عندما يتقاعد الموظف، تفغر الحياة في وجهه فاها كوحش جائع تقطر أنيابه دما ولعابا... يكتشف فجأة أنه كبر، وأن العد العكسي قد انطلق به إلى موت متربص يتثاءب في كل زاوية من زوايا البيت البارد الصامت، ويلوح بيده المشعرة ذات المخالب النحاسية الحادة. يتراءى له الفراغ كبحر لجي يحتويه في ظلماته المتراكمة ويطبق على أنفاسه كي يكتمها، ويضغط على قلبه كي يسكت فيه تلك الدقات المنتظمة التي كانت مضبوطة كساعة سويسرية على إيقاع أوقات العمل. يرى الناس من حوله وكأنهم يتغامزون عليه، وأن من كانوا مرؤوسيه بالأمس، ينظرون إليه بسخرية مشوبة بشفقة إن كان من أولاد الحلال، أما إن كان من شر ما خلق، فهو ينال حظه وافرا من نظرات الكراهية والتهكم والشماتة. ماذا هو الآن فاعل بهذا الهيكل العظمي الذي امتصت منه الإدارة القاسية حماس الشباب كما تمتص العناكب من الفراش معين الحياة، قبل أن ترمي بها إلى الأرض قوقعة بلا روح؟ هنا يختلف المتقاعدون في مواجهة هذا السؤال العريض، فمنهم من يداري الفراغ بلعب الورق والشطرنج وتتبع عورات الناس وملاحقة الزوجة والأولاد بالنقير صباح مساء، ومنهم من يؤوب إلى الله ويبدأ حياة جديدة كلها بذل وعطاء، ومنهم من يرى أن بداية تلك الفترة هي بداية تدحرج محتوم نحو الخواء، ما يجعله يغرق في تشاؤم مطلق وانهيار نفسي شديد. كان شقيقي المتقاعد حديثا روحا زاخرة بالطاقة والحركة وحب العمل. وقد كنت أراه خسارة فادحة للإدارة نظرا لإخلاصه المفرط لعمله، وهوسه الكبير بالانضباط، وتفكيره المستمر في الأداء المتكامل والمردودية المرتفعة. مرت الأسابيع الأولى التي أعقبت تقاعده كما يمر الوقت بالنسبة ل أسير أصابه ضيم شديد وقنوط عظيم بعد إدانته ظلما عدوانا، فانقلب فجأة إلى كتلة من الأعصاب المتفجرة، يثور لسبب أو لغير سبب. لم أرد رؤيته على ذلك الحال المزري، فارتأيت بعدما أجهدت نفسي في إيجاد حل مؤقت له أن أقنعه بالتعاطي إلى الرياضة عله ينسى نفسه، ويفرغ من خلال ممارستها براكين القلق والغضب المستعرة في أعماقه. ولم يكن الأمر بالسهل الهين، إذ كان مجرد محادثته مشي عشوائي في حقل مليء بالألغام. انفجر في وجهي بادئ الأمر، فقال وهو يضع سبابته في صدغه: هل جننت؟ أبعدما بلغت من الكبر عتيا يروق لك أن تراني أقفز كعنزة شبعت علفا؟ غير أنه سرعان ما اقتنع بعد مدة، فاشترى بذلة رياضية من الطراز الرفيع، وشمر على ساعد الجد وحواجبه معقودة وكأنه بصدد التدرب على تحطيم رقم أولمبي... قلت وأنا أراه ليلة الخروج إلى الغابة المجاورة: سترى كيف سيتغير حالك وكيف ستعلو الحمرة وجهك... في اليوم الموالي، هاتفني يطلب مقابلتي وفي صوته المتحشرج بفعل الإدمان على التدخين نبرة حادة من الغضب. حينما التقيت به، هالني شحوب وجهه وكدمات على وجنتيه مع خدوش في قفاه وتحت أذنيه... بادرني قائلا بلهجة تقطر تهكما: عملت بنصيحتك القيمة، وها أنت تراني قد "تريضت" و"تروضت" والحمرة تكسو وجهي والحمد لله... أفصح... أي جرم اقترفت في حقك حتى تدفعني إلى هذه المصيبة؟ لم أفهم شيئا... اعلم "يابوعروف" أني بدأت حصتي الرياضية الأولى بالمشي السريع في ممر خال تحفه أشجار الأوكاليبتوس الباسقة، وبعد نصف ساعة أو يزيد، أحسست بالوهن، فأخذت أسلي نفسي بقطع أوراق الأشجار ودعكها ثم اشتمام رائحتها، وفجأة، انفطر قلبي رعبا وأنا أشعر بقبضة قوية تنطبق على عنقي من الخلف كطوق من حديد، بينما الأخرى تغرز في ظهري شيئا حادا جمد الدم في عروقي. ظننت أول وهلة أن أحد الأصدقاء من ثقلاء الأنفاس يمزح معي، ولكن الالتباس رفع نهائيا حين امتدت بسرعة البرق أصابع خبيرة إلى جيبي واختلست هاتفي النقال تزامنا مع أنفاس حارة تلهب أذني وتأمرني بصوت كفحيح الأفعى: سأنحرك نحر البعير إن أتيت حماقة أيها الرياضي الهرم... لست أدري كيف انطلق مرفقي بدون إرادة مني فضربه ضربة قوية على مستوى سرته إلى أن سقط الهاتف من يده، وبعدها دارت بيننا معركة ضارية غير متكافئة، انتهكت بسلسلة سخية من لكمات عنيفة رأيت النجوم خلالها بألوان متلألئة... فر الحرامي وغاب بين الأشجار بعدما استرجع الهاتف ثانية... نظر أخي إلي حانقا وقال: شكرا جزيلا على نصيحتك، لقد كانت حصة مدهشة في الرياضة... غمغمت متأسفا: ليتني ما نصحتك...