ولكن من أجل ترسيخ دولة الحق والقانون الشجرة التي تخفي الغابة إن طرح موضوع الغش في امتحانات البكالوريا، مناسبة لإعادة طرح موضوع زجر المخالفات في الامتحانات والمباريات وفق منظور حقوقي، يعمل على قمع الغش بطرق قانونية. فالتلميذ(ة) في هذه المرحلة، في حاجة إلى تلقين مبادئ دولة الحق والقانون، والمحاكمة العادلة، وحق الدفاع، وواجب احترام القانون، وهي فرصة ليستوعب أن الديمقراطية بقدر ما هي مجموعة من الحقوق فهي أيضاً مجموعة من الواجبات. فكيف سنربي الأجيال القادمة على دولة الحق والقانون إذا كنا نعاقبهم مباشرة دون أية مسطرة قانونية؟ وكيف يمكن أن نُحبب إليهم دولة الحق والقانون إذا لم يعاينوا في هذه المرحلة المهمة من حياتهم ما تضمنه لهم هذه الدولة من خلال وجود مؤسسات تأديبية غير مرتبطة بمزاج الأشخاص؟ وكيف يمكن أن نربيهم تربية مبنية على المواطنة الإيجابية وهم يشاهدون بأنفسهم كيف أن الدولة لا تستعمل هذه الإمكانيات عند محاربة الغش في الانتخابات والغش في السلع والغش في الأثمان ...؟ وأخيرا كيف نقبل بمبدأ عدم المساواة في قوانيننا من حيث منح المرشح للانتخابات العامة نوعا من الحصانة ونمنعها عن مرشحي البكالوريا؟ لذا، فإنه الاطلاع على المنظومة القانونية والتنظيمية في هذا المجال سيبين الخصاص المهول الذي يلزم تداركه حتى تصبح العقوبة وسيلة للتربية. بعيدا عن الضوضاء فبعيدا عن الضوضاء التي أقيمت بمناسبة امتحانات البكالوريا، والتي لا ينبغي النظر إليها إلا كجزء من نظام الامتحانات والمباريات العمومية، يمكن القول بصفة عامة أن هذا المجال لا زال بعيدا عن مسايرة المبادئ العامة التي تحكم ضبط مخالفات القانون. إن مبدأ فصل السلطات، يقتضي بالضرورة أن تكون الكلمة الفصل في المنازعات حول تأويل أي واقعة، إنما ينبغي أن يتم من قبل السلطة القضائية. فهي وحدها المؤهلة للبت في المنازعات، ولا يمكن لغيرها أن يحل محلها إلا إذا كان ذلك من باب التحكم والتسلط والاستبداد بالرأي، أو من قبل لجنة "شبه قضائية" تتوفر فيها مبادئ العمل المطابق للقانون والتي تكون قراراتها مع ذلك قابلة للطعن أمام القضاء. فلا يُمكن أن نتصور أنه من حق أي موظف عمومي أن يتهم شخصا ما بتهمة معينة ويطبق عليه العقوبة مباشرة دون السماح للمعني بالإدلاء بوجهة نظره في التهمة الموجهة إليه. تراكم التجارب لقد لاحظت تطورا مهما في هذا الصدد على صعيد الممارسة الجامعية. فبعد أن كان المكلف بالحراسة يقصي الطالب أو الطالبة المضبوط في حالة غش، ويسحب منه أوراق الامتحان ويطرده من القاعة، ثم يقدم لاحقا تقريرا يتم عرضه على المجلس التأديبي الذي يصدر في حقه العقوبات اللازمة، فإن الممارسة بينت أن الأمر يتعلق بحيف كبير في حق الطالب/الطالبة المعني. فلم يكن يسمح له بالاستمرار في اجتياز المواد اللاحقة، ولم يكن يسمح له بالاطلاع على التقارير المرفوعة ضده، ولم يكن يسمح له بحضور جلسات المجلس التأديبي، ولا تحضير الدفاع عن نفسه. وهكذا، تكرس عرف سلبي، لا يضمن لمن تم ضبطه في حالة "غش" حتى حقه في الدفاع عن نفسه، في الوقت الذي يسمح لمرتكب جريمة قتل مثلا بهذه الإمكانية. ومع توالي الممارسة، تحول هذا التقليد السلبي تدريجيا إلى مسطرة قانونية، تراعي حق المعني بالأمر بالدفاع عن نفسه من جهة، ومعاقبته عن المخالفة التي ارتكبها فعلا حين ضبط في حالة غش، وليس عن حالات مفترضة في باقي المواد التي لم يسمح له باجتيازها وكأن الجهة التي توقع العقوبة تحكم على الوقائع (وهذا من حقها) ولكن تحكم أيضاً على النوايا مستقبلية (وهذا ليس من حقها). وهكذا أصبح مجلس المؤسسة الذي ينعقد في شكل مجلس تأديبي يسمح للطالب/الطالبة بالاطلاع على ملفه وحضور الجلسة بل وإحضار محام للدفاع عنه. الشيء بالشيء يُذكر مناسبة هذا الكلام، هو الطريقة التي أصبح من خلالها المكلفون بالحراسة يقومون بمهمة الشرطة الإدارية في محاولة منهم لتفادي وقوع المخالفات، ومهمة الضبطة القضائية من خلال تحرير المحاضر، والأكثر من هذا الحلول محل القضاء من خلال إصدار الأحكام وتنفيذها حالا!! إن هذه الوضعية، تستلزم على الأقل فتح نقاش حقوقي في الموضوع. أليس كل متهم بريء حتى تثبت إدانته؟ أليس من حق المعني بالأمر الدفاع عن نفسه؟ بل إني أتساءل لماذا توجد عقوبات في القانون مثل إلغاء امتحان المادة أو إلغاء الامتحان بأكمله؟ إن الإلغاء هنا يبين أن الأمر يتعلق (حسب الحالة) بإلغاء الامتحان بأكمله، مما يفيد أن المعني قد يتم ضبطه في حالة غش في مادة معينة، لكنه يستمر في اجتياز الامتحان إلى نهايته، ثم ينتظر قرار الجهة المختصة بقبول أو عدم قبول النقطة التي حصل عليها في المادة المعنية أو في الامتحان ككل. إن الممارسة السليمة تقتضي أن يتم التعامل مع الموضوع بنوع من التريث. ففي التجارب المقارنة لا يسمح للمعني بالأمر بالاستمرار في اجتياز الامتحان إلا إذا تعلق الأمر بحلول شخص آخر محل المرشح المعني. أما في غير ذلك، فهناك مساطر ينبغي احترامها. التنبيه إلى أمور ذات طبيعة قانونية أولا: إن مجلس الحكومة المنعقد بتاريخ 6 يونيو 2013 قد صادق على مشروع قانون رقم 13-02 حول زجر الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية، ولذلك، فإن هذا النص ليس إلا مجرد مشروع ينقصه مصادقة مجلس البرلمان بغرفتيه، وربما تدخل المجلس الدستوري إذا تم عرض النص عليه للنظر في مدى مطابقته للدستور، ثم إصدار الأمر بالتنفيذ من قبل الملك، وأخيرا النشر في الجريدة الرسمية. ثانيا: بناءا على ما سبق، فإن النصوص السابقة لا زالت سارية المفعول، ونخص بالذكر الظهير الشريف رقم 1.58.060 بشأن زجر الخداع في الامتحانات والمباريات العمومية، الصادر في 7 ذي الحجة 1377 موافق 25 يونيو 1958. إن الفصل الرابع من هذا النص، يشير إلى أن "العقوبات التأديبية التي تطبق على المخالفات المنصوص عليها في ظهيرنا الشريف هذا تعين بموجب قرار وزيري يصدر باقتراح رؤساء المصالح المنظمة فيها الامتحانات. كما يجرى طبق نفس الكيفيات المذكورة وبموجب قرار وزيري بطلان ما يحتمل من نجاح في المباراة أو الامتحان المرتكب فيه الخداع". والملاحظ هنا هو أن القرارات الوزارية المعنية لم تحدث أي مجلس تأديبي بالنسبة لامتحانات البكالوريا مثلا. لقد اكتفى قرار وزير التربية الوطنية رقم 2111.12 صادر في 9 رجب 1433 (31 ماي 2012) في شأن تعزيز آليات ضبط كيفيات إجراء امتحانات نيل شهادة البكالوريا، بالتنصيص في المادة الثالثة على أن "يتولى رؤساء مراكز الامتحانات وكذا المكلفون بالحراسة، تنفيذ مقتضيات هذا القرار كل في مجال اختصاصاته، وذلك من خلال تحرير محضر ضبط المخالفة المنصوص عليها في المادة الأولى أعلاه، يتضمن هوية المترشحة أو المترشح ورقم الامتحان الوطني ورقم الهاتف أو نوع الحاسوب المضبوط أو اللوحة الإلكترونية وكذا الرقم التسلسلي لهذه الأجهزة (n° de série )". أما في مجال العقوبات فقد اكتفت المادة الثانية بالإحالة بخصوص ضبط المترشح أو المترشحة الذي ضبط وبحوزته "هاتف نقال أو حاسوب محمول أو لوحة إلكترونية وكل ما يرتبط بها من معدات، أو أية وسيلة أخرى من الوسائل التي يمكن استعمالها من أجل الخداع أو الغش داخل فضاء مركز الامتحان أو قاعات إجراء الاختبارات" إلى أحكام الظهير الشريف رقم 1.58.060 الصادر في 7 ذي الحجة 1377 (25 يونيو 1958) المشار إليه أعلاه. والرجوع لهذا الظهير نجده يتحدث فقط عن العقوبات الجنائية المتمثلة في "سجن تتراوح مدته بين شهر وثلاث سنوات وبغرامة يتراوح قدرها بين 12.000 و1.200.000 فرنك أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط". وطبع فإن عقوبات من هذا النوع لا يمكن أن ينطق بها إلا القضاء بناء على دعوى عمومية. ثالثا: لا يمكن الاستمرار في إنزال العقوبات بشكل غير قانوني، وإنما المفروض أن تكون هناك لجنة تأديبية، خاصة على صعيد امتحانات البكالوريا. فعلا هناك صعوبات تختلف باختلاف السياق الذي تمت فيه عملية الغش والوسيلة المستعملة، لكن مع ذلك فإن القاعدة العامة هي أن دور المكلف بالحراسة يتمثل في إيقاف عملية الغش وتحرير تقرير في الموضوع، كما أن القاعدة العامة، تفترض أن يتم التعامل مع هذا التقرير لاحقا من خلال أجهزة تأديبية تضمن حق الدفاع. رابعا: من الضروري ضبط المصطلحات المستعملة نظرا لخطورتها. فأنا لا أتصور مثلا أن يحرر المكلفون بالحراسة "محضرا" وإنما فقط "تقريرا". فالمحاضر ينجزها ضباط الشرطة القضائية في الحالة العادية المرتبطة بالبحث التمهيدي المنصوص عليها في الفصل 23 المسطرة الجنائية وفي حالة التلبس وفق الشكليات المنصوص عليها في الفصول 59 إلى 79، أو يحررها أعوان الشرطة القضائية أو الموظفون والأعوان المنصوص عليهم في قوانين خاصة. مثال: مخالفات لقانون الصيد والقنص. مخالفات لقانون السير والجولان. مخالفات متعلقة بالغش في البضائع، أو يحررها موظفون وأعوان مكلفون ببعض مهام الشرطة القضائية، مثل مهندسي أو مأموري المياه والغابات (ف 26 من المسطرة الجنائية). ويمكن القول هنا أن التقرير وسيلة داخلية للإخبار في حين أن المحضر وسيلة إثبات رسمية. وقد أوجب المشرع في المحضر احترام شروط متعددة لكي يأتي سليما وخصه بالحجية بحسب الحالات وهذا غير وارد بالنسبة للتقرير. فكيف سيتمكن المشرف على الحراسة من تحرير محضر في شكل قانوني في الوقت الذي لم يتلق أي تكوين حول ذلك؟ خامسا: ينبغي استحضار التأثير الذي يترتب عن عرض المعنيين بالأمر أمام مجلس تأديبي، ونشر القرارات المرتبطة بهم، بل حتى منحهم إمكانية الطعن أمام لجان خاصة أو أمام القضاء، دون أن يسمح لهم بالاطلاع على النتيجة أو التسجيل في مؤسسة للدراسات العليا. ويتعلق الأمر بإجراءات أكثر زجرا وتأثيرا على باقي المرشحين والمرشحات. إن هذا التأثير أشد من مجرد "الطرد من القاعة" لأنه مستمر في الزمان، ويجعل المعني بالأمر في حالة انتظار، ويجعله عبرة مستمرة للآخرين، خاصة وأنه حتى ولو سمح له باجتياز المواد اللاحقة، فإنه لا يتم نشر نتيجته ولا السماح له بالتسجيل في أي مؤسسة عليا حتى يتم استكمال المسطرة القانونية. خاتمة إن محاربة الغش والفساد تحتاج إلى منظومة قانونية متكاملة، ومن الواجب في هذا الصدد الاطلاع على التجارب المقارنة قصد الاستفادة منها، والتي تتمحور كلها حول ضرورة الضرب بيد من حديد على المتلاعبين بالقانون لكن وفق مساطر قانونية مضبوطة، تضمن تطبيق القانون من جهة ولكن وايضا محاربةالتجاوزات المبنية على أغراض شحصية من قبيل "انتقام" مكلف بالحراسة من تلميذة أو طالبة لم تجاريه في تحرشاته. * أستاذ باحث بكلية الحقوق بوجدة