لم يسبق للإسلام أن دخل أرضا إلا وبقي فيها باستثناء إسبانيا أو الأندلس التي سكنها مدة ثمانية قرون، إلى أن خرج منها رسمياصبيحة يوم الاثنين 2 يناير 1492، عندما سلم أبو عبد الله الصغير، آخر أمراء بنو الأحمر في غرناطة مفاتيح المدينة للملكة ايزابيل الكاثوليكية وزوجها فيرناندو على أساس الحفاظ على عقيدة المسلمين الذين يعيشون بها واحترام عقيدتهم وممتلكاتهم، لكن روح الاتفاقية لم تحترم إلا سنوات قليلة، تلاها تنصير جماعي للمسلمين الذين ظلوا بشبه الجزيرة الإيبيرية بعد سقوط آخر قلاع الإسلام بها، وعرفوا بالموريسكيين، هؤلاء حاولوا الحفاظ على الإسلام سرا لسنوات طويلة، وبعدما تمردوا في جبال البشارات بقيادة فيرناندو بني أمية جاء الطرد الجماعي للموريسكيين بقرار صدر عن الملك فليبي الثالث عام 1609، وكان ذلك إعلانا بطي صفحة الإسلام نهائيا وترسيخ الكنيسة للمسيحية الكاثوليكية كديانة وحيدة بإسبانيا، ظل هذا الأمر لقرون عديدة إلى أن عاد الإسلام جزئيا مع المحاربين الذي خاضوا حربا ضد "الشيوعيين الملحدين" رفقة الجنرال فرانكو ما بين عامي 1936 و1939، ثم بدأت بعض الجمعيات الإسلامية بالظهور في إسبانيا، وارتبط بعضها بتيار الإخوان المسلمين في أوربا، وبعضها جمعيات خيرية مرتبطة بالمملكة العربية السعودية التي استثمرت أموالا في بناء المساجد، مرتكزة على الماضي الإسلامي في جنوبإسبانيا، خصوصا وما يخلفه ذلك من حنين خاص إلى حقبة "الأندلس"، وبين الحواشي نبتت تيارات سلفية متطرفة ستضر كثيرا بصورة الإسلام إثر تفجيرات قطارات الضواحي بمدريد ربيع عام2004. ارتفع الآذان داخل المساجد بعدما انقطع لقرون، ومع الوقت صار المسلمون في شبه الجزيرة الإيبرية يلامس عددهم مليون ونصف شخص، يشكل المغاربة فيهم السواد الأعظم، وأمام عودة "أحفاد الموريسكيين" إلى الأندلس بحثا عن حياة أفضل، وجدت مدريد نفسها مجبرة على تدبير هذا الحقل من "الألغام"، فهي تنظر بكثير من الريبة إلى القادمين من وراء مضيق جبل طارق والحاملين معهم مصاحفهم بين ثيابهم مرة أخرى، وظلت تخشى من توظيف الرباط لورقة التأطير الديني للمس بالأمن القومي لإسبانيا والضغط عليها، وكانت تلك أولى معارك الحرب الدينية الجديدة، فالحرب الخفية هنا باتت حول من يتكلم باسم الإسلام في إسبانيا الكاثوليكية. ورغم أن السواد الأعظم من المسلمين في إسبانيا مغاربة، فقد راهنت الدولة الإسبانية على أن يكون الناطقون باسم الإسلام من المشارقة، وهنا برز دور فعاليات منتمية إلى تيار الإخوان المسلمين السوري، وكان أبرز تلك الوجوه هو الناشط السوري رياش التتاري الذي انبرى للعب دور "المايسترو" الضابط لإيقاع الحقل الديني بإسبانيا، وأعلنت حربا شعواء بينه وبين نشطاء مغاربة يدافعون عن خصوصية الإسلام المغربي، وخطر الإخوان على عقيدة المغاربة، فكانت حربا جديدة بين "الطوائف" على أرض إسبانية. وانضاف إلى المشهد بعض الوجوه الإسبانية التي أعلنت اعتناقها أو "رجوعها" للإسلام، ولم تكتف بأداء الأركان الخمسة للدين الجديد، بل خطت لنفسها أيضا طريق المطالبة بحقوق المسلمين الثقافية والدينية فوق شبه الجزيرة، عدد من هؤلاء لم يكن لهم دور يذكر بإسبانيا قبل إسلامهم، وتحولوا إلى كتاب رأي في الصحف ومحاضرين ومؤلفين فقط تأتيهم الأموال من كل فج عميق، لاعتناقهم الإسلام الذي تحول عند بعضهم إلى "تجارة مربحة"، فالخليجي يرتجف مثل دجاجة مذبوحة وتكاد عيناه تذرف دمعا عندما يرى أمامه رجلا أشقر بعيون زرقاء يقدم نفسه أنه مسلم، ويفتح خزائنه دعما لهذا الإسباني الذي اعتنق دينه المطرود من أندلسه القديم. عاد أحفاد المسلمون في حلة جديدة إلى أرضهم القديمة ليمارسوا حروبهم نفسها باسم دين ظلم كثيرا، وقضيت باسمه الكثير من الحاجات التي تمور في النفوس، ففي الأندلس ولد الإسلام غريبا وخرج منها غريبا، وحتى عندما كتبت له العودة بعد قرون، سيجد نفسه لعبة بين أيدي الغرباء.