لم يكن يمثل الربيع العربي أو ربيع الديمقراطية العربية بالنسبة للمتفائلين في الشأن السياسي للشعوب العربية مجرد حدث عابر من أحداث التاريخ. بل شكل هذا الحدث المخالف للاعتقاد السائد، المترسخ في الأذهان المعتبر للشعوب العربية بأنها مغلوبة على أمرها ، مُستسلمة لقدرها، لأنها لا تمتلك رؤى مستقبلية ناجعة للخروج من واقع التخلف الذي ترزح تحته، بل أكثر من ذلك فإنها تعيش على الماضي متشبثة بإنجازات الأجداد. بينما هي تعيش واقعا مريرا. –قلنا- شكل الربيع العربي حدثا بارزا من الأحداث العظيمة التي شهدها التاريخ الإنساني ككل. على غرار الأحداث التي يلتجئ إليها المؤرخون للتفريق بين الحقب المتناقضة في التاريخ. فالثورة الفرنسية ( 1789-1799) ، مثلا ، فرقت بين عصرين متناقضين : الأول شهد نظاما دكتاتوريا كان الملك فيه يسوق الناس وفق إرادته كالقطيع تحت ذريعة الحق الإلهي الممنوح له من طرف الكنيسة في وقت كانت فيه هي المدبر الوحيد للشؤون الروحية في أوربا القرون الوسطى. والثاني نظام جمهوري تقاسم فيه الفرنسيون مسؤولية تدبير الشأن العام لما اكتشفوا أهمية الجماهير في صناعة التاريخ. فكان لهم ما أرادوا لكن بعد تضحيات جسام. والثورة الأمريكية (1763-1783) أيضا فرقت بين عصرين متناقضين كل التناقض هما عصر التشرذم والتطاحن الداخلي (حروب الشمال والجنوب) والتبعية المطلقة للتاج البريطاني. وعصر الوحدة والتراص الذي مكن تلك الولايات من أن تصنع عصرا حديثا مجيدا وصارت من بين أعظم القوى في العالم . بيد أنه سيتم، بعد ذلك ، تسخيرها من طرف اللوبي الصهيوني لخدمة طموحاته في نزاعات غير عادلة عبر العالم. كالصراع الصهيوني الفلسطيني واحتلال أفغانستان وتدمير العراق وإخراجه من وسطه الطبيعي العربي للقذف به إلى أحظان الولاية الإيرانية ، وتفكيك السودان وخلخلة لبنان وبلبلة سوريا وغيرها.. أضف إلى ذلك ثورة الجرمان التي أدت إلى سقوط روما القديمة سنة443م. ففصل هذا الحدث بين العصور القديمة والعصور الوسطى . وكذا فتح القسطنطينية سنة 1543م على يد محمد الفاتح الذي فصل أيضا بين العصور الوسطى وعصر النهضة الأوربية. واكتشاف " التلسكوب" الذي أكد عدم محورية الأرض في الكون . فكان ذلك بداية العصر الحديث. بهذا المعنى يكون الربيع العربي حدثا عظيما من أحداث التاريخ إلا إذا استطاع أن يحدث قطيعة مبينة بين النظم الاستبدادية التي خلفها الاستعمار التقليدي للشعوب العربية والنظم الجديدة المنظورة للتجربة التي سيفرزها الواقع الجديد و المأمول الذي سيتمخض عنه الربيع العربي والذي سيحتم على الجميع الدخول في اللعبة السياسية حيث يجب أن يكون الجميع متساوون في الحقوق السياسية والمدنية. فبالرغم أن هذه الحركة التغييرية القهرية التي يعرفها العالم العربي جاءت متأخرة عن حركة استقلال الدول العربية عن دول الاستعمار التقليدي بنصف قرن و نيف . إلا أنهما يلتصقان ببعضهما البعض التصاقا وثيقا . فالاستعمار الذي حافظ على البنى الأمنية التقليدية التي كانت سائدة قبله ، وسخرها لخدمته قصد التقليل من التكلفة البشرية في إحكام قبضته على الشعوب المستعمرة ، فاوض - هذا المستعمر - لكي يبقي على نفس البنى الأمنية بعد الاستقلال للحفاظ على امتيازاته ومصالحه الاستغلالية تضمن له التكلفة الزهيدة في إطار ما عرف بالتبعية السياسية و الاقتصادية. لذلك قال الرافضون لهذا الوضع الجديد - آنذاك- بأن: " الاستعمار خرج من الباب ليعود من النافذة." وكان في ذلك كثير من الوجاهة. من هنا يمكن القول بأن الدول التي عرفها العالم العربي بعد حركة الاستقلال كانت دولا أمنية بامتياز . بل أكثر من ذلك لم تكن هذه الدول قادرة على تشكيل نواة متنوعة ، تأخذ بعين الاعتبار مكونات المجتمع السياسية و المدنية ، صالحة لبناء دولة مركزية قوية تامة الاستقلال مهمتها خدمة شعبها وصون كرامته ورعاية حريته في إطار من العقد الإجتماعي السليم . بل إن هذا الوضع كان ، أصلا، وضعا مهلهلا منذ البداية. لذلك فهو منظور للزوال . وذلك ما جعل الاحتجاجات تنتشر بسرعة في العالم العربي، كما يقال، كالنار في الهشيم. أي أن شرذمة من الخونة و الانتهازيين وخدمة الاستعمار بنوعيه: التقليدي( انجلترا، فرنسا ...)و العصري ( أميركا ،إسرائيل..). هم من شكلوا اللبنات الأساسية للدولة. بينما أدخل المناضلون الحقيقيون في دوائر مفرغة أو في زنازن باردة. بل تم تصفية عدد لا بأس به منهم جسديا. أما الذين فضلوا الاستفادة من الوضع الجديد تم إدخالهم في لعبة سياسية صورية. و لتصحيح هذا الوضع الذي كان معرضا على الدوام للتأزم قامت عدة انقلابات لم تزد ،في الواقع، إلا في التأزيم . سواء تلك التي نجحت أم التي فشلت. أما التي لم تنجح فقد أدت إلى استفراد عائلات بعينها على البلاد و العباد( السلطة و الثروات الوطنية). وتلك التي لم تنجح أدت إلى تفاقم إستراتيجية المقاربة الأمنية التي التجأت إليها الأنظمة فأمعنت في قمع الرأي و الحريات العامة بل الحقوق الطبيعية . مما زاد في اتساع الشرخ الحاصل بين الدولة (السلطة) و الأمة (الشعب) لذلك يمكن القول بأن الاستعمار لم يغادر أبدا العالم العربي . بل ظل هناك يرعى مصالحه و يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة. سواء بواسطة ممثليه من مواطنيه العلنيين أو السريين أو من خلال البنيات الأمنية التي حافظ عليها عندما كان هناك مستعمرا أو دعمها حتى تصل إلى ما وصلت إليه. بل كثيرا ما تدخل بشكل سافر في ترجيح كفة دون أخرى حسب ما تمليه مصالحه المحضة. وهذا الكلام في الواقع يدعم الرأي القائل بنظرية المؤامرة التي وجد فيها كثير من المستفيدين من الوضع القديم ، والذين آثروا الوقوف في وجه الموجة، طبقا دسما. حتى أن عددا لا يستهان به من المناوئين أو من المحسوبين على "الثورة المضادة "يرون في الربيع العربي مجرد مؤامرة غربية على الدول العربية التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار السياسي بها من أجل إدخالها في دائرة حروب أهلية و طائفية و مذهبية يمكن أن تتمخض عنها خارطة سياسية جديدة تتشكل على أسس مذهبية و طائفية و عرقية يمكن وصفها بالقزمية. و ليس هذا إلا تمثل للقاعدة الميكيافيلية التي تقول: فرق تسد. بينما الوقائع تفرض نفسها على مسرح التاريخ. إذ بالعودة قليلا إلى الوراء نجد أن كوندوليسا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة كانت قد بشرت ، قبيل و أثناء الحرب السادسة التي شنتها إسرائيل على لبنان، بمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي هدف ،كما هو معلوم، إلى تجزيء ما هو مجزأ وتفكيك ما هو مفكك وقد تجسد ذلك بوضوح في إعادة العراق إلى عصر ما قبل الدولة وسوريا أصبحت مؤهلة ، مثلا، لقيام ثلاث دويلات على أنقاضها. فبالنظر إلى الوقائع على الأرض نجد أن الطبقة الحاكمة في دمشق ، أو التي كانت حاكمة، تعد العدة لإقامة عاصمة جديدة لها باللاذقية حيت الأغلبية العلوية . بهذا يمكن القول بأن هذه الطبقة تخطط ، بانسحابها إلى الساحل، لإقامة دويلة علوية هناك. وفي الشمال فقد استفاد الأكراد من الانسحاب الممنهج الذي قام به الجيش المركزي . وهذا الأمر يخول لهم إمكانية إنشاء دويلة كردية هناك. بينما يمكن للثوار ،إذا كانت لطموحاتهم حدود ضيقة أو إذا انقطعت عليهم الإمدادات، أن يكتفوا بدويلة سنية في دمشق أو حلب أ حتى بدرعا. حتى أن هيلاري كلينتون الوزيرة التي عوضت رايس، بعد انتخابات 2008م ، أثنت على قناة الجزيرة لأنها لعبت دورا تأجيجيا في الربيع العربي حتى تحول إلى نار مستعرة في سوريا. بهذا المعنى يغدو الربيع العربي مجرد أثر بارز لسياسة الاستنقاع التي انتهجتها أمريكا منذ الرئيس بوش الإبن الذي ذهب غير مأسوف عليه . مثلما حدث في العراق و أفغانستان و شمال باكستان و جنوب لبنان و الصومال و السودان الذي تم تفكيكه بالفعل إلى دولتين .و الآن هاهي سوريا تتحول فجأة إلى مستنقع خطير. ورغم أنني لست من دعاة نظرية المؤامرة لأنها ، في الحقيقة ، تقدم رؤية اختزالية لأسباب الواقع المتخلف الذي ترزح تحته الشعوب العربية و تعفيها عن المسؤولية الأكيدة على هذا الوضع المتردي. و الذي كان من بين الأسباب الرئيسة التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات . إلا أن المسرح السياسي الدولي يشهد على أن هناك تواطؤ للمجتمع الدولي مع النظام، حينا، الذي يذبح ويقصف و يهجر شعبه، ومع المعارضة ، حينا آخر، التي بدورها مازالت لا تعرف طريقا إلى القصر الجمهوري إلا على جماجم الشهداء. لكن بالمقابل ، لا أحد ذو عقل راجح يستطيع أن ينكر أن الاحتجاجات يوم ابتدأت أول مرة، بعد التضحية البوعزيزية، أنها كانت عفوية وكانت تطالب بالكرامة ثم تدرج سقفها إلى أن وصل إلى الحرية، وهذا يعني أنها ابتدأت بمطالب اجتماعية وانتهت إلى مطالب سياسية. وهذا هو مغزى الشعار الذي يقول :"الشعب يريد.." وحتى في ليبيا وسوريا ابتدأت الاحتجاجات بشكل عفوي و سلمي وما فتئت أن تحولت إلى مواجهات عسكرية عندما وقفت الأنظمة القديمة في وجه تسونامي الربيع العربي الذي لم يرحم أحدا. لا اللص بن على ولا الطاغية القذافي و لا المنبطح مبارك و لا المتحاذق علي صالح وها هي تطيح بطاغية جديد هذا البشار الذي يعد بقاؤه على سدة الحكم الأكثر تكلفة من حيث الأرواح عبر التاريخ. أضف إلى ذلك أن أمريكا عندما تآمرت على العراق و احتلته في 2003م لم تنتقل به إلا من عهد الدكتاتور صدام حسين إلى دكتاتور جديد اسمه نوري المالكي. حتى إن النظام الأحب إلى أمريكا في العراق بعد انسحابها منه وتسليمها له لإيران لم يكن ديمقراطية حقيقية و إنما محاصصة سياسية بغيضة تعتمد على الطائفية و العرقية. لذلك يمكن القول بأن أمريكا لا يمكن أن تحب الديمقراطية للشعوب العربية . و هي بالتالي ليست وراء الاحتجاجات المطالبة بالحرية. أضف إلى ذلك أيضا، أن المتآمرين(بالكسر) لا يمكن أن يتآمروا على متآمر عليه (بالفتح) من أجل القفز به قفزة قوية إلى الأمام . بل تحويله من العبودية إلى الحرية و من الذل إلى الكرامة ومن الاستبداد إلى الديمقراطية و من الدولة (السلطة) إلى الدولة (الأمة). وهذا ما جعل المتآمر(بالكسر) يقتصر تآمره على ركوب الموجة. وهاهي إسرائيل بينت سوء نيتها ، بدعمها للنظام الأسدي، باغتيالها للجعبري الذي له فضائل على الثورة في سوريا . ومحاولة منها في تحويل الأنظار من سوريا إلى غزة عندما شنت حرب الثمانية أيام. و التي استشعرنا فيها أولى حسنات الربيع العربي عندما استطاعت مصر أن تسترد دورها المحوري في المنطقة وذلك بأن ترعى (أو أن تفرض) على إسرائيل وقفا لإطلاق النار بينها وبين حماس التي أمطرت سماء إسرائيل بالصواريخ اليدوية الصنع أي:" made in ghazza" فاستحالت قبعتها الحديدية أسمال مليئة بالثقوب. بيد أن ولوج هذه المرحلة الجديدة جعل العقل العربي يطرح عدة أسئلة عميقة تتعلق بنوع النظام السياسي الذي يلائم التغيرات الجديدة ويواكب تطلعات الإنسان العربي. خاصة بعد تصدر القوى الإسلامية للمشهد السياسي في بلدان الربيع العربي على رأسها مصر الإخوان و تونس النهضة . فقد تساءل العقل العربي عن مفهوم الدولة وعلاقته بالدين. وبالتالي ما هو النظام الأمثل للأمة؟ هل هو الشورى كما هي متعارف عليها تاريخيا في الإسلام؟ أم الديمقراطية كما أنتجتها التجربة الغربية بأدواتها وأجهزتها و طرق عملها؟ وباختصار فقد تساءل العقل العربي عن مفهومي الدولة الدينية و الدولة المدنية. لن يكون الربيع العربي محطة تاريخية بارزة إلا إذا استطاع أن يفصل بين عصرين عربيين متناقضين. العصر الأول والذي أنتم على دراية بمميزاته إن على المستوى الوطني أو على مستوى العقلية الفردية والسلوك اليومي. والعصر الثاني الذي سيتمخض عنه الربيع العربي والذي يجب أن يكون نقيض ما سبق لينتج أبهى وأجمل العصور النقدية في العالم العربي. وفي المحصلة النهائية يمكن القول بأن الإنسان العربي من خلال صناعته لربيعه إنما هو يصنع حداثته الخاصة به . وينخرط بقوة في إنتاج الحداثة الكونية المتعلقة بإنسان القرن الواحد والعشرين. * كاتب روائي وباحث من المغرب