عارض الدكتور مصطفى بوهندي، أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الدارالبيضاء، ما جاء في مقال نشره أخيرا الدكتور أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، حول ظاهرة ضعف اعتماد المرجعية الإسلامية عند من سماهم "أصحاب الخطاب الإسلامي"، في إشارة إلى وزراء "العدالة والتنمية" وبرلمانييه وغيرهم. وذهب بوهندي إلى أن الناس يحتاجون ما ينفعهم في معيشتهم اليومية وفق ما تعاقدوا عليه مع المنتخبين من رجال السياسة، وإن كانوا من الإسلاميين، وليس إلى البحث في المرجعيات والاستدلال على المقولات والتبريرات بالأحاديث والقواعد والآيات". وفيما يلي مقال الدكتور مصطفى بوهندي كما توصلت به هسبريس: أردت أن أشارك في الحوار الذي أثاره الدكتور أحمد الريسوني، وهو يوجه نصائحه لأصحاب الخطاب الإسلامي ممن أصبحوا في موقع القرار السياسي. ونحن إذ نكبر في الأستاذ جهره بقول ما يراه صوابا وإن لم يعجب الكثيرين، نود أن نبدي بعض الملاحظات فيما جاء في نصائحه. يمكن تلخيص مقالة الأستاذ في "الدعوة إلى زيادة اعتماد المرجعية الإسلامية في الخطاب السياسي لمسؤولي التيار الإسلامي، وتصريحهم بمستنداتها الشرعية والعلمية دون خوف أو حرج، سواء كانت من الكتاب والسنة أو أقوال الأئمة والعلماء". للدكتور أحمد الريسوني الحق في أن يدعو إلى الحفاظ على المرجعية الإسلامية، والتنبيه من تراجعها وضعفها وربما تنحيها؛ باعتباره زعيم جماعة دينية، وناطقا باسم مؤسسة علمية دولية، وغيرها من المبررات الموضوعية الأخرى. وله الحق في أن يقوم هو نفسه، باعتماد هذه المرجعية والتصريح بمصادره فيها دون أي مشاكل تذكر، للاعتبارات السابق ذكرها كذلك. لكن ما يطلبه من رجال السياسة، وإن كانوا من الإسلاميين، ربما لا يصلح لهم، إلا بمقدار. وينبغي أن يتراجع هذا المقدار، ويضعف شيئا فشيئا، إلى حد التلاشي والزوال. إن ما تعاقد عليه الناس مع هؤلاء المنتخبين من رجال السياسة، وإن كانوا من الإسلاميين، هو تدبير وإصلاح أحوال بلادهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية وغيرها؛ وتنفيذ مشاريع متعددة محددة، تحقق للناس ما ينفعهم. وليس البحث في المرجعيات والاستدلال على المقولات والتبريرات بالأحاديث والقواعد والآيات. بل الصحيح أن يترك أصحابنا الكلام والجدل والخطب ويتوجهوا إلى العمل بقوة وحكمة وصمت وإخلاص، فالناس يعرفونهم ويعرفون خطابهم ويعرفون مرجعيتهم، ولا حاجة إلى تذكير الناس بهذه المرجعية، أو تنفيرهم منها، بزيادة اعتمادها في خطابهم، في كل آن وحين. إن أصحابنا في مرحلة اختبار لمدى صدق مقولاتهم وصدق مرجعيتهم، التي خاضوا بها الانتخابات، وعلى أساسها أعطاهم الناس أصواتهم؛ والأمور بمقاصدها، كما لا يخفى عليك، يا شيخ المقاصد. إن ما ينتظره الناس هو نجاح تجربة هذه الحكومة في تغيير أوضاع البلاد والعباد، والسير بالشعب نحو الأفضل؛ فإذا تحقق ذلك فقد أدى رجال السياسة ما عليهم، ويكون ذلك أدعى للثقة بهم وبمرجعيتهم؛ وإذا لم يتحقق ذلك، فلا تنفع الخطب المنمقة والاستشهادات الدينية المختلفة، أيا كانت مرجعياتها. إن المفهوم الذي قدمه الأستاذ الكريم للمرجعية الإسلامية، ربما سنختلف فيه؛ فالمرجعية لديه هي خطاب ديني يعتمد الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء السلف؛ وهو مفهوم يحصر الاعتماد والتفسير والاجتهاد في منظومة دينية سلفية مختارة، تنتمي إلى عصور وثقافات ومنظومات فكرية أخرى، لا تستطيع بالشكل الذي يقدمه الشيخ، ومعه كل السلفيات المختلفة، أن تستجيب وتتوافق مع الآفاق الجديدة التي وصل إليها الإنسان، حيث الحرية والإبداع والجمال، والتعددية والمشاركة والقيم الإنسانية الكونية، وتداول السلطة وتقاسم الثروة. ولا تستطيع بأي حال أن تواكبها، إلا في آخر المطاف، وبعد فوات الأوان، وبكثير من التحايل واستجابة المرغم. وفي ذلك أمثلة كثيرة، بدءا من الشاي والقهوة والمطبعة وكل وسائل التواصل والاتصال، وإلى التأمين والأبناك والمشاركة في الانتخابات والدخول إلى البرلمان والحكومة وما إليها؛ ولعل رغبة بعض السلفيين الجديدة في المشاركة في الأحزاب والانتخابات واحدة من الأمثلة على ذلك، بعد أن كان كل شيء من ذلك حراما إلى وقت قريب. إننا نحتاج إلى مراجعة المرجعية ذاتها، وإعادة تحيينها، فقد مضى عليها زمن من التسلف أوصلنا إلى ما نحن فيه من تخلف؛ حتى لا نضطر في كل مرة أن نعدلها مرغمين لتواكب ما وصل إليه الناس ؛ بل إن المطلوب أن نكون سباقين إلى الأفاق الجديدة، وأن تكون مرجعيتنا قادرة على استيعاب هذا التحول الذي يحدث لنا. بل علينا أن نستشرف المستقبل، وتكون لنا اقتراحات استباقية نقدمها للإنسانية، كما هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما أتوا إلى الناس بالمرجعية ليحولوهم من الحاضر إلى المستقبل، ومن الظلمة إلى النور، وليس العكس، يرجعون بهم من الحاضر إلى الماضي. ومن النور إلى الظلمات. إن على المنتخبين أن يقوموا بدورهم في مراكز القرار، وينفذوا ما وعدوا به ناخبيهم، من غير الدخول في مزايدات أدلة خطابات المرجعية؛ وعلى العلماء من رجال الدين ورجال العلوم الأخرى، حسب الاختصاصات، أمثال الدكتور الريسوني أن يقترحوا على الناس حلولا لمشاكل قائمة باسم المرجعية الإسلامية نفسها، ومنها موضوع الأبناك الحلال والحرام. وليس مقنعا أن نقول للناس إن تعاملات الأبناك التقليدية حرام، لأن فيها الربا، وهو الربا الوارد في القرآن الكريم: "وأحل الله البيع وحرم الربا". ربما يكون للشيخ الفاضل مورد رزق محترم أغناه عن الاقتراض والذهاب إلى البنوك، لكن هذا الأمر ليس متاحا لجميع الناس، وليس كثير منهم مستعدا أن يقضي عمره في آداء كراء شهري للسكن لا يستفيد منه أبدا، لا هو ولا أولاده؛ وربما يكون صاحب البيت يؤدي بما يأخذه من هذا المسكين، الأقساط الشهرية التي اقترضها من البنك واشترى بها البيت ذاته. ولن ينتظر هؤلاء حتى تحل الأبناك الإسلامية المشكلة عندما يُسمح لها بالاستثمار في هذا البلد. أعتقد أن ما تقوم به الدولة من دعم لموضوع السكن الاقتصادي وغيره، يخفف على الناس كثيرا من أعباء قروض الأبناك، بدءا من تحديد التسعيرات، وانتهاء بالتسهيلات التي أصبحت تقدم لكثير من المواطنين مع التأمين على الوفاة وما إلى ذلك. ينبغي أن يعاد النظر إلى هذه المعطيات الواقعية لإفهام الناس، أن موضوع الظلم الذي بسببه حرمت الربا، لا يوجد في كثير من القروض البنكية، على الأقل المدعومة منها من طرف الدولة. وهذا جزء من التخفيف الضروري على الناس، وعدم دفعهم إلى العيش في ضيق وشقاء وحرج بسبب مفاهيم دينية مغلوطة، لم يصححها الفقهاء، الذي يجتهدون في التحريم أكثر من اجتهادهم في السماح والإباحة. إذا عدنا إلى مفهوم الربا، وإذا بقينا في مسألة القيمة، وأن الربا هو الفارق بين القيمة السابقة والقيمة اللاحقة، وعلمنا أن سبب التحريم يلخصه قوله تعالى: "فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون". وإذا عدنا إلى رؤوس الأموال، فإنها بالتأكيد هي القيم الحقيقية لهذه الأموال؛ والمال معناه في اللغة هو ما يملكه الإنسان من أنعام في الأصل، وذهب وفضة ومتاع. والنقود التي من الذهب والفضة، كانت تحمل هذه القيم، ولذلك اعتبرت مالا؛ لكن الصكوك المختلفة إنما هي بدائل للأموال، وقيمتها الحقيقية هو ما يضمنها من ذهب وفضة ومتاع. عندما حدثنا القرآن الكريم عن رؤوس الأموال كان يحدثنا عن القيم الحقيقية؛ لكن الأحوال تغيرت كثيرا، وبسبب خوف الناس على أموالهم الحقيقية من الذهب والفضة والأنعام والمتاع، استعملوا صكوكا باعتبارها بدائل للأموال، خصوصا بالنسبة للتجار الذين يسافرون ويتعرضون للسرقة؛ إلى أن ظهرت الأوراق البنكية باعتبارها صكوكا تحمل قيما محددة كما تحملها النقود الذهبية والفضية، وتكفلت بها وبضمانتها المؤسسات والدول، وجعلت لها ما يوازيها من الذهب، ثم من الثروات المختلفة. الأوراق البنكية تختلف قيمها من دولة لأخرى، بسبب قوة اقتصاد هذه الدول وضعفها ويدخل في هذا الأمر عوامل متعددة منها الاستقرار السياسي والنفوذ الإقليمي والدولي والموارد الطبيعية وغيرها؛ ولذلك هناك عملات قوية وأخرى ضعيفة، وهناك عملات تتقوى وأخرى تعرف ضعفا أو عجزا أو تضخما أو ما إلى ذلك. وفي نهاية المطاف فلابد من المقارنة والحساب والتقدير العلمي لكل هذه الأشياء، لمعرفة النقص والزيادة والعدل والظلم؛ والميزان في كل هذه المقارنات إنما هي القيم الحقيقية ذاتها؛ فلو اعتبرنا أن كيلو غرام واحد من القمح قيمته خمسة دراهم، في هذا الوقت، وأقرضتك إياه، فإن المطلوب بعد شهر لو أصبح بست دراهم، أن ترد لي ستة دراهم كاملة، إذا أردت أن لا تظلمني، وإلا فإن كنت لا أستطيع أن آخذ منك حقي كاملا فسأكون مظلوما. هذا مجرد تمثيل للفرق بين القيمة الحقيقية للمال وقيمة النقود التي تختلف من بلد إلى آخر ومن زمان إلى آخر، وينبغي مراعاة هذا الاختلاف. نفس الأمر نقوله على قرض السكن، فإنك عندما تتسلم بيتا بثمن معين، وترده بالتقسيط على مدى سنوات عديدة، وبفائدة مدعومة من الدولة، فإن القيمة الحقيقية للملك لم تكن مظلوما فيها أبدا، وإنما ستكون أنت هو الرابح الأكبر؛ وأنك لو انتظرت حتى تجمع هذه الأموال لما استطعت أن تشتري ولا غرفة واحدة بذلك الثمن عندما تجمعها؛ ومن ثم فلا مجال للحديث عن الربا والظلم. نحتاج إلى فقه جديد بعيد عن السلفية وعن مرجعية المحفوظات، وعن سلطة المرجعيات، يمتاز بالتفكير والفهم، وفقه الواقع وتحقيق المصلحة، وإزالة الضرر ورفع الحرج والتخفيف على الناس، "ما جعل عليكم في الدين من حرج". يقوم به متخصصون من مشارب مختلفة، بعضهم عليم بالشرع وبعضهم عليم بالواقع وبالمسألة المراد مدارستها؛ وكل ما سيقوم هؤلاء العلماء به، لن يكون فتوى شرعية ملزمة، وإنما سيكون اجتهادا وتفكيرا في الدين والدنيا، واقتراحا، إذا استحسنه الناس فليعملوا به، وإذا ظهر لهم أفضل منه أو لم يستحسنوه أو لم يرغبوا فيه فليبحثوا لهم عن اقتراحات أخرى تكون أنسب لهم وأكثر إقناعا. نفس الأمر نقوله عن أمور كثيرة تحتاج إلى بدائل صحيحة وحقيقية، ويحتاج إليها الناس، ومنها المهرجانات والفنون والثقافة وغيرها. وأما رجال السياسة فليقوموا بما عاقدهم الناس عليه، ولا يلتفتون إلى خطابات المرجعيات.