لكن الأقلام لن تجف والصحف لن تُطوى! خرج ترامب من محاكمته الثانية ببراءة ودخل التاريخ الأمريكي بأرقام قياسية جديدة. فهو أول رئيس يحاكم مرتين وينال البراءة، وهو أول رئيس يحاكم مرتين في غضون سنة واحدة وهو أول رئيس يحاكَم بهدف عزله من منصب لم يعد يشغله، فضلاً عن أن اسمه سيبقى مقترناً بأقصر محاكمة رئاسية في التاريخ الأمريكي. صحيح أن قضايا مدنية أخرى ستُرفع عليه في محاكم أمريكية بتهم مختلفة أبرزها التشهير والاحتيال على البنوك والتهرب الضريبي في عدد من الولايات، لكنه كسب معركته الكبرى في مجلس الشيوخ الذي برأه بعد فشل الديموقراطيين في بلوغ ثلثَي الأصوات، وحرمهم بالتالي من لذة الانتشاء والاحتفال بتجريده من حقه في الترشح للرئاسة في 2024، سواءً في حزب الجمهوريين نفسه، أو عبر حزب ثالث قد يؤسسه بعد أن خذله عدد من الجمهوريين. من خلال متابعتي لبعض مجريات المحاكمة التاريخية لترامب في مجلس الشيوخ، يمكنني القول إن الديموقراطيين تفوقوا على الجمهوريين في المرافعات واستعرضوا قوة عضلاتهم القانونية وظهر بجلاء علو كعبهم في الخبرات القضائية، إذ نجحوا في تقديم قضية متماسكة ضد ترامب مسنودة بأقوى الأدلة من فيديوهات وتصريحات وتغريدات وشهادات، ولو كانت ساحة التقاضي بيد قانونيين محايدين في محكمة مستقلة، لنجح الديموقراطيون في إقناع القضاة بإدانة ترامب. لكن عندما تكون قاعة المحاكمة مجلساً سياسياً، فإن الأمر يختلف، والصوت الذي يطغى يكون صوت الولاء الحزبي، وليس صوت قوة الحجية القانونية. فدفاع ترامب كان ضعيفاً مهلهلاً وركز على حجة عدم دستورية المحاكمة من أساسها وعلى كون تصريحات ترامب التي وُصِفت بالتحريضية على العنف والتمرد هي محمية بالدستور الذي يضمن حرية التعبير. كما أن المرافعات الدفاعية لفريق ترامب تميزت بتفككها واتباعها أسلوب "أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم"، وتجلى ذلك واضحاً في استعراض فيديوهات كثيرة تبرز رموز الساسة الديموقراطيين وهم يتفوهون بعبارة "سنقاتل" أو "سنقاتل بشراسة" في محاولة لإظهار أن الديموقراطيين الذين يحاكمون ترامب يستخدمون العنف اللفظي التحريضي في خطابهم السياسي ربما أكثر من ترامب! لكن الجميع يعرف أن عبارة "سنقاتل بشراسة/We will fight like hell" في سياق الخطابات السياسية لا تعني القتال بالمعنى الحرفي، وإنما تعني سنناضل ونكافح ونقاوم ولن نستسلم لمنافسنا! ولذلك بدت حججهم مفتقرة إلى قوة الإقناع. وأُرجِّحُ أن محللي الخطاب والصحفيين سيقضون الأسابيع والأشهر المقبلة في إخضاع مرافعات فريقي الادعاء والدفاع إلى تشريح دقيق رغم إسدال الستار على أشهر محاكمة رئاسية في التاريخ الأمريكي. قُضي الأمر فعلاً ونُطق بالحكم، لكن أقلام الكتاب والمحللين والمعلقين لن تجف لسنوات وصُحُفُهم لن تُطوى. فهذه المحاكمة فتحت فصلاً جديداً لدارسي القانون الدستوري والعلوم السياسية وتحليل الخطاب، وحتى فنون الاتصال الجماهيري. فأعضاء فريق الادعاء كما فريق الدفاع كانوا يخاطبون الجمهور الأمريكي الذي تابع كافة مجريات المحاكمة على التلفزيونات ووكالات الأنباء العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من جمهور مجلس الشيوخ. رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي توصف بالمرأة الحديدية كانت تعرف مسبقاً نتيجة المحاكمة، وكانت موقِنة بأن غالبية الجمهوريين سيحافظون على ولائهم لترامب رغم أن 7 منهم شذوا عن القاعدة وصوتوا مع الديموقراطيين، لكنها حرصت مع ذلك على إجرائها لتحقيق مآرب سياسية، فهي أتاحت لجهابذة القانون الدستوري وفطاحلة الترافع في حزبها شيطنة ترامب وتصغير شأنه في عيون الناخبين الأمريكيين الذين سيدلون بأصواتهم لمصلحة أحد الحزبين خلال أقل من عامين في انتخابات التجديد النصفي المهمة جداً، كما سيصوتون على رئيسهم الجديد بعد أقل من أربع سنوات حين يكون بايدن قد بلغ من الكبر عتياً (82 سنة). ولذلك فإن هذه المحاكمة كانت حملة انتخابية سابقة لأوانها ضد الجمهوريين، وهي فرصة ذهبية استغلتها بيلوسي بدهاء شديد، رغم معارضة بعض رموز الديموقراطيين الذين تخوفوا من تأثير المحاكمة على بايدن وهو الطامح لإثبات نفسه والوفاء بوعوده في المئة يوم الأولى من ولايته. مأرب ثانٍ حققته بيلوسي، وهو إحراج السيناتورات الجمهوريين وإظهارهم بمظهر الجبناء بسبب تغليب "ولائهم الحزبي الضيق" على ولائهم للوطن، كما تقول بيلوسي، مما قد يؤدي إلى تآكل قواعدهم الانتخابية وتضاؤل شعبيتهم في صفوف الجناح التقدمي في صفوف الناخبين الجمهوريين. أما المأرب الثالث، فهو هذا البعبع الدستوري الذي خلقته بيلوسي للرؤساء الأمريكيين المقبلين، وهو رفع الحصانة عن الرئيس وإمكانية عزله وحرمانه من شغل منصب سياسي وامتيازات لقب "رئيس سابق" حتى بعد مغادرته للسلطة. رُفعت جلسات محاكمة ترامب إذن، حققت فيها نانسي مآربها رغم الإخفاق في إدانة ترامب، وجرَّ عقبها الجمهوريون أضراراً عدة وندوباً جمة ستلاحقهم في السنوات المقبلة، وخرج منها ترامب منتصراً. فالرئيس الظاهرة استجمع أنفاسه وهو يقضي عطلةً في منتجع كامب ديفيد المعروف بكونه متنفساً مفضلاً للرؤساء السابقين وقال تعليقاً على تبرئته إنه سيظل نصيراً لسيادة القانون وإن تبرئته دليل على فشل أكبر حملة اضطهاد يتعرض لها رئيس في التاريخ الأمريكي. لا شك أن هذا التعليق هو بداية لترجمة الوعد الذي قدمه في خطاب الوداع وهم يهم بمغادرة البيت الأبيض "سأعود بطريقة ما". نعم، لا بد أنه سيعود، كيف لا وهو مطمئن لولاء لا يتزحزح ولا يتزعزع من الغالبية العظمى لقاعدة شعبية محافظة غير مسبوقة قوامها 75 مليون شخص. (*) صحفي مغربي مقيم بأبوظبي