تعذّر تقنيّا، في مقال «ما حقيقة الألفباء العربيّ؟»، ظُهور مُعطيات (أسفل عنواني: جدول 1 وجدول 2) تُتيح المُقارنة بين مجموعة من الخطوط (فنيقيّ، آراميّ، نبطيّ، إغريقيّ، لاتينيّ، عربيّ)، ممّا أعاق - إلى حدٍّ ما- إمكان تبيُّن أنّ «الخطّ العربيّ» مُتميِّز عن كل الخطوط القريبة منه. وبما أنّ هُواة الشُّبهات وَجدوها فرصةً للاستمرار في لَوْك ما يُرضي توهُّماتهم، فلا بأس من العودة إلى الموضوع لعلّ من يَهُمّه طلب "الصواب" يجد ما يُساعده على تلمُّس الطريق إليه. وفي هذا السياق يَأتي العُنوان أعلاه: إذَا جاز الحديث عن «الخطّ العربيّ» بصفته هو نفسه «الخطّ الآراميّ»، فإنّه بالأحرى سيَجُوز الحديث عن «الخطّ اللاتينيّ» بصفته هو «الخطّ الفنيقيّ» نفسه من حيث إنّ هذا الأخير ليس سوى نُسخة من الأوّل بشهادة المُؤرّخين والباحثين الغربيِّين أنفسهم! وبالتالي، لا ضَيْر في الحديث عن «خط عربيّ/آراميّ» بالقياس على «خطّ لاتينيّ/فنيقيّ» (في الحقيقة الاستدلال معكوس هُنا: لأنّ قَبُول الحديث عن «خط عربيّ/آراميّ» هو الذي يُقاس عليه فيكون من الأَوْلى الحديث عن «خط لاتينيّ/فنيقيّ»!). وحَسْبُ المرء هذه المُفارَقة العجيبة في بيان تهافُت القول الذي يُصرّ أصحابُه على آراميّة «الخطّ العربيّ»! لكنّ الأمر لن يكون بتلك البساطة بالنِّسبة لمن يَتفانون في تبخيس كل ما هو "عربيّ" للتّمكين لشيء بديل عنه (ومُعادٍ له). وذلك أنّهم يَبْدُون، بالخصوص، غافلين عن أنّ إرادة الانتقاص من أصالةِ «الخط العربيّ» (بردِّه إلى «الخط الآراميّ») لن تَمُرّ دون الانتقاص من أصالةِ «الخط اللاتينيّ» نفسه الذي من الثابت أنّه يَتصلّ ب«الخطّ الفنيقيّ»، بل من دون الانتقاص من كل الخطوط الأُخرى التي كان مَصدرًا لها! إنّ من يقول بآراميّة «الخطّ العربيّ» يَفترض مُسبقا أنّ "الآراميِّين" و"الفنيقيِّين" لا علاقة بينهم لا من الناحية التاريخيّة ولا من الناحية الجغرافيّة. والحالُ أنّ "الآراميِّين" و"الفنيقيِّين" (وكذلك "السُّريانيِّين" و"العبرانيِّين" و"العرب") ينتمون جميعا إلى ما يُعرف تاريخيّا ب«الشعوب الساميّة» التي تساكنتْ ولا تزال بفضاء الشرق الأدنى والأوسط، أيْ أنّ ما يَجمع بينهم من صلات أكثر مِمّا يَتوهّمه "المُبطلون" من فُروق. فهل يَستقيم لدى العاقل أن يُستكثَر على سُكّان «شبه الجزيرة العربيّة» (أيْ "العرب" إذا أخذنا، طبعا، بموقف من يَجعل "الانتماء القوميّ" يتحدّد حصرا بتبعيّته إلى "الأرض"!) أن يَأخذوا من سُكّان شمالها (من "النّبطيِّين" تحديدا) بضعة حُروف لكتابة لُغتهم؟! بل متى كان "النّبَطيّون" أجانب غُرباء بالنِّسبة إلى "العرب" (إذَا صحّ اعتبار هؤلاء هُم فقط من يُمثِّل سُكّان «شبه الجزيرة العربيّة»)؟! بل ما معنى أن يُميَّز بين مجموعات بشريّة يَرجع أصلُ مُعظمها إلى «شبه الجزيرة العربيّة» التي ينبغي أن تُوصف – رُبّما أكثر من «شبه الجزيرة الإسكندنافيّة» كما يقول "أندري مارتيني"- بأنّها «مَصنعٌ لإنتاج الشُّعوب» («officina gentium»)[1]؟ وأكثر من ذلك، فإنّ كون «الخط العربيّ» يَضُمّ ثمانيةً وعشرين (28) حرفا يجعله يَتجاوز «الخط الفنيقيّ» و«الخط الآراميّ» و«الخط النّبَطيّ» التي لا تتعدّى حُروف كل منها الاثنين والعشرين (22). فإذًا، هُناك على الأقل ستّة حُروف يَتميّز بها «الخط العربيّ» عن تلك الخطوط، وهي "ث"، "خ"، "ذ"، "ض"، "ط"، "غ". غير أنّ المُعترض قد يذهب إلى أنّ هذه الحروف إنّما هي تلوينٌ جُزئيّ في حروف أصليّةٍ (ب، ح، د، ص، ع). ولا سبيل إلى البتّ في هذا الإشكال إلّا بالمُقارَنة بين مجموع حروف الخطَّيْن المَعنيَّيْن. ولهذا، يُطرح السؤال: هل كل حرف في «الأبجديّة العربيّة» له نظيره المُساوي في «الأبجديّة الآراميّة»؟ إنّ «الأبجديّة العربيّة» تتكوّن من ثمانية وعشرين حرفا: (ا، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، ه، و، ي). والمُلاحَظ أنّ ("ب"، "ت"، "ث"، "ن") شكلٌ واحدٌ لا يَتميّز منه حرف عن آخَر إلّا بالتّنْقيط، وكذلك ("ج"، "ح"، "خ")، و("د"، "ذ")، و("ر"، "ز")، و("س"، "ش")، و("ص"، "ض")، و("ط"، "ظ")، و("ع"، "غ")، و("ف"، "ق")، أيْ أنّ الأمر يَتعلّق بتسعة أشكال خطيّة أساسيّة (ب، ح، د، ر، س، ص، ط، ع، ف). وعليه، يكون مجموع الحروف الأساسيّة في «الخط العربيّ» إنّما هو ستة عشر شكلا خطيّا: (ا، ب، ح، د، ر، س، ص، ط، ع، ف، ك، ل، م، ه، و، ي). فهل كل هذه الحُروف كان لها، على مستوى الصورة الخطيّة، ما يُقابلها في «الخطّ الآراميّ»؟ إنّ ما يُسمّى «الخط الآراميّ» يتكوّن من اثنين وعشرين حرفا (22): ألف [א]، بيْث، گمل [ג]، دالت [ד]، هيه (ה)، واو [ו]، زين [ז]، حيث [ח]، طيث [ט]، يوذ [י]، كف، لامذ ("ل" مقلوبة)، ميم، نون، سامخ، عين، پيه، صاذيه، قوف، ريش، سين/شين، تاو (والمُؤسف هنا أنّها حُروف يَصعب، تقنيّا، تمثيلُها لأنّها عبارة عن صُوَر مأخوذة من الحروف الأصليّة وليست حروفا مُنمَّطة "رَقْميّا"، لكنّها موجودة في "ويكپيديا"، وهي أقرب إلى «الأبجديّة العبريّة»). وتقود المُقارَنة إلى أنّ الحروف "الآراميّة" التي تُشبه، إلى حدٍّ ما، الحروف "العربيّة" هي: الألف، الجيم، الدال، الزاي، الطاء، الكاف، اللام، السين، العين، القاف، الراء، الشين (12 حرفا). لكنّ هذا التّشابُه يَشتدّ بين الحروف "النّبطيّة" والحروف "العربيّة" إلى حدّ التّقارُب بينها. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ التّميُّز ظاهرٌ بين نمطيْ الكتابة بما يُؤكِّد أنّ ثُبُوت التّأثُّر لا يسمح إطلاقا بالقول إنّ «الخط العربيّ» ليس سوى «الخط النّبطيّ»، ولا بالأحرى أن يُقال إنّ «الخط العربيّ» يُطابق تماما «الخطّ الآراميّ» كما يَدّعي هُواة "التّضليل"! ويزداد هذا الأمر تأكيدا إذَا قُورن بين «الخط الآراميّ» في نمطه «الإمبراطوريّ المُربَّع» كما اعتمدته الكتابة "العِبْريّة". أما إذَا قُورن «الخط العربيّ» بكل الخطوط الأُخرى (كما في الرسمين التاليين)، فإنّ تميُّزه يَصير أوضح وآكد على النحو الذي يجعله خطّا مُتعارَفًا في العالَم كلّه بصفته «الخطّ العربيّ». وهكذا، فإذَا كانت المُقارَنةُ الموضوعيّة تُثبت وُجود التّشابُه بين الأشكال الحرفيّة الأساسيّة في الخطين "العربيّ" و"النّبطي"، فإنّها لا تسمح إطلاقا بالحديث عن التّماثُل أو التّطابق بينها (وليس فقط بفعل التّغيُّر الطارئ واللّاحق، لوُجود شواهد أثريّة أصليّة عن الخَطّيْن كليهما!)، ولا بالأحرى بين الخطين "العربيّ" و"الآراميّ". ومن ثَمّ، فإنّه لا وجه للحديث عن التّطابُق بين «الخط العربيّ» و«الخطّ الآراميّ» إلّا إرادة الانتقاص من أصالة «الخط العربيّ» كيفما اتَّفق، وذلك لإبراز أصالة غيره الذي تُخْفَى (أو تُنْكَر) كل الروابط النَّسَبيّة التي تشدُّه إلى خُطوط "عربيّة" عتيقةٍ يُعَدّ «الخط العربيّ» - بالمُقارَنة معها- خطًّا مُحدَثًا ومُتميِّزا ("مُحدَثا" في إطار سلسلة مُتّصلة من التّطوُّرات المَحليّة، وليس "مُستحدَثا" و"مُنْقطعا" تماما كأنّه يَأتي لسدِّ فراغ)! وفيما وراء ذلك، فإنّ «الخط العربيّ» - كما عُرف بين الناس منذ أربعة عشر قرنا- خطٌّ يتميّز بتنقيطِ مُعظَم حُروفه (ب، ت، ث، ج، خ، ذ، ز، ش، ض، ظ، غ، ف، ق، ن، ي) وبالوصل الخطيّ بينها وبالكتابة من اليمين إلى اليسار، فضلا عن تمثيل ستّةِ أصواتٍ لم تَكُن في الأبجديَّتين "الآراميّة" و"النّبَطيّة" (المُكوَّنة فقط من 22 حرفا). فهل كل هذه الفُروق يُمكن إغفالُها فلا تعود «الأبجديّة العربيّة» إلّا مُماثلةً لسابقتها "الآراميّة" بما يَسمح بالحديث عن «الخط العربيّ» كأنّه «الخط الآراميّ» نفسُه من دون أيّ تبديل؟ إنّ هُواة "التّضليل" لا يكادون يجدون أنفسهم إلّا في ألاعيب "الحُوَاة" (مُلاعبِيْ الحَيّات في الأصل) الذين لا يُعجزهم أن يُخرجوا فيلا من نملة أو قنّينةً من قَلَم! وأمّا من يذهب إلى أنّ "التّنقيط" و"التّشكيل" طارئان على "الخطّ العربيّ" فكأنّه – لعجزه عن تنقُّصه من خلال ما هو أساسيّ – لم يعد أمامه لبُلوغ غرضه إلّا التوجُّه نحو «العلامات الإمازيّة» (diacritical marks/signes diacritiques). ولعَمريّ، إنّه لمَسعًى يُعبِّر عن مدى جهل صاحبه بواقع الخطوط التي لا تكاد تخلو، في مُعظمها، من «علامات إمازيّة» (مثلا، حالة «الخط اللاتينيّ» في كتابة الألسن الأروبيّة: a, à, â, ä, ã, ă, æ, c, ç, ć, ĉ, ċ, č, e, é, è, ë, i, î, ï, ì, í, u, ù, û, ü, ÿ, œ, š, Ÿ, o, ô, ò, ô, ñ,). ولهذا، فإنّ من يُريد أن يجعل هذه الفُروق بمثابة حُروف متميّزة تجده لا يُحصي في «الخط العربيّ» إلّا (بَ، بُ، بِ، بْ، بَّ، بُّ، بِّ، إلخ.) ويَنْسى تماما ما يتعلق ب«الخط اللاتينيّ» (ba, bä, bäe, be, bê, bi, bî, by, bo, beau, bau, bou, etc. )، كأنّ الكتابة العربيّة هي وحدها التي تعمل على تلوين "الصوامت" حينما تَصحبها "الصوائت" فيَقع عليها "النَّبْر"، بل كأنّ كثرة العلامات الخطيّة عائقٌ كبير أمام كتابة لُغةٍ ما (مثال "الصينيّة" واليابانيّة" يُعدّ خير شاهد هنا، لاعتمادهما على آلاف العلامات الخطيّة)! ومن أعجزته كل الحِيَل في انتقاص «الخط العربيّ»، فإنّه يَنتقل من "الصّرف" إلى "المُعجم" فتراه يتحدّث عن مُفردات «اللِّسان العربيّ» باعتبارها مأخوذةً من ألْسُن أخرى (عبريّ، آراميّ، سُريانيّ، يُونانيّ، فارسيّ، إلخ.). وحالُ من يَفعل ذلك كحال من جَهِل أنّ "الفرنسيّة" و"الإسبانيّة" و"الإيطاليّة" و"البُرتغاليّة" تُعَدّ ألسُنا مُتفرِّعةً، بالأساس، عن «اللِّسان اللاتينيّ» فأخذ يَرُدّ ألفاظ بعضها إلى بعض من دون استحضار اللِّسان الأصليّ الذي كان اشتراكُها فيه السبب في سُهولة العُثور على كثير من الألفاظ المُتقاربة صوتيّا وصرفيّا ودلاليّا بينها (مثلا ألفاظ: [«lengua», «lenguaje», «langue», «langage», «linguaggio»] لا تُفسَّر إلّا انطلاقا من اللّفظ اللاتينيّ «lingua»)! تُرى، في غياب أيِّ دليل قَطْعيّ يُثْبت أنّ هذا اللّفظ العربيّ أو ذاك إنّما أُخذ عن لفظ آخر في لسان غير «اللِّسان العربيّ»، كيف يَصحّ أن يُقال بأنّه دخيل؟ هل بمجرد الافتراض استنادًا إلى التّشابُه بينهما؟ وكيف يُعقَل أن تكون "العربيّة" هي الآخذة حصرا عن أخواتها (العبريّة، الآراميّة، السُّريانيّة) أو عن إحدى اللُّغات الأُخرى (الفارسيّة، الهنديّة، اليونانيّة، اللاتينيّة) وفقط لمجرد التّشابُه بين صُور الألفاظ بينها؟ أليس لكل لسان نَسقه الصوتيّ-الصرفيّ وسياقه الدّلاليّ-التّداوُليّ اللّذين يَحكُمان توليد الألفاظ فيه؟ وهل يَستقيم تأويلُ وتعليلُ دلالة ألفاظ «اللِّسان العربيّ» بإرجاعها إلى ألسُن شقيقةٍ أو مُجاورة أمْ أنّ أيّ تأويل أو تعليل وجيه لا بُدّ فيه من أن يُوافق بِنْيات اللِّسان الخاصة؟ (يجهل كثيرون أنّ نسق الوضع في "العربيّة" قائمٌ على التّقْليب بين الأصوات/الحروف لتوليد الألفاظ [مثلا: "بحر/برح"، "حبر/حرب"، "ربح/رحب"]، مِمّا يجعل إمكاناته الأصليّة تَقبل صوغ أيّ لفظ أجنبيّ على أساس أحد الجُذور الممكنة في نَظْمه [نحو اثنين وعشرين ألف جذر!]. وبالتالي يَتعذّر القول، في غياب أدّلة مُوثّقة، بكون هذا اللّفظ أو ذاك دخيلا. وفضلا عمّا ورد في مقال «بأيِّ معنى يُعدّ "القُرآن" مُعجزا؟» [3. الاعتراض اللغويّ]، فإنّه سيأتي - إنْ شاء الله- مقالٌ مُفصّلٌ بهذا الخصوص). إنّ "المُبْطلين"، في حرصهم على تنقُّص كل ما هو "عربيّ"، لا يَعينهم كثيرا الوُقوف عند مُكتسبات «اللِّسانيّات التاريخيّة» وإشكالاتها المُتكاثرة منهجيّا ومعرفيّا، بل يَهمُّهم فقط تلقُّف ما يُلقي به بعض «ديدان الكُتّاب» من الذين يسعون إلى إعادة إنتاج «المَركزيّة الغربيّة» في صورةِ "وَضعانيّةٍ" ذات توُّجه تاريخانيّ أو نِسْبيّانيّ يبدو أنّه لا يَخدُم، في النهاية، إلّا «الشعوبيّة المُحدَثة» العاملة على وَصْم "العرب" بكل نقيصةٍ تمهيدًا لإزاحتهم من طريق التّوسُّع الهيمنيّ المُستجدّ عالميّا. حقًّا، ليس هُناك لسانٌ طبيعيّ ليست فيه ألفاظ دَخيلة (باستثناء اللِّسان الذي يُصنَع بالتّحكُّم والتّشهِّي في المَكاتب الوَثيرة المُغلَقة!). لكنّ مُشكلة المُتقولِّين على «اللسان العربيّ» أنّهم لا يَتصوّرُونه إلّا لسانا لاحقا (ومُلْحقًا) بغيره من الألسُن. ذلك بأنّهم يَنْسون أو يَتناسون أنّه لسانٌ لا يَقلّ في عراقته التاريخيّة عن أيِّ لسان آخر (يُقال، عادةً، إنّه حديث جدّا!). إذْ كما هناك «العرب العارِبة» و«العرب المُستعْرِبة»، فإنّ هناك «العرب البائدة» التي هي أُمم عفَّتْها صُروف الزمان من الوُجود من دون أن تُذهب كل الآثار الشاهدة على ما كان لها من حُضور في التاريخ القديم[2]. ومن بين تلك الآثار خُطوط ورُسوم لا تزال قائمةً في وسط «شبه الجزيرة العربيّة» وفي جنوبها وشمالها، كما يوجد بينها «تُراثٌ لُغويّ» دُوِّن مُعظمُه في صدر الإسلام بصفته يُمثِّل «لُغات العرب». وضمن هذا التُّراث اللُّغويّ، لم يَتردَّدْ جامعو اللغة عن الإشارة - في حُدود ما أتاحته لهم معارفُ زمنهم- إلى كثير من الألفاظ التي ظنُّوها دخيلةً على «لسان العرب»، وهو ما يجد فيه "المُبْطلون" ضالّتهم لأنه يُتيح لهم جعل ذلك اللِّسان مُلْحقا بغيره من الألسن تماما كما يَفعلون بالنسبة إلى «الخط العربيّ» في إلحاقهم له ب«الخط الآراميّ»! ولأنّ الذين يَتّخذوها عِوَجًا يَأبَوَنْ دائما إلّا تخريجَ الأمور وَفْق ما يُرضي أهواءَهم، فإنّ تأكيد أنّ «الخط العربيّ» ينحدر من «الخط الآراميّ» عن طريق «الخط النّبطيّ» ليس شيئا جديدا حتّى يُرى فيه أنه يُعبِّر عن مُراجَعةٍ لموقف "فِكْرَويّ" أو مذهبيّ ما، وإنّما هو مُعطى طالما أثبته الباحثون المُختصون على اختلاف مَشاربهم بين الشرق والغرب. وإذا كان لا بد من توضيح بهذا الصدد، فرُبّما يكون في فقرةٍ يقول فيها كاتب هذه السطور: «ولعلَّ من الْمُفِيدِ، هُنا، التَّذْكيرُ بِأنّ "ٱلخطَّ ٱلعَربيَّ" ما فَتِئَ يَتطوَّرُ عَبْر الزّمنِ، وأَنّهُ مَرَّ - على الأرْجحِ- بِثَلاثِ حَلْقاتٍ حَدَّدتْ تَسلْسُلهُ البعيد من "ٱلْخطِّ ٱلمِصْرِيِّ" بِأنْواعه الْمُخْتلِفةِ إلى "ٱلْخطِّ ٱلفِنيقيِّ" كما ٱنتهى في "ٱلْخط الآراميّ"، ثُمَّ إلى "ٱلْخطِّ ٱلْمُسْنَدِ". وأنَّ هذا الأَخيرَ أَنْواعٌ، أَهمُّها أَرْبعةٌ: الصَّفَوِيُّ والثَّمُودِيُّ واللِّحْيانيُّ والسَّبئيُّ. ومن الْمُسْنَدِ الصَّفويِّ تَفرَّعَ الخطُّ الكِنْدِيُّ والنَّبَطيُّ، ومن النَّبَطيِّ تَحدَّرَ الحِيرِيُّ والأَنْبارِيُّ، ومِنْهُ كان "ٱلخطُّ ٱلحِجازِيُّ" الذي هُو "ٱلنَّسْخِيُّ ٱلعَربيُّ"، الذي يُعَدُّ الكُوفِيُّ تَنْظِيمًا فَنِّيًّا فيهِ.» (وفي نهاية الفقرة ترد إحالةٌ إلى هامش مضمونه: «اُنظر: حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، دار الجيل-بيروت، 1986، ص. 53-55. وٱنظر أيضا: غانم قدوري الحمد، رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية، [بيروت، ط 1، 1402 ه/1982م]، دار عمار-الأردن، 2001 م، الفصل الأول، ص. 17 وما بعدها.»). وهذه الفقرة مأخوذة من فصل بعنوان «ألفباءٌ أَبْتَر»، هو الفصل الثاني من كتاب «ملحمة انتقاض اللِّسان العربيّ: لسانُ العَرب الْقَلِق» (عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2013، ص. 17)! إنّ "الحقيقة" لا تُُزعج إلّا الذين يَتعاطون "التّضليل" إرسالا لعواهن القول والفكر. أمّا من يَطلُب "الصواب" اجتهادا في إقامة الحُجّة، فلا يُضيره في شيء أن يَنتقل من صائب إلى ما هو أصوب منه متى ألزمه الدليل ترجيحا أو تقريبا. ولهذا، فإنّ من كان بين يديه شيء من "الصواب"، فلَا يَجدُر به أنْ يَتردّد في إظهاره للناس مُتحمِّلا المسؤوليّة عنه علميّا وخُلُقيّا فتراه يَكتُب باسمه الشخصيّ (حتى في التعاليق). وإنّ هُواة "التّضليل" لمفضوحٌ أمرُهم إنْ عاجلا أو آجلا، لأنّهم لا يَتحرّكون إلّا بما تُمْليه عليهم أهواؤُهم فلا تجدهم إلّا مُنزعجين مِن كل ما يُخالفها، خصوصا إذَا كان آتيًا ممّن يَرفُض الانصياع لتيّارات الإسفاف والاستخفاف المُستفحلة بين ظَهْرانَيْنا. وكما قال "عبد الرحمان ابن خلدون"، فإنّ : «[...] التقليد عريق في الآدميِّين وسليل، والتّطفُّل على الفنون عريض طويل، ومَرعى الجهل بين الأَنام وَبِيلٌ. والحقّ لا يُقاوَمُ سُلطانُه، والباطلُ يُقذَف بشهاب النّظر شيطانُه. والنّاقل إنّما هو يُمْلي ويَنقُل، والبصيرة تَنقُد الصحيح إذْ تَمْقُل، والعلم يَجْلُو لها صفحات الصواب ويَصقُل.»[3]. _____________ [1] اُنظر: - André Martinet, Des Steppes aux océans: l'indo-européen et les «indo-Européens», éditions Payot et Rivages, Paris, [1986], 1994, p. 25. [2] اُنظر: د. جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط 2، 1413 ه/1993م، ج 1، الفصلان 8 و9 (ص. 294-409)، وأيضا الفصل 13 (ص. 529-572). - Robert G. Hoyland, Arabia and Arabs From the Bronze Age to to the coming of Islam, Routledge, London & New York, 2001. [3] اُنظر: ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد السلام الشدادي، بيت الفنون والعلوم والآداب، الدارالبيضاء، ط 1، 2005، ج 1، ص. 6-7.