قال محمد عبد النباوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إن الكثير من المهن طورت قواعد أخلاقية خاصة بها اعتماداً على أعراف المهنة نفسها وشروط ممارستها، بل إن بعض مدونات الأخلاقيات المهنية أصبحت مادة قانونية يترتب عن خرقها جزاءات قانونية. وأضاف عبد النباوي، في كلمته خلال الندوة الوطنية حول موضوع: "مدونة الأخلاقيات القضائية.. محطة هامة في تأطير السلوك القضائي"، التي تنظم يومي 24 و25 يونيو الجاري، أن مدونة الأخلاقيات القضائية أصبحت مفروضة في المغرب بمقتضى القانون، "حيث نصت المادة 106 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أن المجلس يضع، بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة، مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية". وقد حددت المادة المذكورة، وفق المتحدث، أهداف مدونة الأخلاقيات في الحفاظ على استقلالية القضاة ونزاهتهم وتجردهم من جهة، وصيانة هبة القضاء، والتقيد بأخلاقه النبيلة والالتزام بحسن تطبيق قواعد سير العدالة من جهة ثانية، وحماية حقوق المتقاضين وحسن معاملتهم من جهة ثالثة، بالإضافة إلى استمرارية مرفق القضاء وضمان حسن سيره من جهة رابعة. وزاد عبد النباوي أن المادة نفسها نصت أيضا على وضع لجنة خاصة بالأخلاقيات بالمجلس، تتولى تتبع ومراقبة التزام القضاة بالمدونة المذكورة، مستحضرا مدونة الأخلاقيات القضائية، المنشورة بتاريخ 8 مارس 2021 بالجريدة الرسمية للمملكة، "التي نصت ديباجتها على الأسس التي استُحْضِرَت خلال وضع المدونة". ويتعلق الأمر، وفق المتحدث ذاته، بمساعدة القضاة على معرفةٍ أحْسَنَ للواجبات الأخلاقية لمهنتهم، وتوفير إطار مرجعي يوجه سلوكهم الأخلاقي بما يتلاءم مع رسالة القضاء، وكذا استحضار إكراهات العولمة التي تواجه بها مهمة إنتاج العدالة، ولا سيما ما تطرحه وسائل الاتصال الحديثة والتكنولوجية وشبكات التواصل الاجتماعي من صعوبات. كما نصت المدونة على استحضار خصوصيات النظام القضائي بالمغرب، "واعتماد الدستور والتوجيهات الملكية والقانون التنظيمي للمجلس والنظام الأساسي للقضاة، والالتزامات الدولية للمملكة، في إعداد المدونة، إضافة إلى فتح الباب في مرحلة الإعداد للجمعيات المهنية للقضاة للإدلاء بتقارير موضوعاتية حول أخلاقيات المهنة، وكذا دعم لجنة الأخلاقيات بمؤسسات جهوية تتمثل في المسؤولين القضائيين لمحاكم الاستئناف، الذين أَسْندت لهم المدونة مهمة مستشاري الأخلاقيات". كما استعرض الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المبادئ التسعة الأساسية التي اعتبرتها المدونة مبادئ أخلاقية تقوم عليها مهنة القضاء، ويتعين على القضاة الالتزام بها، وهي "الاستقلال في ممارسة مهنة القضاء، وعدم الخضوع لأي سلطة سوى سلطة الضمير والتطبيق العادل للقانون والالتزام بقواعد العدالة والإنصاف، وكذا الحياد والتجرد في أداء الوظائف القضائية، دون تحيز أو تحامل أو محاباة تجاه أي طرف، والتجرد من القناعات الإيديولوجية المختلفة". إضافة إلى ذلك، نصت المدونة على "المساواة بين الأطراف دون تمييز كيفما كان أساسه، النزاهة، التي تقتضي الابتعاد عن كل سلوك مشين، ورفض الإغراءات، وكذا الكفاءة والاجتهاد، الأمر الذي يقتضي مواكبة المستجدات القانونية والاجتهاد القضائي والممارسات القضائية الفضلى، والحرص على ضمان جودة الأحكام وإعطاء العناية للقضايا التي يكلف بها القاضي". كما دعت المدونة، وفق كلمة عبد النباوي دائما، "إلى الجرأة والشجاعة الأدبية، التي تتمثل في القدرة على التعبير عن القناعات القانونية والدفاع عنها بشجاعة. والقدرة على مقاومة الحرج والتردد في اتخاذ القرار الملائم المستمد من الحق والقانون، واعتماد التحفظ، ويقصد به حرصُ القاضي على الاتزان والرصانة في سلوكه وتعبيره، والعزوفُ عن إبداء آراء أو مواقف يكون من شأنها المساس بثقة المتقاضي في استقلال وحياد القضاء". وشدد المتحدث على أن المدونة دعت أخيرا إلى اللباقة وحسن المظهر، "ويراد بها التصرف السليم للقاضي، الذي يجسد التزامَه بالقيم الإنسانية وآداب التعامل والتحلي بالخصال الحميدة، وإظهار الاحترام المتبادل مع محيطه والحرص على الظهور بمظهر لائق، إضافة إلى حس التضامن، ويراد به وحدة الجسم القضائي وتضامن المنتمين إليه في تبادل النصح عند الإخلال بالمبادئ والقيم القضائية، والامتناع عن المساس باستمرارية المرفق القضائي". وختم عبد النباوي كلمته بالقول: "ها هي مدونة الأخلاقيات قد أصبحت أمراً ملموساً بين أيديكم، وتضمنت تطبيقات عملية واضحة من شأنها رفع اللبس عن التصرفات الماسة بشرف المهنة ووقارها، فأرجو أن تعملوا جميعاً على الالتزام بمقتضياتها بإرادتكم وعزيمتكم، وأن تعملوا على تقديم النصح لزملائكم وتحسيسهم بأهمية الوفاء للأخلاقيات القضائية. كما أدعو السادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين لديها-باعتبارهم مستشاري الأخلاقيات-إلى تنظيم حلقات للدراسة والتكوين بشأن مدونة الأخلاقيات، وإلى الاضطلاع بدورهم كمستشاري الأخلاقيات القضائية بدوائر نفوذ محاكم الاستئناف، وذلك لما سيترتب عن ذلك من أثر إيجابي على الأداء القضائي. إذ أن كل مجهود في سبيل تحقيق المبادئ الأساسية الناظمة لمهنة القضاء، مثل الاستقلال والحياد والتجرد والنزاهة والاستقامة، والعناية بالملفات، لا بد أن يترتب عنه تحسن سمعة القضاء وزيادة منسوب الثقة في أحكامه". واعتبر الحسن الداكي، الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة، أنه مهما كانت القوانين متقدمة ومهما كانت مدونة الأخلاقيات متناغمة مع الأهداف النبيلة للعدالة، "فإن الرهان الأكبر يبقى هو الضمير المسؤول للقضاة وفق ما جاء في خطاب جلالة الملك نصره الله بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لاعتلاء جلالته عرش أسلافه الميامين". وأضاف الداكي أنه مهما تكن أهمية هذا الإصلاح وما عبئ له من نصوص تنظيمية وآليات فعالة، "فسيظل الضمير المسؤول للفاعلين فيه، هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته. ولذلك، فإن القاضي اليوم مدعو لأن يكون قدوة في وقاره وعلمه وهندامه وعلاقته بمحيطه الأسري والمجتمعي؛ فالقاضي لا يوزن بنفس الميزان الذي يوزن به باقي أفراد المجتمع، بل إن المجتمع يضع تمثلات خاصة للقاضي ترتبه في مصاف الفضلاء النزهاء العدول المبتعدين عن الشبهات، ولذلك لا يقبل المجتمع من القاضي أي سلوك يمس بوقاره أو يزعزع ثقة المتقاضين في عدله وحياده". واختتم المتحدث كلمته بالقول: "إننا جميعا مدعوون للمساهمة في تكريس الأخلاقيات القضائية، فالمجلس الأعلى للسلطة القضائية يتحمل أمانة دستورية في صون الأخلاقيات القضائية وتقويم السلوك القضائي، والمسؤولون القضائيون مدعوون ليكونوا آباء مرشدين لباقي القضاة يؤطرونهم وينصحونهم وينبهونهم لما قد يقعون فيه من خلل أو زلل، والجمعيات المهنية مدعوة لنشر القيم القضائية والتحسيس بها، والإعلام مدعو لنشر الأخلاقيات والقيم القضائية النبيلة، ليس فقط من خلال تناول الممارسات المخلة بهذه الأخلاقيات، ولكن أيضا من خلال تسليط الضوء على الجوانب المشرقة من عمل القضاة وسلوكهم".