أفتح جريدة ذلك "الصباح" غير البعيد واقرأ مقالا عن مجلة الشرطة التي تصدرها إدارة الأمن الوطني في حلة جديدة زاهية وبطبعتين، واحدة بالعربية والأخرى بالفرنسية، منذ نحو السنة. مقال الجريدة "ينعي" في تشف سافر، توقف المجلة المذكورة بجرة قلم، وذلك بعدما لم يعد السيد حميدو لعنيكري مديرا للأمن الوطني، حينما تم الربط بينه وبين الفضيحة الشهيرة ب"بين الويدان"، بعدما اعتقل صديقه ومحميه في هياكل النظام "عبد العزيز ايزو"، حيث انتقل هذا الأخير في رمشة عين من مدير لأمن القصور الملكية، إلى مجرد سجين حق عام في سجن عكاشة بالدارالبيضاء. وكان "منطقيا" أن يأتي الدور على راعيه والمدافع عن مسلسل تسلقه للمراتب المخزنية العالية. وهكذا كان، حيث تم التطويح بالعنيكري إلى منصب أدنى لم يطمح له منذ أصبح رجل الأمن القوي في النظام المغربي.. استوقفني في جريدة ذلك الصباح أن كاتبه يتناول بالتفصيل جوانب الفساد المالي لمجلة الشرطة الزاهية الألوان، متحدثا عن مبلغ مليار سنتيم ابتلعه مشروع المجلة في عملية تبذير مريعة حقا من تفاصيلها، مثلا، أن أستاذا للعلوم السياسية(يتعلق الأمر ب-عبد..أكن..) اشتغل مع المجلة كأحد أعضاء هيئة تحريرها، كان يتقاضى أجرا بثلاثة ملايين سنتيم ونصف مليون في الشهر، وأن كاتبة إدارية عادية كانت تتقاضى ما لا يقل عن مليونين ونصف مليون، وأن إدارة الأمن الوطني كانت ترغم رجال الشرطة على الاشتراك في المجلة المذكورة قسرا دون أن تصلهم الأعداد التي يؤدون ثمنها... إلى غيرها من تفاصيل الفساد المالي والإداري في مجلة العنيكري. توقفت عن متابعة قراءة المقال قرفا، ليس من لفداحة ما جاء فيه، فثمة في هذا البلد ما خفي وكان أعظم بكثير، بل من صفاقة وحقارة كاتب المقال، وما يقوله، ناهيك عن وضاعة الجريدة التي نشرت ما كتبه الآن، بعدما تمت تنحية الرجل من منصبه الهام الخطير. ولأنني أعرف أنه لم يكن صعبا على الإطلاق الحصول على كل تلك المعطيات وأخطر منها عن مجلة لعنيكري لو توفر الصحافي المناسب، والجريدة المناسبة في الوقت المناسب، ولأن هذا غير حاصل فان الجريدة وصحفيها كاتب المقال، يلعبان باستمتاع خبيث دور كلب الصياد، فبعدما صدر قرار الملك بتنحية حميدو لعنيكري انطلقت الجريدة وصحفيها في أثر الفريسة. أذكر أن صحافيا مصورا كاد يتبول في سرواله، وربما حصل له ذلك فعلا، حينما فاجأه لعنيكري وهو يلتقط له صورة في إحدى المناسبات الرسمية، وذلك في عز قوة هذا الأخير حينما كان مهندسا للسياسة الأمنية للمملكة يحظى برضى الملك، وإعجاب الأمريكيين المهووسيين باستراتيجية القضاء على دابر الإرهاب، ولو كان في جزر واق الواق الخيالية. وأعرف أيضا أن الرجل كان يصنع الجو الرديء للذين عملوا تحت إمرته سواء كجنرال في الجيش، أو ككبير في جهاز المخابرات المدنية "الدي.ايس.تي" أو كمدير للأمن الوطني، ذلك شأن أي رجل عصامي، انتزع مكانه في الدولة المخزنية بقوة الساعد، ودهاء استباق فخاخ ومقالب السياسة، كما تُمارس في المغرب، بكثير من الخبث وقليل من العقل. فليس مألوفا أن يتسلق ضابط صف عادي في الجيش، كل المراتب العسكرية الكثيرة العسيرة، ليصبح كما عرفه الخاص والعام، جنرالا يحمل دستة نياشين على صدره. لكن بعدما أدى الخدمات "الجليلة" المتعددة للنظام المخزني، بدءا بالتحقيق مع العسكريين المتورطين في الانقلابين العسكريين، الذين كانا قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة بالنظام الملكي، مرورا بالسهر على عملية الزج بما تبقى من الانقلابيين الذين صدرت في حقهم أحكام بالسجن في سجن" تازمامارت" الرهيب، والتفافا على الخدمات الأمنية "الخاصة" التي برمج لها ونفذها لصالح أمراء الإمارات العربية المتحدة، وعلى رأسهم الراحل الشيخ زايد، وانتهاء بالإشراف على المخابرات ثم الأمن الوطني، ليختم الرجل "العصامي" على الطريقة المغربية كل ذلك المسار "الناجح" غير العادي بالنزول درجات، بقرار تحقيري واضح، إلى منصب الإشراف على أفراد القوات المساعدة المكلفين بمطاردة الباعة المتجولين في الدروب العتيقة للأحياء الشعبية. ولأن عملية السقوط لا تتوقف، عكس عملية الصعود، فان الرجل سيلامس الهاوية بالتأكيد، حيث سيصبح كما كان أول مرة فردا عاديا، ينتمي إلى الشرط البشري الذي جاء منه، وقوامه هذه الملايين من الناس المنتشرين في هذه الرقعة المسماة المغرب، ليعيش الظرف النفسي الذي سبقه إليه خدام النظام المخزني العتيق. تماما مثل رجل آخر كان أيضا قويا هو إدريس البصري. أذكر، من ثنايا هذا الظرف النفسي، أنني التقطت يوما كلمات مبحوحة لهذا الأخير عبر مكالمة هاتفية ضمن حوار أجريته معه، حيث كان لا يني يجيب بهذه الكلمة المنفعلة على أسئلتي وهي:"هاااااااااي...هااااااي...هااااي" محاولا التأكيد على استخفافه بخصومه الأقوياء في النظام بحلته الجديدة- القديمة، ولأعلم أنه ليس أقسى على المرء من مبارحة حياة القوة السلطوية، والدخول في مجاهل الضعف وتنكر الأصحاب والخلان، سوى سكرات الموت. ومن التنكر الذي واجهه ادريس البصري غداة تنحيته من منصبه الكبير كوزير للداخلية على مدى ما يقرب من ثلاثين عاما أن واحدا من الصحافيين (يتعلق الأمر ب مح..لشه..) الذين رعاهم وحدب عليهم كان يعمل إلى جانبه ك "مستشار" غير رسمي في شؤون الإعلام، رفض استقباله في بيته حينما جاءه مباشرة بعد تنحيته، عساه يجد عنده بضع كلمات ترويح عن النفس المثخنة بجراح العزل. ولم يكن للوزير المخلوع بد من شد الرحال إلى فرنسا شبه هارب، ليدفن أحزانه في كؤوس الويسكي، تاركا مكانه للصاعدين الجدد ضمن خلية النظام يرتشفون من كأس "الخلد" التي توهم بها السلطة كل شارب منها إلى حين. أما الجنرال عبد الحفيظ العلوي وزير القصور والتشريفات والأوسمة السابق، الذي توفي سنة 1989، فأدرك في أواخر سني عمره حينما بلغ من الكبر عتيا، أنه سائر إلى كامل الاضمحلال ثم الموت، فأدركه استيقاظ متأخر ل "الضمير" واستعاد شريط الذنوب والجرائم في مسار حياته الطويل، حيث تحول إلى حارس للمعبد الملكي المغربي، عبر حياته الطويلة، ومحولا أيضا حياة كل من ساقه حظه الحياتي إليه، إلى جحيم لا يطاق. إذ أنه كان يكفي أن يُذكر اسمه ليتبول أقوى رجالات الحسن الثاني في سراويلهم. هذا الرجل المتجهم على الدوام، والذي لم يتورع أبدا عن التنكيل بكل من سولت له نفسه المساس، أو الاستهانة، بالترتيبات البروتوكولية العتيقة أو المصطنعة.. هذا الرجل"القوي" تحول في أواخر أيام حياته إلى مجرد عجوز خائف، مثل طائر مبلل مرتعد من قوة مجهولة. فقد روت إحدى الجرائد اليومية عنه أنه أمر سائقه ذات يوم بأخذه إلى خارج مدينة الرباط، وعندما توغلت السيارة وسط جانبين غابويين أمر السائق بالتوقف، وترجل لوحده ثم دخل وسط الغابة ليعتقد السائق أنه يريد قضاء حاجته. وعندما طال غيابه، خاف السائق أن يكون قد حدث له مكروه فانطلق في أثره، وكم كانت مفاجأته كبيرة حينما وجد الرجل ذي القسوة الأسطورية، يلطم رأسه ووجهه ويُعفرهما بالطين، مثل أية عجوز بائسة، وهو يبكي ويصرخ.. "سامحني يا ربي راه ما درتش باش نلقاك" (أي: سامحني يا ربي لم أفعل جيدا ألقاك به). مم كان يخاف ذلك العجوز القاسي؟ وماذا فعل حتى يندب مصيره على ذلك النحو؟ لا أحد يعرف. لقد مات الرجل بعدما اعتزل الدنيا والناس في أواخر سنوات عمره، آخذا معه أسرار جرائمه في حق هذا البلد التعيس وأناسه. وكم كانت دهشة رجال المخزن حينما دخلوا أحد البيوت السرية للعجوز الميت، إذ اكتشفوا ثروة طائلة مخزنة في البيت وكأننا نعيش في عصر ما قبل الزراعة، ثروة هائلة – بتعبير الجريدة التي نقلت الخبر- قوامها مختلف أنواع المتاع، والنقود، يعود تاريخ جزء من هذه الأخيرة إلى عهد الاستعمار، والأواني الثمينة.. يتعلق الأمر كما هو واضح، بالهدايا والرشاوي التي كان يتلقاها الرجل القوي المتسلط، لقاء توسطه في قضايا الخاصة والعامة لدى ولي نعمته الملك الحسن الثاني. وانتهى الأمر باستيلاء المخزن على ثروة الميت العجوز، الذي مات ولم يجد الوقت لإنفاق ما راكمه من أسلاب وغنائم. أما الملك الحسن الثاني، فيحكي الصحافي الفرنسي" جون بيير توكوا" عنه أنه كان مكتئبا على الدوام في أواخر أيام عمره، زاهدا في الطعام والشراب والملذات التي كانت طوع يمناه ويسراه، لأنه اكتشف أخيرا في حالات هرمه ومرضه، أنه أيضا سيموت بالرغم من كل مظاهر الأبهة والفخامة التي أغرقته فيها حاشيته، ومجتمع قطيعي بأسره قوامه ملايين الرعايا "الأوفياء" طوعا، في الظاهر، وبالإكراه، في الباطن. الحسن الثاني، إدريس البصري وحميدو لعنيكري وقبلهما الدليمي وأوفقير، وثمة غيرهم كثيرون سبقوهم إلى عناقيد السلطة... عاشوا لحظات القوة والجبروت، وذاقوا بعدها لحظات الضعف والهوان، وأسعدهم حظا مَن استطاع التسلل من الباب الخلفي في الوقت والظرف المناسبين، للتنعم" بالأسلاب والغنائم" وما أجزلها. كما هو حال كل من قنع بالمنزلة بين المنزلتين في مراتب السلطة. إن البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي جعلت الجريدة التي قرأت فيها ذلك "الصباح" المقال الناهش للحم العنيكري، هي نفسها التي أنتجت هذا الأخير.. بيئة تربي في الإنسان صفات الذل والخنوع للأقوياء، مقابل الاستئساد على الضعفاء، البيئة نفسها التي تجعل كل شيء يُحسم بالقوة البكماء الصماء، وليس بالصراع المنظم وفق قواعد أخذ ورد، يحترم فيها كل طرف الآخر كأن لا يتورع بعض من أشد المغالين سابقا في تمجيد الملك الراحل الحسن الثاني، إلى إقران اسمه حينما يذكرونه الآن في مختلف المناسبات بهذه العبارة اليتيمة البئيسة "رحمه الله" بعدما كانوا يقولون من قبل "جلالة الملك الحسن الثاني نصره الله وأيده". إنها نفس ثقافة الخضوع والخنوع التي جعلت الجريدة المعنية مثلا، لا تنشر فضيحة الفساد المالي والإداري لمجلة الشرطة في الوقت المناسب، أي حينما كان لعنيكري في منصبه السلطوي الكبير، حيث كانت تلك الجريدة ستقوم بدورها الحقيقي كسلطة رابعة.. سيقول قائل إن من شأن ذلك لو تم أن يُعرض الجريدة وصحافيها، الذي من المُفترض أن يكون قد قام بعمله في الوقت المناسب، لأوخم العواقب، ليكون الرد الموضوعي أن ذلك محتمل جدا، غير أن الصحافيين والصحف وجدوا دائما لأداء ذلك الدور الطلائعي، لحماية المجتمع من الشطط في استعمال السلطة بكل معاني هذا الشطط السياسية والتدبيرية..الخ. أما الإصرار على لعب دور كلاب الصيد بالنسبة للصحف والصحافيين فيجعل المجتمع بأسره عرضة لثقافة تلخصها العبارة التالية "ليأكل القوي الضعيف".. إنها العلاقة الأزلية التي تجمع السادة بالعبيد، علاقة يحكمها خوف مُتسرطن، وبالتالي خضوع الضعيف للقوي. ذلك لأن القوة أُخذت –بالمبني للمجهول- أول مرة بالقوة وآلت من السلف إلى الخلف بالقوة، وهي لن تبقى كذلك إلا بالقوة. فالعنيكري، اليوم، والبصري من قبل، كانا يستمدان بقاءهما من اعتبارات القرب من مركز القوة. وحينما لم يستطيعا الاحتفاظ بهذه القوة عن طريق الوكالة، نزلا إلى الدرك الأسفل من الضعف حيث طمعت كلاب الصيد في لحمهما المنهوش. هذه العلاقة البدائية ليست في حاجة إلى صحف وصحافيين، ليلعبوا دور كلاب الصيد المبصبصة بذيولها، والشامتة في ضحايا بندقية الصياد. كما أنها- أي هذه العلاقة البدائية في مجال السلطة – ليست في حاجة إلى أحزاب (دور هذه الأخيرة أساسي ومحوري في إقامة النظام الديمقراطي الحقيقي لا الصوري) إذا لم تقم بدورها في حشد همم الناس لممارسة السياسة النافعة، التي تبصرهم بحقوقهم وتتبنى الدفاع عنها من مختلف المواقع (ممارسة الحكم أو المعارضة) لا البصبصة بذيل خفض الجناح، وترديد ما يقوله الحاكم القوي باعتباره لا ينطق عن الهوى، ولا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، كما الأنبياء الذين انتهى زمنهم منذ ليل البشرية السحيق. ففي هذه الحالة يتوفر للديكتاتورية أهم عنصرين لتأبيد الاستبداد كما عرفه المثقف السوري الكلاسيكي عبد الرحمن الكواكبي في نهاية القرن التاسع عشر، حينما قال أن "الاستبداد لا بد له من حاشية منافقة ومهادنة، وعامة جاهلة ضائعة". غير أن ثمة ظاهرة أخرى يلدها الاستبداد الطويل وهي أن التقاعس في إقامة النظام الديمقراطي الحق يجعل الناس يتحولون بالقوة إلى ديكتاتوريين صغار بين بعضهم البعض في مختلف أنشطة حياتهم العملية والمؤسساتية والاجتماعية ..الخ. حيث يؤكد علماء الاجتماع إن المرء الخاضع لنظام الإكراه والقوة السافرة يتحول مع مرور الوقت إلى طاغية صغير في السلم التراتبي لهذه الأخيرة، ومن تم تصبح الدائرة محكمة الإغلاق لا يتسنى الفكاك منها إلا بزوال نواة القوة التي تلد أخرى مثلها أو أشرس منها.. فما هو يا ترى حال السلطة اليوم في هذا المغرب الأقصى عن الديمقراطية؟ سؤال سنحاول الإجابة عنه في كتابات قادمة ""