المجال الدبلوماسي والسياسي فقط، بل انتقل إلى مجالات أخرى؛ أولها المجال الاقتصادي، حيث رفضت الصين أثناء انضمامها لمنظمة التجارة العالمية ربط عملة "اليوان" بالدولار الأمريكي. كل تلك المتغيرات الدولية تفرض على المنطقة العربية سن سياسات موحدة بشأن قطاع البنوك، عوض الاكتفاء بتطبيق الأنظمة الأوروبية والأمريكية في هذا الصدد، لأنه باستطاعتنا تأسيس أنظمة ذاتية حسب خصوصية كل دولة، نظرا إلى أن عالم اليوم مليء بالمخاطر الاقتصادية والسياسية في ظل التعددية القطبية.