تمر الجزائر في الوقت الراهن بمرحلة عصيبة ، هي بمثابة مراجعة للذات ، أو لإعادة الحسابات الإستراتيجية للدولة ، في انتظار ما قد تفرزه أيام ما بعد " خروج بوتفليقة " من مشفاه بباريس ، بغض النظر عن طبيعة خروجه حيا كان أو ميتا ، أو بينهما ، و إن كانت تقارير صدرت من مستشفى باريس تفيد بأن الرجل المريض يمر بوفاة سريرية ، وهو ما سارعت وسائل إعلام الجزائر الرسمية إلى إنكار " حقيقة وضع الرئيس الضائعة " في انتظار التفكير في حلول عاجلة لتدبير مرحلة ما بعد بوتفليقة الشائكة ، ولا سيما إذا ما استدعى الأمر التفكير في إيجاد بديل مكان رجل من طينة بوتفليقة ، الذي توفرت فيه شروط شبه متكاملة لرغبات الجيش ، ولعل أبرز هاته الشروط ، أنه يعد من الرعيل الأول لما بعد الاستقلال ، بما يعنيه من نزعة وطنية متناغمة مع أهداف جنرالات الجزائر ، الذين عرفوا كيف يمسكوا زمام قيادة البلد بقبضة من حديد ، طوال هاته الفترة الممتدة لأزيد من أربعين سنة ؛ و إلى هنا فإن بوتفليقة يعد أيضا ذلك الرجل الذي توفرت فيه الكاريزما المركبة من الشخصية المطواعة لأجندات الجيش من جهة ، و كذا الشخصية الصارمة التي تعرف جيدا القيام بدور رجل التوازنات و التدبير الجيد للخلافات ، و إن كان في ذلك من شاهد ، فهو هنا تلك المصالحة التي عقدها الرجل مع الإسلاميين إبان تقلده سدة الحكم ، و التي كان من أبرز تجلياتها ، إخماد نار الفتنة السياسية ، التي كادت تجر الجزائر إلى أخطار ، لا يمكن إدراك عواقبها الوخيمة على البلد .. ، لكن ما يهم الجيش أكثر – وهنا يبرز الإشكال – هو تلك الصفقات الكبرى التي تبرمها الجزائر مع كل من الصين و روسيا و الولاياتالمتحدة ، و المتعلقة بعقود شراء الأسلحة ، والتي تعود على الجنرالات بعمولات ضخمة ، أضف إلى ذلك ، صفقات بيع الغاز الجزائري الثمين ، و الذي يعد من أجود الأنواع على مستوى العالم برمته .و لكي يبدو الجيش مُقنِعا للرأي العام الجزائري ، فيما يتعلق بجدوى هاته الصفقات ، ولا سيما بالأسلحة ، أَوجَد صراعا مع المغرب ، منازعا إياه في وحدته الترابية على أقاليمه الجنوبية . و لو رجعنا القهقرى إلى التاريخ ، لوجدنا أن العلاقات المغربية الجزائرية قد اضطربت منذ استقلال الجزائر ، وذلك بسبب ترسيم الحدود بين البلدين .فكما هو معلوم ، فإن الجزائر كانت تُعتبَر زمن الإحتلال الفرنسي مقاطعة فرنسية بالنسبة إلى فرنسا ، التي كانت تسعى إلى ضم مناطق من شرق الجزائر و غربها ، أي على حدودها مع كل من تونس و المغرب ، معتبرة ذلك جزءا من ترابها ، لذلك أرجأ المغرب الحديث عن تسوية ملف الحدود ، رافضا التسوية مع باريس ، مراعاة لواجب الأخوة مع جارته الجزائر إلى ما بعد الإستقلال ، لكن عند استقلال الجزائر ، تلكأت الأخيرة عن مفاوضات الحدود ، ورفضت ترسيمها كما كانت من قبل مع جارها المغرب ، لتتطور إلى حرب نشبت بين البلدين ، عُرِفت بحرب الرمال ، التي اخترق فيها الجندي المغربي الحدود الجزائرية ، و منذئذ تنامى إحساس بضرورة رد الدَّين ، و لو كان ذلك بطرق غير حربية و لا سياسية ، ولو كلف الملايير من الدولارات . لذلك لا يمكن الحديث عن انفراج حقيقي في العلاقات بين المغرب و الجزائر إلا بمصالحة مع الماضي ، و مصارحة مع الحاضر ، و استشراف للمستقبل بين الدولتين الجارتين . * سكرتير عام للتحرير بجريدة أقلام الغد