أصبح واضحا أن الأيادي التي خطّطت ودبّرت وموّلت للانقلاب في مصر، هي نفسها التي تخطط لإحداث انقلاب على المسار الديمقراطي في تونس، بعد تمكنها من ارتكاب جريمة الاغتيال النكراء الثانية في ظرف 6 أشهر، للناشط السياسي محمد البراهمي. هدف الجهات التي تقف وراء حادث الاغتيال - المدانة بشدة - هي إجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي، بعدما شارفت تونس على تجاوز المرحلة الانتقالية، والدخول في مرحلة بناء المؤسسات الدستورية، بطريقة توافقية بين مختلف القوى والأحزاب السياسية، جعلت التجربة السياسية التونسية رائدة في دول الربيع العربي. هناك قوى وأحزاب معارضة استغلت الحادث الإجرامي، لخلط الأوراق وإحداث انقلاب في المسار السياسي، من خلال تحميلها المسؤولية الأخلاقية والسياسية لحركة النهضة، والمطالبة بحل المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة، في محاولة لتوظيف الحادث سياسيا من أجل إفشال التجربة السياسية الوليدة وتحقيق مكاسب سياسية، بعد عجزها عن تحقيقها بالآلية الديمقراطية، لكن هؤلاء غير مدركين أن تعاطيهم الانتهازي مع الحادث، يخدم هدف الجهات المدبرة لهذه الجريمة السياسية الشنعاء. فعلى إثر حادث الاغتيال مباشرة، خرجت الجبهة الشعبية اليسارية والاتحاد من أجل تونس (الذي يضم خمسة أحزاب علمانية) للاحتجاج والتظاهر من أجل الضغط على الحكومة التونسية التي تقودها حركة النهضة، مطالبة بحكومة إنقاذ وطني، وحل المجلس التأسيسي، وهو ما يمكن اعتباره استغلالا سياسويا يكشف عن نية مبيتة لافتعال أزمة سياسية لوقف المسار الديمقراطي، والإجهاز على المكتسبات التي تحققت بعد الثورة، أهمها إنشاء مجلس وطني تأسيسي (برلمان) وحكومة منتخبة، وقُرب موعد إجراء الانتخابات التشريعية، ووضع اللمسات الأخيرة على مشروع الدستور، في سعي مريب لاستنساخ الانقلاب المصري على الديمقراطية. وإذا كانت التحقيقات ما زالت جارية لتحديد المسؤوليات الجنائية، فإن وزارة الداخلية التونسية أكدت أنها تعرفت على منفذ الجريمة، حيث قالت إنه سلفي متشدد، وأن نفس قطعة السلاح التي اغتيل بها المعارض السياسي شكري بلعيد، هي نفسها التي استعملت في جريمة اغتيال البراهمي، مما يدل على أن الجهات التي دبرت عمليتي الاغتيال واحدة، وهي جهات ذات امتداد خارجي، على اعتبار تزامن حادث اغتيال البراهمي مع جريمة اغتيال عبد السلام المسماري، الناشط السياسي والحقوقي الليبي، في أعقاب الانقلاب العسكري/المدني في مصر، وهو ما يؤشر على وجود مخطط مُعدّ سلفا لإجهاض حلم الشعوب العربية في التحرر من الاستبداد. جريمتي الاغتيال السياسية التي وقعت في تونس، وإن كانت من تنفيذ متطرفين تونسيين، وهذا ما يقتضي تطبيق القانون في حقهم، حفاظا على أمن المواطنين وسلامتهم الجسدية، إلا أن عملية الاغتيال لها أبعاد خارجية، خاصة إذا نظرنا إلى توقيتها، وبالتالي فهي جريمة تستهدف اغتيال عملية الانتقال الديمقراطي برمتها، لا شك أن وراءها جهات معادية لمصلحة تونس في تحقيق الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي، وهي نفس الجهات التي تعبث بأمن مصر وسوريا وليبيا والعراق.. وهي نفسها التي وقفت وراء الانقلابات في العالم العربي خلال مرحلة ما بعد الاستعمار، وقدمت الدعم المادي والمعنوي للحكام المستبدين لحماية مصالحها. في جريمة الاغتيال الأولى للناشط السياسي شكري بلعيد، فشل المخططون في الوصول إلى أهدافهم، واستطاع الائتلاف الحكومي تجاوز المحنة دون أن يؤثر ذلك على سير المؤسسات المنتخبة، إلا أن هذه المرة سيكون من الصعب على "الترويكا" الحاكمة الخروج من الأزمة بسهولة، خاصة وأن المعارضة اليسارية والعلمانية استغلت التحولات الإقليمية والدولية، لرفع سقف مطالبها، وهو ما سيجعل كل المكتسبات السياسية والمؤسساتية التي أنجزت بعد الثورة في مهب الريح، ويعيد تونس إلى نقطة الصفر، كما حدث في مصر. ومن أجل تجاوز السيناريو المصري، فإن الواجب الوطني يستدعي من مختلف القوى السياسية والمدنية التونسية، الابتعاد عن الحسابات السياسية الضيقة، وتجاوز الخلافات الإيديولوجية، والاستفادة من التجربة المصرية الأليمة، حتى لا تضيع المكتسبات السياسية التي حققتها تونس خلال الفترة الانتقالية، وتفوّت الفرصة على أعداء تونس، الذين يستغلون الفراغ الأمني، لاغتيال التجربة الديمقراطية الوليدة.