منذ صدور دستور 2011، تحركت الآلة التشريعية لتنزيل العديد من المقتضيات المتعلقة بالتشاور العمومي والديمقراطية التشاركية، ونالت الجماعات الترابية الحظ الأكبر من هذه الحركية التشريعية، إذ حفلت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة سنة 2015 بمقتضيات تؤسس للتشاور العمومي والمشاركة في السياسات العمومية المحلية وفي القرار العمومي الترابي. بالمقابل، لازال الاشتغال قائما على مشروع قانون للتشاور العمومي ينظم هذه الممارسة في مجملها وفي مختلف تجلياتها. بما أن الأمر يتعلق بالتقنين، فمن الضروري أن نتوقف عند الخصائص العامة للمقتضيات القانونية في هذا الباب. ولفهم هذه الخصائص يمكن أن نستفيد من العودة إلى تجربة المغرب ما قبل 2011 وما قبل القوانين التنظيمية المذكورة. وهنا يمكن أن نتلمس وجود مظاهر سابقة للتشاور العمومي لم تكن تحمل هذا الاسم صراحة، وإنما كانت عبارة عن "استشارات" أو "أبحاث" عمومية يتم اللجوء إليها في بعض الحالات المحدودة كتلك المتعلقة بنزع الملكية أو في حالة منح بعض الرخص لممارسة أنشطة اقتصادية. هذه الممارسات الاستشارية كانت تحمل الخصائص التالية: هي استشارات وأبحاث مرتبطة بالمصلحة المباشرة ولذلك فقد كانت جد محدودة لا تهم إلا ذوي المصلحة المباشرة المعنيين مباشرة بمشروع القرار الإداري؛ كانت مرتبطة بحالة خاصة، محددة في الزمان والمكان؛ غالبا ما كانت مجرد شكلية غير ذات تأثير على جوهر القرار الإداري؛ لم تكن مسطرة شفافة يتم نشرها على أوسع نطاق وبأحدث الوسائل وإنما كانت تقتصر على تعليق إعلان إداري بمقر الإدارة المعنية، قد لا يقرأه أحد. اليوم، نحن بالتأكيد أمام صيغة جديدة ومتقدمة لا تشكل مجرد تطوير للصيغ الاستشارية القديمة ذات الطابع الإداري والهدف المصلحي، بل هي تأسيس لممارسة ديمقراطية تختلف في جوهرها عن الصيغ القديمة وهو ما يمكن أن نفهمه من خلال استعراض أهم خصائص المقتضيات القانونية الجديدة. – من حيث التسمية، أصبح الحديث عن "التشاور" العمومي وليس الاستشارات أو الأبحاث العمومية. هذا التحول ليس مجرد تحول في اللغة وإنما هو حامل لفلسفة جديدة تدل عليها باقي الخصائص؛ – من حيث صاحب القرار المستهدف، لا يتعلق الأمر ببضع إدارات عمومية، بل اتخذ الأمر طابعا عاما وشموليا يهم كل السلطات العمومية وكل الأجهزة المنتخبة؛ – من حيث الارتباط بالمصلحة، لا يمكن ربط التشاور العمومي بالمصلحة المباشرة أو جعله مقتصرا فقط على أصحاب الفائدة المباشرة، فقد حاول المشرع توسيع قاعدة المشاركين في مسلسل التشاور العمومي وإن كان حاول تقييده من خلال التنصيص في بعض الحالات على وجود مصلحة كما هو الحال بالنسبة للمقتضيات المتعلقة بتقديم العرائض إلى المجالس الترابية المنتخبة؛ – من حيث الأسلوب، أصبح التنصيص على التشاور كجزء من مسلسل القرار العمومي؛ – من حيث الهيكلة، نلاحظ نزوعا للمشرع نحو "مأسسة" التشاور العمومي من خلال ممارسته عبر آليات وهيآت مؤسساتية مما يسمح بضبطه وربما التحكم في مخرجاته؛ – أخيرا من حيث السياق، جاء التنصيص على آليات التشاور العمومي ضمن مسلسل ترافعي واحتجاجي مجتمعي، عبر عنه الحضور الكيفي لمنظمات المجتمع المدني. هذه بعض خصائص التشريع المتعلق بالتشاور العمومي بالمغرب، وهي الخصائص التي من شأنها أن تشكل مؤشرات لمتابعة تنزيل هذه المقتضيات وعدم الالتفاف عليها أو إفراغها من محتواها. التنزيل المؤسساتي ليس هدفا في حد ذاته، بل هو فقط بداية مسار لإعادة تشكيل الممارسة الديمقراطية وإعادة ترتيب العلاقات داخل متن السلطة. وهو أمر يتحقق فقط على المدى الطويل من خلال عملية تراكم معرفي وترافعي وميداني. تفعيل التشاور هو انتقال بالمواطنة من مجرد رقم انتخابي إلى ممارسة يومية وإلى تعبير عن الارتباط بالشأن العام المحلي والوطني. سؤال التفعيل في حد ذاته هو سؤال ثقافي يتجاوز عتبة المسطري والإجرائي ولا يقف عند مطلب تأسيس وتشكيل هيآت. فمصير القوانين التي تأتي فقط لتعترف بتقليد مجتمعي ليس كتلك التي تأتي لتخلق هذا التقليد. في الحالة الأولى، تكون ثقافة القانون سابقة على القانون نفسه، وفي الحالة الثانية، يكون القانون سابقا على ثقافته. ومن الطبيعي أننا في هذه الحالة الثانية تحديدا سنواجه الموجة الأكبر من العراقيل والإكراهات، وهذا حال المقتضيات المتعلقة بالتشاور العمومي. لقد نبتت هذه المقتضيات في تربة سياسية وإدارية متجذرة في المركزية، في احتكار القرار العمومي، في التدبير البيروقراطي، في توتر العلاقة بين المواطن والمؤسسات العمومية وفي غياب فاعلية مدنية مجتمعية قوية وقادرة على تأطير الفعل وردود الفعل. من هنا، قد يسهل علينا إذن أن نتصور أنواع وأشكال الإكراهات والعراقيل التي ستؤثث مسار تفعيل التشاور العمومي. – أول هذه العراقيل هو غياب ثقافة المشاركة والإشراك وسيادة ثقافة احتكار السلطة والمعلومة. لقد ساد التصور العمودي للعلاقة بين المواطن والسلطة وسيكون من الصعب تعويضه أو على الأقل مجاراته بتصور أفقي لهذه العلاقة على اعتبار أن هذا التصور الجديد سيوقف عددا من الامتيازات المادية والاعتبارية. – ضبابية النصوص القانونية المنظمة والمؤطرة للتشاور العمومي، حيث في العديد من الأحيان جاء التنصيص غامضا مفتوحا على كل التأويلات كما هو الشأن بالنسبة للمقتضى المتعلق بإحداث هيأة المساواة وتكافئ الفرص ومقاربة النوع على مستوى الجماعات الترابية. – سوء فهم توزيع الأدوار بين المتدخلين في العملية التشاورية، أي بين طرف الديمقراطية التمثيلية وطرف الديمقراطية التشاركية، وهي العلاقة التي قد تحمل الرغبة في الاحتواء والتوظيف من هذا الجانب كما قد تحمل الرغبة في سحب البساط من الجانب الآخر، وهو ما يفرز جوا من انعدام الثقة من الطبيعي أن يرهن نتائج المبادرة التشاورية. – سؤال مدى استقلال الهيآت التشاورية سواء في لحظة تشكلها أو إبان اشتغالها. ففي التأسيس، قد يتم الالتفاف على تأسيس الهيآت التشاورية سواء من حيث توقيت الإحداث أو من حيث إغراق هذه الهيآت بالمناصرين والمقربين. أما في لحظة الاشتغال، فيثار مدى قدرة الهيآت التشاورية على استصدار آراء استشارية عملية وقادرة على التأثير في صنع القرار العمومي. – غياب رؤية لدى الفاعل العمومي وضعف حضوره المدني وقلة شبكاته التنسيقية المهيكلة والفاعلة. – غياب أو تغييب الفئات الهشة كالمسنين وذوي الإعاقة مما يجعل العملية التشاورية غير دمجية، نخبوية وحتى إقصائية. هذه الإكراهات وغيرها تساهم في فهم آفاق تطوير العملية التشاورية. وأول ما يطرح في هذا الباب هو العمل على توسيع التشاور العمومي من حيث صناع القرار المستهدفين. فالملاحظ أن الدينامية الترافعية في هذا الباب تهم بالأساس المجالس الجماعية، في حين أن الدستور تبنى مقاربة شمولية تهم كل الإدارات العمومية. كما أن مسلسل التشاور مطالب بأن يمس كل القضايا، العادية منها والاستراتيجية، وألا يتم تقزيمه وحبسه في أسئلة اليومي والظرفي، علاوة على تبني مقاربة دمجية تمس كل الفئات المجتمعية. وفي كل الأحوال، يبقى ما تم تنزيله من مقتضيات وما تم تفعيله من هيآت مكسبا مدنيا يقتضى مواصلة الترافع من أجل صونه أولا وتجويده ثانيا.