في الوقت الذي انشغل فيه بنكيران بمعركته مع حزب الاستقلال ومع الظاهرة "الشباطية"، وتحولت فيه "الدار" الحكومية إلى ساحة وغى للتصريحات والتصريحات المضادة، تناسى الكثير من المغاربة أن هناك معركة أخرى شبيهة للغاية بتلك التي تقع بين مكونات الأغلبية، إلا أنها تقع بين مكونات أخرى، بعضها يوجد تحت البرلمان، وبعضها الآخر خارجه، ولا علاقة لها بمدة اشتغال الحكومة ما دام عمرها يعود لسنوات طويلة من الصراع.. المعارضة المغربية اختارت منذ زمن أن تنقسم إلى قسمين: قسم يعارض الحكومة بشكل كبير، ونادرا ما يعارض الدولة في أوسع تجلياتها، وقسم ثان اختار أن يعارض النظام والقصر الملكي والدولة المغربية في كل سياساتها. وبين القسمين هناك القليل من أوجه التشابه، والكثير من أوجه الاختلاف، بل إن حجم التلاسن بين الاثنين قد يكون أكبر بين واحدة منهما والأغلبية الحكومية، فهما يشكلان معارضة ضد معارضة، وكل واحدة منهما ترى نفسها الأحق بهذه الصفة، لكل منهما مبرراته واختياراته، ولكل منهما أتباع ومتعاطفون، ولكل منهما قصة من النشأة والتشكل، ربما إنها تجيب عن كثير من الأسئلة المتعلقة بالمصداقية وقوة الخطاب السياسي.. بين تاريخ الاتحاد الاشتراكي وراديكالية النهج الديمقراطي، بين إسلامية العدل والإحسان وعلمانية حزب الأصالة والمعاصرة، ترحل بكم هسبريس في عالم المعارضة المغربية، وعالم سؤال جوهري في معارك السياسية: أي واحدة من المعارضتين تستحق لقب المعارضة في ظل بلد تحكمه ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية مجتمعية؟ المعارضة المجتمعية والبرلمانية..بين الماضي والواقع الطريقة التي تأسس بها حزب الاتحاد الدستوري في بداية الثمانينات على يد المعطي بوعبيد، بقرار من القصر الملكي الذي كان يريد تقوية جبهة الأحزاب الليبرالية لمواجهة الأحزاب اليسارية، وتأسيس حزب الأحرار قبله بسنوات قليلة من طرف أحمد عصمان صهر الحسن الثاني بنفس المعطيات، أكدت تحليلات الكثير من المراقبين بالأصل الإداري للحزبين، لتنخفض شعبية الحزبين معا بشكل واضح في السنوات الأخيرة خاصة مع فضيحة التعويضات المالية لمزوار، وفشل مشروع الثمانية الكبار، وتورط بعض قياديي الاتحاد الدستوري في بعض الفضائح، كما وقع لإدريس الراضي وحسن عارف. أما بالنسبة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فإن عددا من المراقبين يؤكدون أن الحزب تراجعت مصداقيته بشكل كبير، لا سيما أنه خرج جريحا من مؤتمره الأخير الذي انتخب إدريس لشكر، وما تداولته الصحافة من تزوير لَحِق المؤتمر، واستقالة مجموعة من القياديين الاتحاديين من صفوفه، حيث لم يشفع لحزب الوردة عودته إلى صفوف المعارضة منذ دخوله في تجربة التناوب سنة 1998. أما حزب الأصالة والمعاصرة، فيمكن القول إنه أكثر الأحزاب التي تؤرق بنكيران، ليس لمواقفه أو برامجه القوية، ولكن لأن خَلقه أتى لمحاربة الإسلاميين كما صرح بذلك مؤسسه فؤاد عالي الهمة المقرب من القصر، وهو ما جعل بنكيران يُوّجه مدافعه نحوه منذ أن كان في المعارضة وحتى الآن، لدرجة أنه اتهم الأصالة والمعاصرة بالحزب الذي يدخل الناس إلى السجن. في الجانب الآخر، توجد تنظيمات اليسار المُقاطعة للانتخابات: الحزب الاشتراكي الموحد، الطليعة الاشتراكي الديمقراطي، والنهج الديمقراطي، وهي التي تولدت من مدارس يسارية مختلفة: حركة 23 مارس، حركة إلى الأمام، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبعض الهيئات اليسارية الصغيرة، حيث لا زالت هذه الأحزاب وفية لخطها السياسي الذي سطرته منذ سنوات والقاضي بمعارضة الدولة ككل وليس فقط الحكومة. وإن كانت سنة 2007 عرفت مشاركة حزب الطليعة منذ تأسيسه سنة 1983، وكذلك مشاركة الحزب الاشتراكي الموحد بعد تأسيسه بسنتين، فإن الانتخابات الأخيرة عرفت مقاطعة الأحزاب الثلاثة، الشيء الذي عرف تقاربا كبيرا بينهما بعد انتقاد النهج الديمقراطي للاثنين عندما شاركوا سنة 2007. أما جماعة العدل والإحسان، فمنذ تأسيسها سنة 1981، وهي في شد وجذب مع الدولة، ويُحسب للجماعة الإسلامية عدم تخليها عن مبادئها، خاصة التخلص من الحكم الجبري، وإقامة دولة إسلامية تتبنى مشروع الخلافة النبوية نموذجا. ورغم الاعتقال والتضييق، فلا زال تنظيم الراحل عبد السلام ياسين من أقوى التنظيمات السياسية المغربية، حيث شكل المحور الرئيس لحركة 20 فبراير، واستطاعت شبيبته بسط يدها على عدد واسع من الجامعات المغربية. البراهمة: المعارضة البرلمانية ممسوخة ومرتبطة بالمخزن بالنسبة لحزب النهج الديمقراطي، فالانتخابات لا يقاطعها الحزب وحده، بل يقاطعها 80 في المائة من المغاربة، وهو الرقم الذي يضم من لم يسجل اسمه في اللوائح الانتخابية، وكذلك من سجل اسمه واختار عدم الانتخاب، وذلك لأن الحياة السياسية المغربية لا تعبر عن إرادة الشعب المغربي، خاصة أن الدستور، في نظر مصطفى البراهمة، الكاتب العام للحزب ذاته، يعتبر دستورا ممنوحا لا يجسد سيادة الشعب، ولم يغير جوهر الحكم في المغرب، فالحكومة شكلية ولا سلطة حقيقية لها، وانتخاب ووصول أي حزب إلى رئاسة الحكومة، لا يقدم ولا يؤخر شيئا، والمخزن هو الوحيد الحاكم، على حد قول المتحدث. وأضاف البراهمة أن المخزن هو الذي يختار وَضْع من يريد في الأغلبية، ومن يريد في المعارضة، وأن هذه الأخيرة هي معارضة ممسوخة مرتبطة بالمخزن؛ "لو كانت هناك معارضة حقيقية تحت قبة البرلمان، لاندحر النظام المخزني، ولاندحرت معه مجموعة من الأحزاب الأصولية التي رعاها منذ السبعينات في إطار محاربة اليسار، ومنها حزب العدالة والتنمية الذي لم يكن ليتسلم مشعل الحكم". واستطرد البراهمة أن الأحزاب اليمينية؛ بما فيها تلك المتواجدة في المعارضة أي حزب التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الدستوري، والأصالة والمعاصرة، أسسها النظام لخدمة أجنداته، إلا أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يقول البراهمة، كان لديه تاريخ مشرف في النضال من أجل الشعب، وهو التاريخ الذي انتهى وتحول هو الآخر إلى حزب منخرط في عبثية لعبة سياسية متخلفة ومغشوشة، وكل محاولاته للعودة إلى تاريخه القديم، ستبوء بالفشل لأن الشعب فقد فيه ثقته واقتنع أن استقلالية حزب بنبركة لم يعد لها وجود، ومن المستحيل أبدا أن يعود حزب الوردة إلى سابق عهده، وذلك على حد تعبيره. "شروطنا من أجل الدخول إلى الحياة السياسية، هي أولا القضاء على الطابع المخزني للدولة، أن يتم تغيير الدستور حتى يصير نابعا من سيادة الشعب، وأن تكون صلاحيات الحكومة واسعة ومؤثرة، وأن يحصل تداول حقيقي على السلطة بين الأغلبية والمعارضة، أن تكون كذلك ديمقراطية اقتصادية وثقافية وحقوقية وجهوية، آنذاك سنشارك في الحكومة سواء من موقع الأغلبية أو موقع المعارضة حسب ما يختاره الشعب" يؤكد زعيم أكثر الأحزاب اليسارية راديكالية بالمغرب. المهدي بنسعيد: ليست للمعارضة التي تعارضنا أية جرأة سياسية يقول المهدي بنسعيد، البرلماني عن حزب الأصالة والمعاصرة، إن الحكومة المغربية تمتلك صلاحيات واسعة تستقيها من الدستور الأخير، وبالتالي فهم يعارضون حكومة لديها سلطة وليس حكومة شكلية كما يردد المقاطعون للانتخابات، حيث تظهر معارضتهم، أي الأصالة والمعاصرة، في انتقادهم للإيديولوجية المحافظة للحكومة، وفي الوقوف أمام سلبيات القوانين الكبرى التي لها علاقة بالمعيش اليومي للمواطن المغربي كقانون المالية، وصندوق المقاصة، وإصلاح أنظمة التقاعد، متحدثا عن أن ما يهم المغاربة ليس الحروب الكلامية ضد ما يسمى بالمخزن، ولكن ما يهمهم هو تحسين ظروف عيشهم وتحقيق العدالة الاجتماعية، مستطردا أن الوضع بالمغرب كان ليكون أحسن، لو قاد حزب الأصالة والمعاصرة الحكومة، بالنظر إلى برنامجهم المتكامل الذي يبدأ أساسا بتكوين أغلبية حكومية منسجمة في مبادئها ومواقفها. "ماذا فعل هؤلاء للمغرب؟ ماذا قدموا من اقتراحات لتطويره؟ ما هي برامجهم؟" بهذه الأسئلة الثلاث واجه بنسعيد الانتقادات التي تأتي من التنظيمات المعارضة الخارجة عن البرلمان، مستطردا: "الشعب المغربي يحكم من خلال الانتخابات، ولو كانت لديهم جرأة سياسية، فليتقدموا للانتخابات كي يعرفوا حقيقتهم، حقيقة سياساتهم الفاشلة". وانتقد بنسعيد شيوعية بعض هذه التنظيمات، قائلا بأنها تبقى مجرد مبادئ نظرية ولا تستطيع أن تتجسد على أرض الواقع، ومجموعة من الشيوعيين المغاربة السابقين، قاموا بعملية نقد ذاتي وهم الآن داخل أحزاب أخرى كحزب الأصالة والمعاصرة، ولو كانت هذه التنظيمات الشيوعية تشتغل من أجل الصالح العام، يردف بنسعيد، لتحالفت فيما بينها من أجل خلق حزب وحيد بدل أن تنقسم إلى تيارات صغيرة. أما عن جماعة العدل والإحسان، فقد وصفها البرلماني ذاته بالجماعة "المتغربة عن الواقع، والتي تريد العودة بالمغاربة إلى زمن الخلافة، مرتدية بذلك جبة المعارضين للمؤسسة الملكية بدل الالتفات إلى ما يهم به الشعب من قضايا واضحة". رحاب: الاتحاد الاشتراكي اختار المزاوجة بين المعارضة الحكومية والمجتمعية رفضت حنان رحاب أن يزايد أحد على ما قدمه ويقدمه الاتحاد الاشتراكي لهذا الوطن، متحدثة عن أن مطالبة الحزب بالملكية البرلمانية وبفصل حقيقي ومتوازن بين السلط، يؤكد أنه يشتغل على صعيد جميع المؤسسات، وليس فقط داخل المؤسسة الحكومية، مشيرة إلى أن الحزب سجن نفسه في السنوات الأخيرة في حدود الدفاع عن تجربته الحكومية السابقة التي تحمَّل فيها عبء النظام السياسي العام، ليظهر تقريبا بدون موقف في مجموعة من القضايا الأساسية التي يطرحها المجتمع، وهو ما يحاول الحزب تداركه اليوم عندما قرر المزاوجة بين المعارضة البرلمانية والمعارضة المجتمعية. واستطردت رحاب بأن حزب الوردة الذي خَبِرَ تجربة سياسية لعقود من الزمن، قادر على أن يعيد للمعارضة البرلمانية عمقها ونجاعتها، وللعمل التشريعي قيمة مضافة، "فنحن جئنا لحماية هويتنا الاشتراكية الديمقراطية من جهة، واختيار الوضوح في مواجهة الخلط والالتباس والتمييع للعمل السياسي من جهة ثانية، وحزب العدالة والتنمية قد يكون محظوظا إن عرف كيف يستفيد من الخبرة الرقابية لحزبنا". وفي حديثها عن تواجد الاتحاد الاشتراكي مع أحزاب إدارية تأسست بإيعاز من القصر الملكي، قالت رحاب إن هذه الأحزاب صَوّت لها جزء من المواطنين المغاربة، ولها تمثيلية في البرلمان، وبالتالي فقراراتها تبقى سيادية، مشددة على أن تراجع حزب الوردة خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، هو ما جعل المغاربة في نظرها أمام مشروعين: واحد إسلاموي يقوده حزب العدالة والتنمية، وواحد سلطوي لا قدرة له على الاستقلال عن الدولة. وخلافا لهجمات العدل والإحسان والنهج الديمقراطي على الاتحاد الاشتراكي، فقد أشادت رحاب بالاثنين معا، وأكدت أنهما جزء من حركة المجتمع، وأن حزبها يتفق معهما في الكثير من القضايا المتعلقة بمحاربة الفساد والاستبداد، وسبق أن انخرط معهما داخل حركة ال20 من فبراير دفاعا عن الكرامة، وبالأخص جماعة العدل والإحسان، التي رأت فيها بكور تنظيما قويا منظما وبمطالب واضحة رُفعت خلال مظاهرات الحراك السياسي:" طيلة الأشهر العشرة للحركة، كانت تستمد استقرارها وقوتها من انضباط شباب جماعة العدل والإحسان وقدرتهم التنظيمية، واختلافي الشخصي معهم في بعض الجوانب لا يمنع من التعاون معهم في الممارسة الميدانية الموحدة لصالح هذا الوطن" تقول عضو المكتب السياسي لحزب بوعبيد. إحرشان: نرفض الدخول إلى برلمان لا سلطة له "نرفض أن نكون كومبارسا في مسرحية سياسوية على الشعب موزعة أدوارها ومُحَدَدة حركة كل فاعل فيها، وهذه هي حقيقة المشهد السياسي الرسمي" هكذا يتحدث عمر إحرشان عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، مشيرا إلى أنهم يرفضون الدخول إلى برلمان وحكومة لا سلطات لهما، ويرفضون تزكية واقع سياسي يختبئ وراءه من يملك زمام السلطة ويتهرب من المساءلة، ويرفضون التنسيق مع معارضة ضعيفة وشكلية يراد بها تأثيث المشهد أو تنشيط الحياة السياسية الراكدة أو تصفية حسابات انتخابية وسياسوية ضيقة، مستدلا بالعزوف الانتخابي وتدهور السياسات العمومية والرتب المتأخرة للمغرب في عدد من المجالات. ولفت إحرشان إلى أن المعارضة التي تشتغل داخل النسق السياسي الرسمي، سواء منها داخل أو خارج الحكومة، تبقى مشتتة وضعيفة وفاقدة للمصداقية، وفشلت في تقديم حلول إن لم تكن جزءا من المشاكل التي تتخبط فيها البلاد، كما تؤكد على فشل العرض السياسي للمخزن بعد الحراك الشعبي لسنة 2011، أما المعارضة الحقيقية التي توجد في الشارع وخارج أسوار البرلمان، فهي معارضة حقيقية تعارض النظام السياسي في الأسس التي يقوم عليها وليس الحكومة، وهو ما يعرضها للاستهداف والتضييق، مشيرا إلى أن تباهي بعض مكونات المعارضة بتاريخها النضالي لا يعطيها مصداقية ما دام التقييم السياسي لا ينبني على المواقف التاريخية فقط. وحول اتهام بعض المكونات للجماعة بأنها تشتغل بمعارضة رأس الهرم السياسي فقط بعيدا عن مصلحة الشعب، قال إحرشان إن الاختلاف مع رأس الهرم السياسي هو جوهر مصلحة الشعب لأن الجماعة تريد اقتلاع الاستبداد والفساد من جذوره ولا تقتصر على مظاهره، مؤكدا أن لديهم العديد من البدائل، قبل أن يطالب بفتح باب الحرية بالتساوي للجميع، وضرورة خلق حوار وطني مفتوح يفضي إلى ميثاق جامع وتكتل مناهض للفساد والاستبداد، وجمعية وطنية منتخبة لصياغة دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا ومنهجية، ثم انتخابات نزيهة وحرة تفرز برلمانا وحكومة بمسؤوليات كاملة في التشريع والرقابة والتنفيذ وتمثيل الشعب. على سبيل الختم هل ستتواجد يوما كل هذه المكونات المتنافرة تحت سقف معارضة واحدة سواء بالشارع أو بالبرلمان؟ فيما يشبه الاستحالة، فالأحزاب التي تُكوِّن المعارضة البرلمانية حاليا لن تخرج إلى الشارع ما دام البعض منها لم يتواجد فيه أصلا وربما لم يُخْلق له، أما الأحزاب والتنظيمات "المغضوب عليها"، فخوضها للانتخابات رهين بتغير الكثير من المعطيات، لأن الملكية البرلمانية التي يرفعها حزبي الطليعة والاشتراكي الموحد، قد تكون مستقبلا صلة وصل بينهما وبين الدولة المغربية إن أبدت هذه الأخيرة بعض البوادر في الانتقال الفعلي إلى هذا النوع من الحكم. أما جماعة العدل والإحسان وحزب النهج الديمقراطي، فوجودهما داخل التيار الراديكالي المعاكس لتوجهات الدولة، قد يبقى مستمرا، إلا إذا وقع "الطوفان" الذي حذر منه الشيخ الراحل عبد السلام ياسين، أو ثورة الطبقة الكادحة التي تنبأ بها كارل ماركس..