قبل أسابيع.. تشابه عليه تشابه علينا البقر، فلم نعد نفرق بين الغث والسمين، بين الوهم والحقيقة، بين المعقول و "الضصارة"، بين الهزل والجد.. والواقع أن مسلسل العبث بالحياة السياسية انطلق منذ زمان، والألوان التي يتخذها في كل درس تختلف في كل مرحلة إلى أخرى حسب الفاعل السياسي والمتدخل النظامي و"السوفلور". الفاعل قد يكون مخزنيا وقد يكون مخزيا كما علمتنا الأيام. مربط هذا الحديث الشطحات الأخيرة حول الإنسحاب من الحكومة من عدمه وما سبقه من كلام في تجمعات واجتماعات مغلقة وأخرى مفتوحة. شريط هذا العبث انطلق بتصعيد بين مكونات التحالف الحكومي وتراكم الانتقادات المتبادلة بين الأطراف الرسمية والغير الرسمية في الحكومة حول من يدعي أن هذا الطرف قد أخفق ومن يدعي أن ذاك الطرف "من مسامر الميدة". فهل كانت الحكومة الحالية مخفقة بفعل تقصير في الأداء؟ أو عدم الاحترافية؟ أو قلة التجربة؟ أو وجود فساد حقيقي كما تترنم بذلك المعارضة وأطراف في الأغلبية. ثم إن هناك سؤال ملح: ألم تكن الانتقادات الموجهة إلى بنكيران بسبب الغيض أكثر منه بسبب واقع اقتصادي واجتماعي أليم؟ ألم يساهم بنكيران نفسه في صبغ صفة الضعف على حكومته عندما قبل بتنازلات غير منطقية منذ اليوم الأول لتعيينه؟ ألم يتساءل بنكيران باسم "خلي الما منين يدوز" حتى طمع فيه القاصي والداني وتطاول عليه الغريم والحليف؟ ألم تجهر أصوات بأنه على بن كيران أن يكون صارما في تطبيق الدستور؟ ألم تعب عليه قوله دائما "لن أواجه الملك" وكأنه يذكر من لا يقوى على التوضيح أن الانتقادات الموجهة إليه إنما تخص أعلى هرم في السلطة..؟ الخطأ الأول لبن كيران اسمه غلاب غداة تسمية عبد الإلاه بن كيران رئيسا للحكومة وفي غمرة نشوة الفوز الانتخابي أعلن أنه سيبحث عن الحلفاء أولا في الكتلة ووصل به المشوار إلى فتح باب التواصل مع جميع الحساسيات السياسية الممثلة داخل البرلمان. مع أن الحرب الكلامية لم تكن قد وضعت أوزارها بعد.. وهكذا استقبل في بيته الحزبي الأصدقاء والأغيار مع أن الأمر لم يكن يتطلب كل ذلك النفاق أو ذلك "الصواب" الذي يخلق ليونة لا تفيد الصرامة السياسية في شيء. وعندما رفض الاتحاد الاشتراكي الدخول في التجربة الجديدة تأسف البيجيدي مع أنه كان مستعد لتقديم كل التنازلات الممكنة، فلم يجد أمامه إلا الرفيق نبيل بنعبد الله فأكرمه وعض عليه بالنواجد. وكانت هذه الخطوة هي العثرة الأولى في المشوار تلتها عثرات أخرى لم ينتبه إليها بن كيران أو استخف بها. بن كيران بنى كل خطبه على لغة الأخلاق والإخلاص للمبدأ لكنه نقض نهجه فتحالف أولا مع شيوعي ثم جلس إلى أمين عام لحزب حليف كذاب وكانت هذه الحلقة بداية ضعف الخطاب الأخلاقي، ذلك أن بن كيران هو الوحيد الذي كان يعلم علم اليقين أن عباس الفاسي لم يكن يحكي الحقيقة لحزبه بخصوص الإتفاق حول الأسماء التي ستستوزر، ومع ذلك ستره على اعتبار أن "داكشي ماشي شغلو". والخطأ الجسيم الأول الذي وقع فيه بن كيران هو قبوله بشخصية باهتة لرئاسة مجلس النواب.. على اعتبار أن رئاسة المجلس المذكور تتحكم فيها معطيات أخرى غير منطق النجومية في الأغلبية.. بل إن بن كيران لم يبدي أية مقاومة في الموضوع.. ولم يطالب برئاسة البرلمان كما فعل عبد الرحمان اليوسفي عندما تشبث بعبد الواحد الراضي رئيسا للبرلمان.. إذ أن رئاسة البرلمان إذا ووجدت لها الكاريزما اللازمة فإن كثيرا من الخلافات يدبرها الرئيس إلى جانب رئيس الحكومة دون أن يضطر رئيس الحكومة لمواجهة الضغط لوحده. مع الأسف بن كيران لم يحصن نفسه بالرئاسة اللازمة في ظل البرلمان الجديد الذي قيل عنه أنه برلمان الربيع المغربي الذي سيقطع مع "خشيبات زمان"، للأسف فقد البرلمان وهجه النضالي الذي يجب أن يرافق المرحلة عندما تم التواطأ على المنطق الظرفي آنذلك "أجواء ثورية إبان الربيع" بقبول شخصية لم يبدو ولا يبدو أنها تملأ مقعدها، وقد أبانت تجربة سنة ونصف محدودية مناورات هذه الشخصية في لحظات حاسمة من تاريخ البرلمان عبر مختلف الأزمات، ولا حاجة إلى التذكير بأن البعد السياسي والحنكة والحبكة أشياء غائبة ناهيك عن عدم وجود أي امتداد دولي بفعل انعدام التاريخ النضالي. وخلاصة الأمر أن يد بنكيران في رئاسة الجهاز التشريعي مبتورة وجناحه منكسر وهو ما جعل البرلمان يبدو كأي برلمان ماض.. والخطأ الآخر لبن كيران قبوله لأسماء في فريقه لا تاريخ لها ولا وزن حقيقي لها وبذلك أصبحت هذه الحكومة أيضا كمثيلاتها السابقة ذات مصداقية ضعيفة بضعف الشخصيات التي تكونها وضعف قدرتها التعبوية، وهو ما يفسر خروج بن كيران المستمر للدفاع عن فريقه كلما حصلت أزمة في الأفق، ولا وزير يستطيع الدفاع عن نفسه بملء فاهه. والخطأ الأسمى لبن كيران ترديده باستمرار "وا صبرو علينا شي.. عاد بدينا.. ما أنتخاصمش مع الملك" مع أنه لا أحد طلب منه أن يتخاصم مع الملك وكأنه يريد أن يقول إن انتقاداتكم موجهة إلى الملك وليست إلي. الحليف الغريم نأتي الآن إلى قصة شباط .. ووضع نفسه محل عداء مع أنه حليف.، معلوم أن المعارضة بكل تلاوينها لم تنل شيئا من الحكومة، وربما رأى شباط في هذا الفراغ مجالا لكي يحتل به صدر الصفحات الأولى بالجرائد والمواقع الالكترونية، وهو رجل يتقن هذا الفن أكثر من غيره، ناهيك عن كون الدولة نفسها لها مآرب جميلة وخفية في هذا "التفرعين" وهناك من يقول بدون شك "الحمد لله الذي أوجد هذه الحرب حتى ينشغل الناس عن مواضيع سياسية أخرى أكثر إزعاجا. لا تعتقدوا أن شباط يهرطق ولا تعتقدوا أن بن كيران يقبل أن تنغص عليه حياته مجانا هناك مصلحة أسمى. المهم أن الخرجات الأولى لبن كيران حديثه المستمر حول التماسيح والعفاريت كان المقصود به المعارضة وجزء من "صحاب الحال" ولكن شباط أبى إلا أن يضع نفسه وكأنه معني بكلام رئيس الحكومة: يعني "باغي يكون عدو صحا" ولذلك بدأ أولا يعلق ويستهزأ بعبارة التماسيح والعفاريت ثم صار يبني كل خطبه وخرجاته على هذا المنوال.. بن كيران يعتبر شباط حليفا وقد يغمض عينيه مرة أو مرتين.. لكن الحليف عنيد يبحث عن أشياء أخرى، عن مكانة متقدمة في التفاوض ويبحث ببساطة عن تعديل حكومي طالب به منذ اليوم الأول، فشباط يعلم أن له الفضل في بناء الفريق النيابي الحالي ويعلم أن عباس الفاسي استفاد من هذا الفريق دون مجهود حين تفاوض إبان تشكيل الحكومة وعين من شاء ورفض من شاء. والحاصل أن عباس الذي أبرم الاتفاق رحل عن القيادة وأن المخاطب الحالي عمدة مدينة فاس أي نعم لكن أصوله من "البرانس"، بمعنى "طارت معزة" وهذا ما حاول بن كيران صم آذانه عنه فلم يجد شباط إلا طريقا واحدة عنوانها "آسي بن كيران عليك أن تنصت إلينا وإلا حررنا عليك العيشة" وما يفسر هذا السلوك الأسلحة المتوالية التي استعملها شباط باختياره هذا، فمرة دعا إلى إعادة صياغة ميثاق الأغلبية ومرة وجه مذكرة إصلاح ومرة وجه وثيقة إصلاح اقتصادي وتوال التنديد بالزيادة في أثمنة البترول والتنديد بملف المعطلين وصندوق المقاصة وميزانية الاستثمار وعندما لم تأتي كل هذه القصص أكلها إنتقل إلى الاتهام بالسكر والفساد نحو أعضاء الحكومة ولو سمحت له الظروف لاتهم أعضاء الحكومة بترك الصلاة كما فعل ذات يوم تجاه غريمه السابق عبد الواحد الفاسي إبان التحضير لرئاسة الحزب عندما قال كيف نجعل أمينا عاما رجلا لا يصلي..؟؟ وصدق الجميع هذه النكتة ولم يتساءلوا يوما هل شباط نفسه يقيم الليل واقفا أو ممتدا..؟؟ وعندما احتجت الحكومة في مجلسها الأخير على اتهامات شباط ببيان واحتج أطراف الأغلبية تسارعت الأحداث وعقدت اجتماعات واضطرابات بين عشية وضحاها أصبح موضوع الانسحاب من الحكومة وجبة أساسية لدى المهتم وغير المهتم. أسطورة الانسحاب من الحكومة في أغلب الأنظمة عندما يقرر حزب ما الانسحاب من الحكومة حتى وإن ثبتت الأسباب فإن القرار لا ينزل بداية الأسبوع ليقرر فيه في نهايته، شباط يعلم أن مناسبة انعقاد المجلس الوطني لحزبه مناسبة حقيقية لتوجيه النقاش أولا. أن يناقش أعضاء المجلس الوطني موضوعا خارجا عن التنظيم أفضل بكثير من أن يعاود أحدهم تذكيره بأن المؤتمر الأخير لحزب الاستقلال اجتمع فيه كل شيء إلا التنافس النزيه والديمقراطية الحقة ولا يريد لأحد أن يذكره بأنه وصل إلى رئاسة باب العزيزية كما سماه قهرا وظلما وأن أعضاء الحزب الحقيقيين كثير منهم خارج المؤسسات. وأن هناك شيء إسمه تيار لا هوادة ولذلك تفتق ذكاءه بخلق قضية سيحصل حولها إجماع وبحجرة واحدة يضرب عصفورين، أولا تثبيت شرعية المؤسسات القائمة وجعل الأنظار تشرئب إلى نتائج النقاش الذي ستؤول إليه الأمور فالتخريجة ذكية قوامها تعويم المناقشة بالحديث عن الانسحاب من عدمه يعطي للقيادة متنفسا وظروف مناورة أحسن.. ثانيا المجلس الوطني يعتبر في أدبيات الحزب برلمان حقيقي وكل قراراته ملزمة للقيادة ولذلك فإن قرارا جاهزا إضافة إلى تفويض في الجيب يعطي فرصة للضغط أكثر على بن كيران أو غيره في حالة ما إذا قرعت طبول الحرب وآلت الآجال المتوقعة. ثالثا وأخيرا وهو ما يفسر حالة الهيجان التي استولت على أعضاء الحزب ومؤسساته الطمع في المناصب الحكومية والأعضاء الجدد داخل الحزب يطمعون أيضا في وضع أفضل وإن كان الأسلوب غير كاتوليكي وإن كان القفز عن التاريخ والاستحقاق شيء مشين فإن الطموح أصبح مشروعا ولا حاجة إلى سنوات النضال ولا حاجة إلى تاريخ ولا حاجة إلى مصداقية ولا حاجة إلى حزبية مثمرة كل هذا كلام من الماضي وقد يقول قائل أنه كلام بيزنطي أطربني كثيرا أحد الظرفاء وهو يردد باستمرار: يا فارقوا أحذية المجاهدين ويا عابدوا آلهة من خزف لقد ظهرت الحقيقة وفقد فيكم الثقة .