تَعَود نفر من الموظفين المشتهرين بحرصهم الشديد على الدرهم والسنتيم أن يجلسوا في ذلك المقهى. فقد كانوا يكتتبون كل يوم لجمع ثمن "براد" من الشاي ويتحلقون حوله صارفين الساعات الطوال في دردشة مستفيضة حول أقصر الطرق لجمع المال، وفي قراءة الجرائد مع تفكيك الكلمات المسهمة. كان صاحب المقهى يمقتهم بسبب استعمارهم المكان وقتا طويلا بدون فائدة. وحدث ذات يوم أن كان أحدهم يطالع جريدة من الجرائد التي يضعها المقهى تحت تصرف الزبناء، ولما أراد أن يقضي حاجة له، ترك الجريدة على إحدى الطاولات وانصرف، وحين رجع، وجدها بين يدي أحد الرواد، فما كان منه إلا أن تقدم نحوه بكل وقاحة، وطلب منه أن يرجع إليه الجريدة بدعوى أنه لم يكمل قراءتها، اغتاظ الرجل وانتهر مخاطبه بكلام لم يعجبه، فنشبت بينهما على الفور مشادة كلامية سرعان ما انقلبت إلى أخذ بالتلابيب، ولم تلبث أن تطورت إلى معركة للديكة، سالت فيها دماء، وتكسرت كؤوس، وعلى هرج تخلله استعمال فاحش لسلاح الشتم والقذف المحظور في المجتمعات الإنسانية والحيوانية. هرب بعض الزبناء، وهب صاحب المقهى للدفاع عن "سمعة" مقهاه بعد أن وجدها فرصة سانحة للتنفيس عن الكرب الذي تسبب له فيه جماعة الموظفين البخلاء الثقلاء. وبعد ساعة من الأخذ والرد لعب فيها بعض الحكماء دور الدبلوماسيين المهرة، وضعت الحرب أوزارها أخيرا، وتصالح الغريمان كأن شيئا لم يكن، فادعى هذا أن الساعة لله وأنه كان تحت ضغط ديون ثقيلة، وزعم ذاك أن الشيطان لعنه الله كان حاضرا فاغتنم احتقانه ووسوس إليه... قلت في نفسي: كل هذا من أجل قراءة جريدة ثمنها ثلاثة دراهم... فماذا كان سيحدث لو تعلق الأمر بكتاب قيمته 100 درهم؟ لكني سرعان ما تبينت أن الخصام لم يكن من أجل قراءة جريدة ولا غيرها، بقدر ما كان بسبب الاحتقان الشديد الذي يوجد عليه عموم المغاربة بفعل المشاكل الضاغطة. فالقراءة هي آخر شيء يمكن أن يفكر فيه عامة الناس في مجتمعنا المريض. نحن شعب لا نقرأ إلا قليلا، والثقافة عندنا تشبه ذاك الطفل المعوق الذي لا يثير في القلوب غير الحسرة والشفقة، ومن أراد أن يتأكد فما عليه إلا أن يقارن بين ميزانية وزارة الداخلية وميزانية وزارة الثقافة. في فرنسا، يأخذك ما يشبه الدوار حين تراقب الناس وهم يقرأون في الشارع وفي المقهى وفي الحافلة وفي المترو. عيونهم مدسوسة في صفحات الكتب والجرائد، وهم لاهون عن الدنيا وعن ما حولهم. وفي ألمانيا، ذهبت ذات مرة إلى معرض الكتاب في مدينة فرانكفورت، فاندهشت وأنا أرى معرضا شاسعا ضخما في حجم مدينة صغيرة، تستحيل زيارتها بدون أخذ الحافلات الرابطة بين الأروقة العديدة. وبغض النظر عن جبال الكتب التي تهافت الزوار على اقتنائها، كم راقني أن أرى أطفالا في عمر الرابعة والخامسة بصحبة آبائهم وأمهاتهم وهم يخرجون من المعرض حاملين في أيديهم الصغيرة أكياسا من الكتب. أدركت آنذاك أن القراءة عندهم ثقافة راسخة ورياضة ذهنية تبدأ من عمر مبكرة وتنتهي مع آخر زفرة للحياة. لماذا لا نكون نحن مثلهم؟ وهل يمكننا أن نكون ذات يوم مثلهم؟ لم لا إذا ما صدقت النية وتوفرت العزيمة فبدأنا بالقضاء المبرم على الأمية، وأنشأنا مكتبة في كل حي وقرية، وعلمنا أطفالنا حب الكتاب منذ نعومة أظفارهم؟ وهنا تحضرني تجربة رائدة لأستاذ متألق اسمه مبارك الشنتوفي. رجل مهووس بحب الكتاب ويتوفر على قلب كبير يسع أطفال المغرب كلهم. بدأ التجربة بفكرة في منتهى البساطة، تمثلت في اقتناء أكبر قدر ممكن من كتب الأطفال، وفتح مركزا للقراءة في وجه المعوزين من بلدته ببني وليد، ولما نجحت تجربته ورأى أن خيرها العميم قد فاض على تلك البراعم الصغيرة المهمشة، بدأ يعممها على جهات نائية أخرى. واتفق أن كنت معه ذات مرة، فجمع مالا من الناشر بشر بناني ومن الصحفي خالد الجامعي، فذهبت وإياه إلى معرض الكتاب بالبيضاء واشترى مآت من كتب الأطفال حملتها وإياه إلى قريتي غفساي، حيث أودعها في مكتبة إحدى الجمعيات. رجل واحد صنع المعجزات، ماذا لو حذا حذوه مآت غيره فخلصونا من شر المناوشات على جريدة بثلاثة دراهم؟