منذ ما عرف، تاريخيا، بثورة الضباط الأحرار (1952) في مصر و ما تلاه من انقلابات عسكرية، في العراق و سوريا و اليمن و ليبيا و الجزائر، كانت المعادلة السياسية السائدة تقوم على أساس تحالف إيديولوجي بين العسكرتاريا و القوى العلمانوية، ذات النزوع اليساري و الليبرالي و القومي، بهدف التأسيس لأنظمة شمولية مطلقة في المنطقة العربية . و قبل الدخول في اختبار هذه الفرضية، لابد أولا من توضيح مقصونا من مفهومين أساسيين: 1- العسكرتاريا: لا نقصد، بهذا المفهوم، مؤسسة الجيش، بالمعنى الديمقراطي الذي يحدد وظيفته في حماية حدود البلاد و الدفاع عن سيادة الدولة في مواجهة التهديدات الخارجية. و لكن، نقصد به ذلك التحول الذي حدث على مستوى العقيدة العسكرية، و قاد الضباط إلى التحول لفاعلين سياسيين يمتلكون إيديولوجيتهم الخاصة التي يقدمونها كبديل للمشاريع و الرؤى السياسية السائدة. و قد كانت ثورة الضباط الأحرار في مصر شاهدة على هذا التحول. 2- القوى العلمانوية: لا نقصد، بهذا المفهوم، دعاة الفكر الليبرالي الحديث، الذين يناضلون من اجل الفصل بين السلطتين المادية و الروحية، و يؤمنون بالديمقراطية، كتعددية و اختلاف و تداول سلمي على السلطة، و يدافعون عن حقوق الإنسان، بطابعها الإنساني الخالص من نوازع الإيديولوجيا و المذهبية و العرقية. إن العلمانوية صفة تطلق على خليط إيديولوجي غير متجانس، يجمع أقصى اليمين بأقصى اليسار، و يجمع الفاعل القومي بالفاعل العرقي. لكن، المشترك بين هذه التيارات، التي قد تصل حد التناقض أحيانا، هو استيراد أنماط فكرية و سياسية جاهزة بهدف زرعها في التربة العربية، لكن عملية الاستيراد هذه تعاني من فقر معرفي مدقع. فهي بقدر ما تعاني من ضبابية في علاقتها بالفكر الغربي، فهي كذلك تعاني من عمى إيديولوجي، في علاقتها بمقومات خصوصيتها الحضارية. لقد عاش العالم العربي على وقع هذا الزواج الكاثوليكي، لعقود، و هذا ما أدى إلى كوارث سياسية فادحة، حيث تراجعت الطموحات الديمقراطية، و تم فسح المجال أمام الأنظمة الشمولية، التي وظفت العنف الرمزي بطابعه الإيديولوجي و العنف المادي بطابعه العسكري-الأمني، بهدف المحافظة على وضعية السطاتيكو التي تخدم مصالحها الفئوية الضيقة . و لعل ما ميز هذا التحالف، هو افتقاد طرفيه للشرعية الشعبية نظرا للغياب المضاعف لحضور هذه القوى، فهي ليست امتدادا إيديولوجيا لفئات واسعة توجد في المجتمع تقوم بدعم خياراتها، بل هي قوى فرضت نفسها من خارج الحراك الاجتماعي، باعتبارها وصيا يوجه هذا الحراك عن بعد. و لذلك، فإن سيطرة هذا التحالف على السلطة، لعقود، لم يمكنه من اكتساب شرعية شعبية تمكنه من الائتمان على مستقبله السياسي. لكن، التحولات التي عاش العالم العربي على وقعها، منذ سقوط جدار برلين و اندفاع الطموحات الديمقراطية إلى السطح في أمريكا اللاتينية و أوربا الشرقية، هذه التحولات كانت تبشر، منذ البداية، بإفلاس هذا التحالف. و قد ظهرت بوادر هذا الإفلاس في العراق، حيث تمكنت الإرادة الشعبية من زعزعة أسس النظام الشمولي البعثي، و ذلك رغم ما أبداه من تماسك مصطنع زكاه من خلال شعارات وطنية و قومية ذات طموحات توسعية. و بعد سقوط النظام البعثي في العراق، كان صدى الإفلاس ينتشر في المنطقة العربية انتشار النار في الهشيم، الأمر الذي يجعلنا نفترض أن البذور الأولى للربيع العربي تم زرعها قبل عقدين من الزمن تقريبا ! لكن عملية الإنبات امتدت إلى حدود المرحلة الراهنة، حيث ما زالت قوة المد الثوري تضرب الأنظمة الشمولية بنفس القوة و العزيمة. لذلك، يمكن أن نعتبر أن الربيع العربي، عند انطلاقه، كان يستهدف تحقيق غايتين: • أولا، إرجاع العسكر إلى ثكناتهم للقيام بوظيفتهم العسكرية، بحماية الحدود و تحصين سيادة الدولة ضد التدخلات الخارجية، مع إفساح المجال أمام الفاعلين السياسيين للتنافس على كسب الإرادة الشعبية، التي يمكنها وحدها أن تقودهم إلى الحكم، و هذا طموح ديمقراطي مشروع كرسته الممارسة الديمقراطية عبر العالم، حيث لا يسمح للجيش بالتدخل في الشؤون السياسية، فهو وسيلة في يد القائد السياسي يوظفها للدفاع عن المصالح العليا للوطن. • ثانيا، ربط الشرعية السياسية بالامتداد الشعبي، فالفصيل السياسي الذي يمتلك تجذرا شعبيا هو الذي بإمكانه الوصول إلى الحكم، أما الفصيل الذي لا يمتلك هذا التجذر فعليه بالعمل البنيوي المرحلي لتحقيق الامتداد الشعبي الذي يمكنه من التداول السلمي على السلطة. و هذا كذلك طموح ديمقراطي مشروع، حيث تعتبر صناديق الاقتراع، الحكم الموضوعي الوحيد الذي بإمكانه إعلان فوز أو خسارة فصيل سياسي دون غيره. لقد كانت البوادر الأولى، بعيد الانتخابات التي تم تنظيمها في دول الربيع العربي، توحي بأن الغايتين معا في طريقهما إلى التحقق. ففي مصر وقف الجيش على الحياد و أشرف على نقل السلطة إلى رئيس مدني منتخب، و نفس الشيء حدث في تونس و اليمن. كما أن الفاعلين السياسيين، باختلاف إيديولوجياتهم، توافقوا على المنهجية الديمقراطية كحكم بينهم، و لذلك تم الاعتراف بالتتويج الانتخابي لفصيل الإخوان المسلمين في مصر، و فصيل النهضة في تونس. لكن، التحالف العسكرتاري-العلمانوي، الذي كان المتحكم الوحيد في مقاليد الحكم قبل الربيع العربي، كان يتعامل مع التوازنات القائمة كمرحلة عابرة، ستقود بالضرورة، في النهاية، إلى عودة هذا التحالف إلى مواقع المسؤولية. و قد كان الرهان واضحا، على إفشال التجربة الديمقراطية الوليدة عبر وضع الحواجز، سياسيا و اقتصاديا، أمام الفاعل السياسي الجديد لمنعه من التحرك بحرية، و ذلك بهدف إفقاده الشرعية الشعبية، من خلال عرقلة العملية التنموية، التي تعتبر السند الأساسي لنجاح التجربة الديمقراطية، فلا يمكن للفاعل السياسي الجديد أن يحافظ على الشرعية الشعبية، التي حصل عليها انتخابيا، في ظل وضع تنموي متردي . الحالة المصرية، اليوم، بعد الانقلاب الذي قاده التحالف العسكرتاري-العلمانوي، تؤكد، بشكل جلي، صحة الفرضية التي انطلقنا منها في البداية. فنحن رغم اختلافنا مع التوجه الإيديولوجي الإخواني، فإن هذا لا يمكنه أن يقف حاجزا بيننا و بين ما نعتبره واقعا موضوعيا، يتطلب من الباحث جرأة علمية و شجاعة أدبية قصوى للاعتراف بحقيقة ما يجري على أرض الواقع. إن أول ما يجب أن نعترف به، هو أن حزب الحرية و العدالة فصيل سياسي شرعي، قدم مرشحه الذي هو (محمد مرسي) إلى الانتخابات، و هذه العملية الانتخابية اعترف بشفافيتها كل الفاعلين السياسيين، بمختلف أطيافهم الإيديولوجية، و قد تم الإعلان، بشكل دستوري، عن اسم الفائز بالانتخابات، و تم تحديد فترته الانتخابية و تحديد صلاحياته الرئاسية بمنطق الدستور. لذلك، وجب فسح المجال أمام الرئيس المنتخب لتطبيق برنامجه الانتخابي خلال الفترة التي يحددها الدستور، و بعد ذلك يجب محاسبته، عبر الآليات الديمقراطية الانتخابية، و كذلك عبر الآليات القانونية القضائية. هذا، يحيلنا مباشرة إلى وضعية الفصائل المعارضة، التي تمنحها المنهجية الديمقراطية حق الاعتراض و تقديم المشروع البديل، لكن كل ذلك تحدده آليات دستورية و قانونية واضحة. فالمنهجية الديمقراطية بقدر ما تضمن للمعارضة حق الاعتراض و تقويم المشاريع السياسية و الاقتصادية، فهي كذلك تمنعها من عرقلة العمل الحكومي و التشويش عليه، خدمة للمصالح العليا للوطن. عندما نعود إلى الحالة المصرية، نجد مؤسسة الرئاسة، التي تمثل الأغلبية، قد ظلت محاصرة من كل جانب، و لم يفسح أمامها المجال لتنفيذ برنامجها الانتخابي، فقد وصل التشويش إلى درجاته القصوى، و اتخذ، في أغلب حالاته، طابعا إيديولوجيا فجا، لا يستجيب للمصالح العليا للوطن بقدر ما يسعى إلى خدمة أجندة فئوية ضيقة. لقد كانت المعارضة موجهة، بشكل دقيق، ضد حضور جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية، باعتبارها فصيلا سياسيا منبوذا، لعقود، و لا تنسجم أجندته السياسية مع التوجهات الإيديولوجية لمن يعتبرون أنفسهم البديل المفترض ! لذلك، نجد أن الرهان الحقيقي، الذي وضعته المعارضة نصب أعينها، هو إسقاط الرئيس (محمد مرسي) و من خلاله جماعة الإخوان المسلمين، و باعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، من منظور ميكيافيلي انتهازي، فإن التفكير في التحالف مع العسكر لإسقاط (حكم الإخوان) ظل حاضرا، منذ البداية، و لا تهم الضرائب التي يمكن أن يدفعها الشعب المصري، و من خلاله التجربة الديمقراطية في العالم العربي، باعتبار أن التجربة المصرية تحضر كنموذج قابل للتعميم على مختلف الأقطار العربية. إن ما يجري الآن في القطر المصري الشقيق، من انقلاب على الشرعية الشعبية، يذكرنا بالماضي السياسي المتردي، في العالم العربي، هذا الماضي الذي صنعه الفاعل العلمانوي في تحالفه مع العسكر، بهدف تعويض الشرعية الشعبية التي يفتقدها، لأنه بدل أن يعترف بمحدودية حضوره الشعبي و يتوجه إلى صياغة المشاريع الاجتماعية التي تخدم الشعب و الدولة، فهو يفضل أقرب الطرق و أسهلها، من خلال تحالف الإيديولوجيا مع البندقية. و هذا، لا يمكنه أن يحقق المصالح العليا للوطن، و في نفس الآن لا يخدم المصالح الفئوية الخاصة للفاعل العلمانوي، على المدى البعيد، لأنه يقدم صورة سيئة جدا عن نفسه و كذلك عن التصور الفكري و السياسي، الذي يحمله و يسوقه بشكل انتهازي يطبعه التزييف و التزوير . إن الخطر الحقيقي، الذي يشكله التحالف العسكرتاري-العلمانوي، يتجاوز الإطاحة بالرئيس المنتخب (محمد مرسي) و يتجاوز كذلك تهميش جماعة الإخوان المسلمين، إنه خطر ماحق يهدد القيم الديمقراطية الوليدة في الثقافة العربية، و يفتح المجال واسعا أما قيم الفكر المتطرف و المنغلق، الذي يشكك في المبادئ السياسية الحديثة، و يعتبرها آلية للسيطرة على الشعب من طرف فئات لا تمثله. و لذلك، فإن البديل المحتمل هو الفوضى الخلاقة، بالمعنى الغربي، و المدمرة في علاقة بالواقع العربي. و لعل ما يجب على الفاعل العلمانوي أن يدركه، لتجاوز زواجه الكاثوليكي مع العسكر، هو أن الفاعل الإسلامي الحركي هو، أولا و أخيرا، ابن البيئة الثقافية و السياسية العربية، و لذلك فمن حقه أن يمارس اختلافه شريطة التزامه بمبادئ الديمقراطية. أما أن نحتكم إلى ضغائن الماضي لتوجيه الحاضر و المستقبل، فإن هذا لن يعود بالنفع على أي فاعل سياسي، بل سيشجع على انتشار التطرف الديني و الفوضى السياسية. *كاتب و باحث أكاديمي