يطفو على سطح الخطاب في الآونة الأخيرة صنف من الكتابات لمثقفين جعلوا دَيْدَنَهم تلميع صورة المؤسسات التدبيرية في البلاد. وهي ظاهرة ثقافية غريبة ينحرف فيها المثقف عن دوره الطبيعي في المجتمع باعتباره مواطنا ذا وعي نقدي يرصد به الاختلالات وينبه إليها دَرْءً للمخاطر التي تنشأ عن استمرارها وتراكمها على مصداقية تلك المؤسسات لدى المواطن. ومعلوم أن هذه الاختلالات والانزلاقات والانحرافات لا تخلو – ولا يمكن أن تخلو – منها المؤسسات التدبيرية في أي بلد ولو حرصتْ (فكيف بها حين لا تحرص أصلا؟). عقيدة هؤلاء أنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن. ويمكن تقسيم أرباب تلك الكتابات إلى فريقين: فريق يتكون من يساريين سابقين خَبِرَ بعضُهم مَسرّات المعتَقَلات والسجون في الماضي؛ ثم لمّا تهاوت مرجعياتهم الفلسفية والأيديولوجية وانهارت الحصون الدولتية والحزبية التي كانت تؤوي تلك المرجعيات وتذود عنها، التفتوا إلى أنفسهم باحثين عن مواقع لهم في الوضع القائم. وإذا كانت الواقعية تقتضي مثل هذا التكيف، فإن ما ليس مفهوما هو الانتقال المتحمس من النقيض إلى النقيض: إذ تحول خطابهم من وصف الجحيم الى وصف النعيم! (وليس يَبْعُدُ عن موقف هؤلاء اليساريين السابقين موقفُ بعض الإسلاميين المتطرفين السابقين، الذين إذا كان يُحْسَبُ لِآحاد منهم جديةُ مسعاهم في مراجعة معتقداتهم والانخراط النقدي في الحوار المواطن، فإن كثيرا منهم لا يُعْتَدُّ بصخبهم "المُراجَعاتي" بسبب هشاشتهم الفكرية وقلة زادهم المعرفي...). وأما الفريق الآخر من مُلَمّعي صورة الوضع القائم عموما والمؤسساتِ التدبيرية على الخصوص فيتكون من نسخة محلية من هذه التقليعة الجديدة القديمة، التي أخذت في الانتشار في عدد من دول العالم مع مطلع الألفية الثالثة (روسيا بوتين، برازيل بولصونارو، بعض دول أوروبا الشرقية ما بعد الشيوعية، تركيا أردوغان، مصر الجنرال السيسي...): يتعلق الأمر بمثقفين وسياسيين يحدوهم الحنين إلى نمط سلطوي في الحكم والتدبير؛ حكم يتوجس من النقد والاختلاف، ويعتبرهما خروجا عن الإجماع وتبخيسا للمؤسسات وإضعافا لثقة المواطنين فيها... وينظر هؤلاء إلى كل موقف نقدي صادر من الداخل أو الخارج بعين الحيطة والحذر؛ فيسارعون إلى تصنيفه في خانة معاداة الوطن والتآمر عليه. وهم في ذلك يُصْدرون عن مفهوم للوطنية لا مكان للمواطَنَة فيه؛ مفهوم يكون المواطن فيه مفعولا به لا فاعلا، والمجتمع كتلةً سلبيةً غير ممفصلة، وليس قوةً ديناميةً متحركة، محركُها النقدُ والخلافُ الذي لا يفسد للوطنية ولا المواطنة قضية كما قيل، وإنما يقوي مناعتهما بما يضخان في جسم المؤسسات المسخَّرة لخدمتهما من دماء جديدة يحول دَفْقُها المتجددُ دون التخثر والركود، فالسكتة القلبية. ويلتقي الفريقان المذكوران في إنتاج خطاب يتكون من شقين: شق يُنَصِّبان به أنفسَهم ناطقين شبهَ رسميينَ باسم المؤسسات، ناسين أو متناسين في غمرة حماسهم "الوطني" المصطنع أن لتلك المؤسسات أجهزتَها التواصليةَ الرسمية المنتجةَ للخطاب الذي تريد أن تُسمِعه المواطنين ولا تحتاج إلى وساطتهم (المجانية؟). وشِقٌّ يوجهون فيه سهامَ التشكيك والتفنيد والتخوين إلى كل من لا يشاركهم تقييمهم الإيجابي اللامشروط ويتوخى الدفعَ بالمؤسسات التدبيرية نحو مزيد من ترشيد الممارسات في ميادين تَدخِّلها. وأمام تراجع، بل واختفاء دور الأحزاب السياسية عموما ودور "أحزاب المعارضة" على الخصوص، فإن تلك السهام تستهدف ناشطي ما صار يُعرف ب"المجتمع المدني": أفرادا كانوا أم جمعياتٍ أهليةً أو دُولية غير حكومية. وهكذا، فبينما تعتبر تحركات المجتمع المدني وبياناتُه وتقاريرُه صفاراتِ إنذار تحملها أنظمة وحكومات ومؤسسات الدول الديموقراطية محمل الجد، بما هي دعوة إلى معالجة اختلالات أو سَنِّ تدابير أو تدارك نقائص أو وضع حد لتجاوزات... فإن المثقف "النكافة" لا يرى فيها إلا عدميةً وسوداويةً، في أحسن الأحوال، أو تبخيسا وتآمرا وخيانة واستقواء بالأجنبي، في أسوئها. إن المنظمات غير الحكومية من قبيل "منظمة العفو الدولية" و"مراسلون بلا حدود"، و"السلام الأخضر" و"ترانسبارنسي" وغيرها تصدر تقارير دورية عن كل دول العالم، بما فيها أرقى الديمقراطيات، فلا تجد هذه الأخيرة، وهي على ما هي عليه من حسن السلوك المؤسساتي، غضاضة في الاعتراف بما تتضمنه تلك التقارير من ملاحظات مع التعهد بأخذها بعين الاعتبار؛ كل ذلك بدون حساسية "وطنية" ولا تشنج "سيادي"، ما دامت ملاحظات موضوعية يتوخى بها أصحابها مساعدة الحكومات والمؤسسات على تدارك أخطائها وتجويد أدائها.