أخطاء الإخوان انطلاقة الإخوان المسلمين في العمل السياسي، لمرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، كانت منذ البداية محفوفة بغير قليل من الأخطاء الكبرى، والخطايا السياسية، التي تنبئ عن تضخم مزمن في الأنا التنظيمية، وتطرف في المنهج البراكماتي لدى الجماعة، نذكر منها بعض أبرز المراحل، انطلاقا من إخلاف الوعد بعدم ترشيح أي شخصية من التنظيم لسباق الرئاسة، مرورا بفصل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ورفض التحالف معه في مرحلة لاحقة، حتى بعد بروز إرهاصات احتمال تكوينه لتيار سياسي وطني قوي، وظهور مؤشرات على خسائر قد يتكبدها التيار الإسلامي بتعدد مرشحيه، مما أفرز فوز المرشح الإخواني بصعوبة وبفارق ضئيل عن منافسه، مرورا بالإعلان الدستوري البائس، والطريقة الاستباقية الهزلية التي اختُتم بها مسار وضع مشروع الدستور، والفشل الذريع في تحقيق حد أدنى من التوافق السياسي والمجتمعي، كان من أبرز أسبابه – فضلا عن انعدام الإرادة السياسية في الضفة الأخرى - الإخفاق في الجسارة على تقديم التنازلات المؤلمة التي من شأنها إزالة فتيل التوتر، واحتواء طيف مهم من القوى السياسية المعارضة، وأسلوب الأثرة، وإعلاء كلمة الجماعة فوق كل اعتبار، كان من آخر نتائجها فقدان تعاطف وتعاون حليف واعد من فصائل التيار الإسلامي ليس سوى حزب النور الذي أثث حضوره واجهة "الفترينا" التي أريد لها أن تجمل وجه البيان الإنقلابي الذميم! كل ذلك، لا يمكن بأي منطق ديمقراطي، أو حس تَوّاق إلى الحرية، أن يُسَوغ الكارثة النكوصية التي حلت بأرض الكنانة، والإطاحة بأول رئيس مدني منتخب من قبل الشعب مباشرة في انتخابات شفافة في تاريخ الدول العربية، وتبرير تدخل العسكر في الحياة السياسية على ذلك النحو الفج باعتباره أمرا طبيعيا أو خيارا منطقيا أملته الضرورة الوطنية. الهزال الشديد الذي طبع الأداء الرئاسي للدكتور مرسي، وارتهانه لصانع القرار التنظيمي، والتدني البالغ لمستوى اللغة السياسية لخطاباته الرئاسية، التي كانت في كل مرة مخلصة للخروج عن النص، و الأسلوب الارتجالي الأقرب شكليا إلى الموعظة التربوية منه إلى خطاب رئيس منتخب إلى مواطني شعبه... الإقرار بكل ذلك، لا يعطي بحال للخصوم السياسيين، للتيار الإسلامي أو جماعة الإخوان تحديدا، أية ذريعة شرعية أو وطنية للقول بتبني المنطق الانقلابي على الشرعية الانتخابية والدستورية، وإنكار أحقية الجماعة في أن تكون جزءا أساسيا من الحكم، وهي التي أكدت كل استحقاقات ما بعد ثورة 2011 وزنها الشعبي الكبير، الذي يبوئها بجدارة لا يماري فيها منصف، مرتبة الفصيل السياسي الأول في البلد، فضلا عن تاريخها النضالي الوطني، والتأطيري الخدماتي للمجتمع المصري، وكذا نظافة يد الفاعل الإسلامي ابتداء من الرئيس مرسي الذي لا يجرأ أحد اليوم، بعد عام من ممارسة السلطة "المحاصرة"، على الطعن في ذمته الأخلاقية والمالية، وليس انتهاء عند باقي المسؤولين المبتدئين المحسوبين على التيار الإخواني. المؤامرة... وأكذوبة الانحياز إلى الشعب! بعيدا عن الارتهان لأي تحليل موغل في الإيمان بنظرية المؤامرة، ثمةَ عدة مظاهر ساطعة للمؤامرة السافرة التي خُطط لها تحت وطأة الطلب الداخلي والخارجي من أجل الإطاحة بالرئيس الإخواني، والتي تتبدى أولا، من خلال الآلة الإعلامية الجهنمية لقنوات رجال الأعمال الفاسدين، و رفاقهم من فلول مناهضي الثورة ممن ألفوا قطف الثمار الممتزجة و"الباردة" للسلطة والثروة، الذين لطالما وظفوا بلطجية مرتزقة، وإعلاميين بارزين مأجورين باعوا ضمائرهم للشيطان، وانخرطوا في حملات تشويهية نكراء، لا تمت لا للحياد ولا للموضوعية، ولا لأبسط قواعد الصدق والمصداقية بصلة، وثانيا، عبر أموال بعض الدول الخليجية المؤلبة للقلاقل، والخائفة من انتقال الثورة إلى ربوعها، والتي لم تتورع عن تأكيد "تدخلها" عبر المسارعة إلى مباركة الإنقلاب العسكري السمج، وثالثا، في المخططات الصهيو-أمريكية المتوجسة من استقلال القرار المصري، والعازفة على كل الأوتار في نفس الآن حفاظا على مصالحها، أما رابعا، وليس أخيرا، ففي زيغ بعض المناضلين المناهضين للإخوان عن جاذة الإنصاف، وتنكرهم للمبادئ الديمقراطية التي طالما شنفوا آذاننا بالتغني بها، إلى أن سقطت أقنعتُهم وظهرت حقيقتُهم وهم يبادرون بمباركة كارثة انقلابية تعود بالثورة المصرية للمربع صفر... كل ذلك ساهم بشكل أو بآخر في استثمار الأخطاء القاتلة للإسلاميين، وتأليب فئات عريضة من الشعب المصري، وحتى ممن كانوا يتعاطفون مع التيار الإسلامي ويصوتون له، وهو ما لا يخفى عن ذي بصر، ولا عن الديمقراطيين الحقيقيين الذين يحترمون نتائج الصناديق، ويؤمنون حقا بالقواعد الأكثر عمقا لتدبير الإختلاف، وثقافة التوافق، والاعتراف بالآخر، والإيمان بعدم احتكار الصوابية في كل المراحل، ويمقتون حكم العسكر في جميع الأحوال، ولا عن المنصفين الممسكين بجمرة البحث عن الحقيقة، الذين يدركون جيدا أن أكذوبة الانحياز إلى الشعب ليست سوى أسطورة، فإذا كان العسكر وحلفاؤهم الانقلابيون قد انحازوا، حسب ادعائهم، إلى الشعب الرابض بالملايين في ميدان التحرير وغيره من الميادين المناوئة لمرسي، فبماذا يمكن أن ننعت القسم الآخر من الملايين المرابطة في ميدان رابعة العدوية وغيرها من الميادين الموالية للرئيس وتياره؟ أليست تلك الجحافل من المواطنين من الشعب المصري؟ ألا ينحاز الجيش المصري ضد قسم هام من الشعب بانحيازه إلى القسم الآخر؟ وما هو المعيار العلمي والمحايد للجزم بكون الأغلبية توجد في هذا القسم أو ذاك ما دام الشعب قد خرج بالملايين في المعسكرين معا؟ وهل نحن هنا كما يدعي المرجفون، بصدد حالة يعيد فيها التاريخ نفسه بالمقارنة مع إسقاط نظام مبارك من قبل الجيش أيضا إبان بدايات الثورة قبل أكثر من سنتين؟ حقيقة، يعد الجواب بالإيجاب على السؤال الأخير ضربا من الضحك الممجوج على الذقون، وأسلوبا مفضوحا في محاولة خلط الأوراق وتبرير ما لا يبرر، لأن العالم بأسره قد شاهد الشعب المصري كيف كان موحدا إلى أقصى الحدود في ثورة يناير 2011، وكيف انشطر على حاله إلى معسكرين متقاربين من حيث القوة الشعبية قد وحدهما الوطن، وفرقتهما المؤامرات والسياسة ، مما كان يستوجب على المؤسسة العسكرية، والحالة هذه، لو كانت حقا غيورة على المصلحة الوطنية، أن تحترم الشرعية الانتخابية والدستورية، وأن ينحصر دورها في أقصى الحدود في وضع خريطة طريق تحكيمية محايدة، غير منحازة لأحد من الفريقين دون الآخر، لإنقاذ الوطن المنقسم من أخطار محدقة، ولكن دون الانقلاب على الشرعية، ودون أن تنبري طرفا في الخلاف، بدل أن تنتصب حَكَما على نفس المسافة من كل الأطراف. الأزمة المصرية... والديماغوجية الفُسطاطية الأرجح أن أزمة الأمة المصرية ستطول، وتتعقد أكثر فأكثر مع مرور الزمن، ومع إصرار الفاعلين السياسيين الأساسيين على تحاشي مناقشة التحديات الحقيقية التي تعيق الوفاق الوطني، وتضع أصبع التشخيص على مكامن الخلل في الجسم التوافقي فيما بينها، وعلى العوائق الذاتية والموضوعية التي تساهم في احتباس التيار الحواري البيني، والتوصل إلى القواعد السياسية، المنبثقة من الإيمان بالتعددية، والقمينة بإنجاح إطلاق التجربة الديمقراطية، لأن الإصرار المزمن، لدى معظم التيارات الرئيسية في مصر الثورة، على استعمال الخطاب الديماغوجي، والقصف المتبادل، المستند على الثقافة "الفُسطاطية" التي تقسم المجتمع على أساس معايير غير واقعية، وغير موضوعية، لا يمكنها من التوصل إلى هكذا أعراف راقية لتدبير الاختلاف السياسي والإيديولوجي، ذلك أن إمعان الإسلاميين، من جهة، في دغدغة عواطف الجماهير، و المبالغة في العزف على وتر العقيدة، واستغلال الشعور الديني الفطري لفئات واسعة من الشعب المصري، ومحاولة وصم الخصوم وكل المتواجدين في الطرف الآخر بمعاداة الشريعة، وتقسيم المجتمع على أساس مغلوط يقوم على فُسطاطين يميزهما مدى القرب أو البعد من الدين؛ وكذا وفاء المعارضة السابقة، بشتى تلاوينها، من جهة ثانية، لمنهج تطبعه مغازلة النزوع الثوري للجماهير المصرية، وبخاصة الشبابية منها، وادعاء احتكار النفَس الديمقراطي، والإلحاح الدائم على وصم الإسلاميين، وكل من حالفهم سياسيا، باعداء الديمقراطية والحرية، وحصر تسليط الضوء على أخطائهم، وغض الطرف أو إنكار إنجازاتهم وإن قلت، ومحاولة تقسيم المجتمع، بناء على ذلك، إلى فسطاطين أيضا، ولكن هذه المرة، انطلاقا من التعالي الحداثوي، والحُرياتوي، بين قسم من المجتمع متطلع للحرية والديمقراطية، يدعون أنفسهم يمتلكون أصله التجاري دون غيرهم، وقسم آخر نقيض لذلك ليس سوى الطيف الإسلامي بشتى فصائله. لا يمكن للنخبة المصرية، انطلاقا مما سبق، الانعتاق من حالة الاستقطاب الحاد التي تشل حركتها نحو النهضة الحقيقية التي يستحقها الشعب المصري المغوار، وحل مشاكل الحاضر، ورسم خريطة لمستقبل مشرق، إلا بلفظ كل الدعاوى المتحاملة من أي طرف كان، والتخلي عن الديماغوجية الفُسطاطية، والبراكماتية غير المؤطرة بأي وازع وطني أو أخلاقي، والضرب تحت الحزام، والسمو بالخطاب والممارسة السياسيَيْن إلى مستوى اللحظة الثورية، وما يناسبها من تجرد وطني، وتطليق لرموز الفساد وألوية العسكر، ووضع الوعي الديمقراطي، والثقافة الراقية لتدبير الخلاف، ومكتسبات الشعب، والمصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار. [email protected]