قبل أن تجف أقلام الصحافة الجزائرية التي تناولت مبادرة المغرب لفتح الحدود بين البلدين، أصدر القصر الملكي مبادرة ثانية لمساعدة الجارة الشرقية في إطفاء الحرائق المهولة التي اندلعت في منطقة القبائل، ووضع طائرتين من طراز "كنادير" رهن إشارتها. يوما بعد ذلك، بعث الملك رسالة إلى الرئيس الجزائري معزيا في وفاة أكثر من ستين شخصا، مجددا في الآن نفسه تضامن المغرب مع الجارة الشرقية في هذا المصاب الجلل. لم تفرق بين هذا الزخم من المبادرات الصادرة عن ملك المغرب سوى أيام معدودات. وحتى تتمكن من القيام تباعا بكل هذه الإشارات جد الإيجابية والإنسانية، ودون أن تتلقى أدنى رد، فيجب أن تكون في قمة النضج السياسي والأخلاقي، ويجب أن تنتمي إلى دولة عريقة تضع مصلحة شعبها وشعوب المغرب الكبير فوق كل اعتبار شخصي. في المقابل، حتى يتمكن النظام الجزائري من تجاهل الأيادي البيضاء الممدودة من المملكة المغربية في خضم أزمات حقيقية تودي بأرواح العشرات من الأبرياء، يجب أن يكون نظام مستبدا وأنانيا، ولا يضع في اعتباره إلا مصلحة زمرة من الطغمة العسكرية الحاكمة، إذا ما تقاطعت مع مصلحة الشعب الجزائري الشقيق. رغم وجود قواسم مشتركة بين المبادرتين الأولى والثانية، ودورهما الكبير في إمكانية تطبيع العلاقات بين البلدين الجاريين والشقيقين، هناك بون شاسع بينهما. فالأولى تحتاج نوعا ما إلى التفكير والتأمل، ولن يضير الجزائر انتظار بعض الوقت لاتخاذ قرار فتح الحدود رغم أهميته. لكن المبادرة الثانية هي مسألة حياة أو موت؛ فلم يكن المجال مسموحا لصناع القرار للانتظار. كل ثانية كانت ستسرع بدخول الطائرتين المغربيتين، اللتين كانتا على أهبة الاستعداد للتوجه نحو ساحة الوغى ضد الحرائق، وكان ذلك سيسهم بلا شك في إنقاذ حياة البشر والشجر، وحياة حيوانات المنطقة، البرية منها والأليفة، المغلوب على أمرها والمتروكة لقدرها. سوف يتعذر علينا أن نفهم سر التجاهل الجزائري للمبادرات المغربية، الحالية منها السابقة، دون فهم دقيق لسوسيولوجية العقيدة العسكرية للحكام الجزائريين الفعليين. من الناحية المبدئية، هي عقيدة ترتكز على التباهي بروح الزعامة ونشر الوهم بالتفوق؛ فالجزائر المحكومة بثوابت هذه العقيدة العسكرية، يتم التسويق لها بكونها تقود المنطقة وتتوفر على أحسن المنظومات على جميع الأصعدة. وبالتالي، فلن يسمح سوى للأوروبيين، والأوروبيين فقط، بالمساعدة على إطفاء الحرائق. مشاركة المغرب كبلد مغاربي وعربي وحتى إفريقي، بعتاد متطور وفعال لا تتوفر عليه الجزائر، ستكسر، حسب هذه العقيدة المريضة، مبدأ التفوق. في السياق نفسه، يبدو أن التفوق المراد تسويقه يبقى مجرد شعارات جوفاء. ربما استثمر العسكر مليارات الدولار لتحقيق التفوق العسكري لغاية في نفس يعقوب، لكن كل المؤشرات الصادرة عن المؤسسات الدولية في مجال التنمية البشرية تضع الجزائر في مراتب جد متأخرة وصادمة مقارنة بمواردها الطبيعية. وكنموذج على ذلك، ففي الوقت الذي كانت الدول تتهافت في خضم الجائحة للحصول على اللقاح، كان العسكر ينظمون المناورات لتجريب جاهزية المعدات العسكرية، ويجهزون لإشعال فتيل حرب حقيقية بالصحراء المغربية. ورغم الصفقات الخيالية لشراء الطائرات، فالجيش الجزائري لا يملك في ترسانته سوى ما يصلح للحرب والقتل، وتهديد دول الجوار. ولذلك، فعندما اضطر الجيش الجزائري للتدخل في إطار واجبه المهني، وجد الجنود أنفسهم يواجهون الحرائق بوسائل بدائية، مما أودى بحياة البعض منهم. من جهة أخرى، تصور هذه العقيدة العسكرية الدولة المغربية كعدو أزلي للشعب الجزائري لا يصدر من ورائه إلا الشر. وعليه، فحينما يساهم المغرب في إنقاذ أرواح أشقاء لنا داخل الجزائر، ويحافظ لآخرين على منازلهم وماشيتهم وحقولهم، ستتغير الصورة لدى من أريد لهم أن يعيشوا وهم العداء. وبالتالي، فمن الممكن أن تتم التضحية بكل شيء في سبيل تغذية وإذكاء العداء بين الشعبين الشقيقين. على المستوى الدبلوماسي، لم يتعلم النظام العسكري على مدى عقود طويلة القواعد الجيدة للحكامة الدبلوماسية. ورغم أن دولا كثيرة في العالم تحكمها أنظمة عسكرية، إلا أنها استطاعت تطوير نفسها في المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية، لكن يبدو أن النظام الجزائري الذي يحكم الدولة بمنطق الأفراد، سيجعل الدولة الجزائرية شاردة أمام المنتظم الدولي. آخر معالم العقيدة العسكرية التي تفسر التعنت الجزائري في نظرنا، هو محاولة النظام عزل الشعب الجزائري عن العالم الخارجي، حتى لا يرى أفراده إلا بمنظار ما يراه العسكر، ولا يجعل هذا الشعب يرى إلا في حدود ما يريده النظام. وإلا، فإن شرعيته التي أسسها على الثالوث: التضليل والخوف وتصدير الأزمات الداخلية نحو الخارج، ستنهار. وربما سنرى في المستقبل القريب كيف سيحورون بعقيدتهم البغيضة كل المبادرات المغربية الإنسانية والنبيلة إلى مخططات شريرة تستهدف الدولة الجزائرية. من الصعب في الوقت الراهن أن تحكم شعبا بعقيدة عسكرية بائدة وأنانية. ومن الصعب أن تتبنى هكذا عقيدة بكل هذه التجليات السلبية، وتراهن في الآن نفسه على ولاء الشعب داخليا وبناء علاقات حسن الجوار مع الخارج. هي بالطبع معادلة مستحيلة لن تتحقق سوى في مخيلة نظام عسكري متهالك ماديا ومعنويا. معادلة يحاول تنفيذها "رئيس مدني" مغلوب على أمره، لا يفكر سوى في مصير أسلافه، متمنيا أن يخرج من هذه الورطة بأحسن السيناريوهات الممكنة. خلاصة القول، إن المبادرات المغربية في عمقها ليست موجهة لا إلى هؤلاء (العسكر) ولا إلى هذا الأخير ("الرئيس المدني")، هي أولا مسؤولية أمام الله، التزاما بحسن الجوار وصلة الرحم والتآزر كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. هي مسؤولية أمام أحفادنا عندما نصبح جزءا من التاريخ. هي رسالة موجهة إلى أشقائنا الجزائريين، عنوانها الإصرار والإلحاح على توطيد أواصر الأخوة الصادقة رغم العقبات. وهي أخيرا رسالة إلى المنتظم الدولي حتى يميز الخبيث من الطيب. (*) أستاذ باحث جامعة القاضي عياض، مراكش