« التعرف على متوحش من مسافة بعيدة أسهل من التعرف على متحضر » بول فاليري « نحن الأوروبيون خلعنا الخوذةن لكن الراس لا يزال كولونياليا » ريجيس دوبري تهاوي أوروبا تتهاوى اليوم، ليس فقط بفعل هيمنة الأمركة، وإنما أيضا بسبب صعود اقتصادات أخرى جديدة قادمة من الشرق؛ تحقق اليابان منذ مدة طويلة وبانتظام ناتجا سنويا يعادل مرتين ما تحققه فرنسا، ويكاد الناتج الخام للصين يعادل كل ناتج دول أوروبا مجتمعة.. في حين تتربع أمريكا على ناتج خام يفوق بكثير نظيره الأوروبي.. المدهش أن بلدا ناهضا مثل الهند كان على حافة الإفلاس في التسعينات وصل سنة 2020 إلى تحقيق ناتج خام مجموعه 2650 مليار دولار؛ متفوقا على دول أوروبية كالمملكة المتحدة (2630 مليار دولار) وفرنسا (2580 مليار دولار).. سنغافورة مثلا وهي بلد صغير من حيث المساحة يصل نصيب الفرد فيها من الدخل القومي ما يقارب 60 ألف دولار؛ في مقابل 31 ألف دولار بالنسبة لاسبانيا.. ما الذي يعنيه ذلك غير تهاوي أوروبا بالتدريج، أو على الأقل تراجعها البين إزاء صعود نماذج جديدة للدولة المعاصرة قادمة هذه المرة من الشرق.. أليس في ذلك سقوط النموذج الأوربي من عليائه وهو الذي ظل يستلهم ركائزه من عصر التنوير؛ وبقينا نحن كجماعة ناطقة بالعربية أسرى هذا السراب، نلاحقه طيلة قرن دون جدوى ؟.. ربما هذا يفسر لماذا لم ينجح اقتصاد أي بلد عربي في تحقيق معجزة اقتصادية- باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة؛ النموذج العربي الوحيد الذي اقتدى بنهج الحداثة البعدية من حيث المعمار والانفتاح الاقتصادي والأهم، تدرج التمثيل السياسي بما يتلائم والتحولات المجتمعية. أفول التمركز الأوروبي وضع الاقتصاد والمعرفة اليوم تحدده وسائل إنتاج مغايرة وأكثر تطورا من تلك التي رسختها حداثة الأنوار الأوروبية منذ نهايات القرن التاسع عشر. يشير ريجيس دوبري إلى أن تهاوي أوروبا الفعلي قد تم عمليا في منتصف الأربعينات مع إنزال النورماندي؛ ويا لمكر التاريخ: كان المغرب في قلب حدث تحرير القارة العجوز من النازية والفاشية بإرادة ملكية للسلطان محمد بن يوسف. ذهب دوبري في كتابه (حضارة أو كيف تأمركنا) إلى أن أوروبا وقتها كانت أمام خطرين: نازي أو أمريكي؛ وإن كان الثاني أقل ضررا من الأول؛ غير أن النتيجة في كلتا الحالتين ومهما كان المنتصر لم تكن لتخرج عن حقيقة واحدة: فقدان أوروبا لماضيها. وأي فقدان لا يمكن أن يثير سوى مشاعر الحنين، وليس الحنين سوى مسامرة غائب لغائب. .. هذا يفسر لماذا يرفض سياسيون أوروبيون الإقرار بحقيقة أن مغرب اليوم لم يعد هو مغرب الأمس.. مثلما يفسر أيضا سوء التفاهم الكبير بين هذه القارة العجوز والإسلام – ليس هذا دفاعا عن الإسلاموية لأنها مذمومة ومرفوضة كليا؛ بل جزء كبير من هذا البلاء الإسلاموي إنما يعود لسياسات أوربية تجاه الأقليات المسلمة برميها في الهامش ؟.. أخطر الحركات المتطرفة انطلقت من تراب أوروبا أو على الأقل عززتها أوروبا بشريا بقنابل موقوتة جاهزة للانفجار.. وضع يكاد يخص إسلاميو هذه القارة الذين ولدوا وعاشوا فيها وحملوا جنسياتها.. كل ذلك نتاج تمركز أوروبي ازدهر في النصف الأول من القرن الماضي ولا تزال بقاياه محفورة في أذهان بعض السياسيين.. بول فاليري مثلا، كان يعتقد جازما بأن انتصار النازية سيكون نهاية لأوروبا، هذا واضح ومتفق عليه؛ ولكنه آمن أيضا بأن نهاية أوروبا لو حدثت؛ فستكون نهاية للعالم أجمع؛ وهذا وهم الذات المفرطة في تضخمها وتكلسها.. لأن الحضارة لا جنسية لها.. أوروبا لم تعد نموذجا أوروبا شريك أساسي لنا، ومستقبلنا معا مترابط ومتشابك، هذا أكيد.. لكنه لا يعني بالضرورة أن تبقى القارة العجوز الحليف والقدوة والشريك الواحد الأوحد؛ حتى تصورنا في وقت ما بأن العالم كله ينحصر في حدود أوروبية.. سنخاطر بتاريخنا وبمستقبلنا لو بقينا كتلك الدابة معصوبة العينين التي تدور في نفس الساقية، دون أن تلتفت يمينا أو شمالا.. تنشأ قوة أمريكا من قدرتها على نسيان عبء الماضي والتخفف منه؛ وتسير دول آسيا نحو معجزتها بفضل هذا التحرر من مرض التاريخ، لأن التاريخ الأيقوني لا يقود إلى أي مستقبل. منا من استنكر فقال: – هل نحن في حجم اسبانيا أو ألمانيا حتى نرفع راية التحدي ؟.. ومن الخارج ادعت أخرى بكل حقد ووقاحة: – على المغرب أن يحترم الأوروبيين بأن يعرف حجمه.. وهنالك من العدميين من لم يخف أمانيه بأن تسحب أمريكا اعترافها بمغربية الصحراء.. ولكن خاب المسعى، وتبين بالملموس بأن دبلوماسية هذا البلد لها من المفاتيح ما يمكنها من فتح كل الأبواب المغلقة.. أدرك هذا حكماء من خارج هذا البلد، فيما يغفله قلة من البلداء أعماهم حقد منبعه الفشل الذاتي؛ فلم يتبينوا حقيقة أن الأموات ليس بوسعهم دفن الأحياء. نحتاج أوروبا؛ هذا صحيح، ولكن حاجتها إلينا أكبر وأكثر في ظل هذا التحول السريع نحو التصنيع البديل والنظيف؛ لذلك ليس في وسع البرلمان الأوروبي مهما بلغت قوته أن يصدر قرارا ذي صفة عقابية ولا حتى زجرية بحق بلد ضامن للأمن في المنطقة ومعزز لقيم التسامح؛ بلد عرف عبر تاريخه العريق بالحكمة والتعقل؛ واليوم لا ذنب له سوى إصراره على تعزيز وحدته الترابية وتنمية موارده لتحسين ظروف عيش مواطنيه الذين يستحقون الأفضل.. رافضا سياسة الخضوع؛ أو أن يكون التلميذ في حضرة الأستاذ.. أو لم يسمع هؤلاء الأوروبيون بمواطنهم البولندي تادوز كانتور وهو يعلن موت الفصل الدراسي في عرضه المسرحي الخالد. وحتى أوضاعنا ومهما بلغت من سوء، هل ستمنعنا من الجهر بهذه الحقيقة؟ .. مهما ساءت أوضاعنا فلن نكون ذلك الشعب المنكسر الذي انتدب فريق منه رئيسا أوروبيا ليشكل له حكومة أو ليحاسب له مفسدين.. ولسنا أيضا شعبا مقهورا جثم على أنفاسه طغمة من الكابرانات الذين لم يرفعوا سلاحهم يوما سوى في وجه مواطنيهم المغلوبين على أمرهم؛ بعدما انصرفت عنهم مجالس حقوق الإنسان وجائزة نوبل للسلام؛ فقط لأن مصلحة قارتهم مع هذا العسكر.. ولن نكون أبدا من تلك الشعوب التي غرتها شعارات جوفاء، فانبرت تقاتل بعضها لعقد كامل، حتى سهل على الأوروبيين أن يحكموا قبضتهم عليهم، وبعدما باعوهم السلاح ليتقاتلوا به صاروا اليوم ينظمون لهم اجتماعات للسلام. نحن مغاربة؛ معروفون بالاسم منذ غابر الأزمان؛ نفس الراية ونفس الملكية التي تنافس أعتى الملكيات في عراقتها.. تكالب علينا المستعمرون الأوروبيون عبرالتاريخ ودحرناهم؛ ولكننا ورغم كل الحكومات الفاشلة؛ لنا لسان نخاطب به البرلمان الأوروبي قائلين له: إذا كنت حقا مع تقرير المصير وحرية الشعوب؛ فيكفي أن تقنع الجارة الشرقية برفع الحواجز عن إخواننا المحتجزين في مخيمات العار؛ وآنذاك سنرى من سيبقى هناك؛ ومن سيترك وطنه الأم ليلتحق بتنظيم شبح انتهى ولم يعد له وجود.. هذا ليس كلامنا، بل ما انتهى إليه منذ أيام أشهر محلل إسباني مؤثر في الراي العام؛ فرنسيسكو مارهويندا رئيس تحرير جريدة لاراسون في فيديو عنوانه: نهاية أسطورة البوليساريو El fin del lider del frente polisario وهو موجود على اليوتيوب. لكننا أيضا نقول لمهندسي التنمية ببلادنا؛ نموذجنا التنموي الحقيقي لم يعد في أوروبا؛ لانها لم تعد تلك القارة الملهمة كما في القرنين السابقين؛ ولكنه هناك في أمريكا ملهمة نماذج ما بعد التصنيع؛ وهناك في الهند والصين وكوريا وسنغافورة الذين استلهموا وطوروا هذا النموذج الأمريكي؛ وإن أردتم من دليل؛ إليكم معجزة رواندا التي في عقد واحد فاقت معدلات النمو بها كلا من الهند والصين؛ بعدما لم تربح من تبعيتها لأوروبا طيلة عقود سوى حرب أهلية دامية قضت على الأخضر واليابس.