ولي النعم وولي النعمة، المعتق، قال ابن منظور رحمه الله تعالى في لسان العرب: "والمولى مولى النعمة وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه“ [لسان العرب 15/540]. ولي النعم كلمة استعملها الباب العالي إبان الحكم العثماني وكذلك اقتبسها آل الخديوي في مصر بحكم تبعيتهم للباب العالي العثماني. على هذا النحو تبدو زيارة ولي النعم المبجل هولاند إلى "سلطنته المغرب" أو كما يحلو لأهل السياسة والكياسة أن يقولوا "بلده الثاني". زيارة ولي النعم المبجل هولاند تجعل الذاكرة تعود بنا إلى هذا القاموس السياسي الذي يظن الكثير من الباحثين في الشأن السياسي أنها مصطلحات كانت رهينة حقبة معينة من التاريخ، غير أن هذه الزيارة جاءت لتقول لنا جميعا ولأهل البحث خصوصا أن الأمر ليس كما تظنون، بل إنه مازال هناك "باب عالٍ"، ومازال هناك "ولي النعم" وأنه لم يتغير من الأمر شيء، إنما هناك التلاعب بالألفاظ والمصطلحات فقط، أما الجوهر فهو هو. و سنحاول إبراز بعض تجليات هذه الزيارة الميمونة من خلال رباعية لعل صورة هذه الزيارة الميمونة تتبين لنا معالمها ومراميها. - ترسيخ الاحتقلال: بهذا الوصف الدقيق وبهذا المصطلح المركب عبر المجاهد الكبير "عبد الكريم الخطابي" رحمه الله عن حقيقة ما أفرزته معاهدة إكس ليبان، "الاحتقلال"؛ أي أن الأمر صوري ليس إلا على الورق، فمازالت التبعية الاقتصادية والسياسية هي سيدة الموقف عندنا، لا زالت فرنسا الأم هي التي ترسم السياسة الاستراتيجية للمغرب، هي الأستاذ وهي الملاذ، لأنها في حقيقة الأمر تعرف حقيقة المغرب وحقيقة وضعية المغرب أكثر من المغاربة. زيارة "ولي النعم المبجل" تأتي في هذا السياق، إذِ المغربُ يحتاج إلى الدعم السياسي والدعم الاقتصادي يحتاج إلى الناصح الأمين، الخبير بالدار وأهل الدار، لا يمكن لرئيس فرنسا أن يتحرك إلا وفق رؤية واضحة يقدمها له خبراء الاستراتيجيا الفرنسيون، فالقوم ليس مثلنا؛ كل حركة وسكنة عندهم لها غاية وهدف، وطبعا دائما تكون الغاية والهدف مصلحة فرنسا، ولا شيء غير فرنسا. جاء ولي النعم المبجل ليطمئن "السلطنة" و"الوطن البار" للأم الحنون، أنه الأم الحريصة على المغرب، جاءت لتبشر الحاكمين أني لن أتخلى عنكم وسأبقى دائما بجانبكم على حساب أي شيء، وما فضيحة فرنسا إبان "الثورة التونسية" - ثورة السابع عشر من فبراير - بغير بعيدة، حين كانت تزود النظام البائد يومئذ بكل أصناف الوسائل حتى يتمكن "زين الهاربين" من إخماد صوت شعبه الذي طالب بالعيش الكريم بعدما أهينت كرامته وسلبت منه إنسانيته. هكذا هي فرنسا، وهذا هو وجهها الحقيقي، ولذلك تجد أن ولي النعم هولاند كان حريصا كل الحرص ألا يخدش حياء النظام، فكان الفرق بين الخطاب المقروء والخطاب الموزع فيما يتعلق بقضية "الانتهاكات الحقوقية" التي تمارسها آلة المخزن، فجاء الخطاب المقروء عاما مُعَوِّما، لأن الأم حريصة على مصالحها ولا تريد أن يؤثر أي شيء على مصالحها في المغرب وما أكثر المصالح والمنافع في أرض الثروات، بقرة حلوب هو المغرب وما أدراكه من بقرة، تبقى فرنسا هي الحضن والمحضن، ولذلك فإن "تكريس الاحتقلال" هي الدلالة الأولى لزيارة هولاند المبجل. 2- من حقنا أن نعرف: وأنا أطالع صحف اليوم 2013/04/06، وجدتني أمام خبر مفاده أن الحكومة عاكفة على مدارسة النقص من أجور الموظفين بنسبة خمس بالمائة والزيادة في ثمن المحروقات، هذا ما تخططه الدولة للمواطن، لأن نغمة الأزمة هي النغمة المتداولة الآن على لسان الدولة، غير أن واقع الزيارة يكذب هذا بل ينسفه نسفا، ولذلك وهذا من تمام حقنا بل من صميمه أن نعرف "من أين أتت كل النفقات التي زينت بها مدينة الدارالبيضاء وخصصت للزيارة؟ ترى لو كانت الآية معكوسة وكانت الزيارة من المغرب في اتجاه فرنسا هل كانت الدولة الفرنسية في ظل الأزمة التي تتخبط فيها ستقوم بنفس ما قامت الدولة به عندنا؟ هل كنا سنرى أرض باريس مغطاة بالزرابي؟" الجواب الطبيعي هو: لا وألف لا، قيامة فرنسا كانت ستقوم ولا تقعد لأن التدبير المالي للدولة واضح شفاف، ولأن رئيس الدولة يعلم جيدا أن المسؤولية قرينة المحاسبة. من حقنا أن نعرف مصدر كل سنتيم ودرهم أنفق في هذه الزيارة، فإما أننا نعيش أزمة وعلينا جميعا أن نتحمل مسؤولية الخروج منها، وأنه ليس هناك من هو فوق القانون، وإما أننا في دولة السادة والعبيد أو النبلاء وطبقة الإكلروس، من حقنا أن نسأل ونسائل حتى وإن كنا نعرف تماما أنه لن نجد لسؤالنا جوابا، لأن طبيعة الدولة عندنا حين يتعلق الأمر بحقوقنا تصبح صماء بكماء. عدم الجواب عن سؤالنا هو في حد ذاته جواب مفاده: من أنتم حتى يعير لكم المخزن بالا؟ بمنطق الرعية الذي أسس له صاحب الأحكام السلطانية رحمه الله "تسوقنا الدولة لكنها لا ترعانا"، لا ترعى شعورنا ومشاعرنا ونحن نرى بذخ وإسراف المخزن، أحزمة الفقر في الدارالبيضاء متعددة متلونة ومال الشعب أولى أن ينفق على الشعب، لكننا رعية وقطيع، وبالعودة إلى تقرير الخمسينية فإنه في السنوات الأخيرة مازال ملايين المغاربة يعيشون تحت عتبة الفقر، حيث يصل الانفاق السنوي لدى هذه الشريحة إلى أقل من 3235 درهما بالوسط الحضري و 2989 درهما بالوسط القروي ! التقرير أضاف أن 25 في المئة من المغاربة يعانون من ضعف اقتصادي كبير؛ إذ يصل الإنفاق السنوي إلى أقل من4500 درهم. كل هذا يجعلنا نؤكد: من حقنا أن نعرف ونعرف. 3 - من المستفيد: نكون حمقى أو أصابنا العته إن كنا نظن أن زيارة هولاند إلى المغرب الغاية منها مصلحة البلد ذاته، ففرنسا كباقي الدول الأوربية عموما والاستعمارية منها خصوصا، المليئة بمراكز الدراسات الاستراتيجية والدراسات المستقبلية؛ كل هذه المؤسسات مهمتها الأولى أن تضع للدولة خارطة طريق واضحة تتمكن من خلالها من الحافظة على تاريخها ورمزيتها ومكانتها الدولية؛ عندما تقول فرنسا فأنت تتحدث عن فلسفة الأنوار وعن منطسكيو وجون جاك روسو وفولطير وهلم جرا من الأسماء التي بها تتباهى فرنسا التي تعتبر أن لها من الفضل على العالم ما ينبغي ألا ينسى أبدا. تعتمد فرنسا ككثير من دول أوربا مبدأ التخطيط الاستراتيجي (strategic planning)، ولذلك فكل خطوة محسوبة بمقدار، إذا فهمنا هذا جيدا سوف نستوعب جيدا أن ولي النعم هولاند ما كان ليُسْمَحَ له أن يأتي إلى المغرب إلاَّ لأنه متأكد تماما أن مصلحة فرنسا هي الأولى والأخيرة من وراء هذه الزيارة. مضمون زيارة هولاند للمغرب ينحصر في ثلاث نقط جوهرية: - الأولى: أن فرنسا تثق في المغرب - الثانية: توسيع الشراكة الاقتصادية - الثالثة: البحث عن الأدمغة المغربية الشابة ماذا تعني هذه الثلاث بالنسبة لنا وبالنسبة للمبجل هولاند؟ ثقة فرنسا في المغرب كلمة في الحقيقة بروتوكولية بالدرجة الأولى، تدرك فرنسا وهي الخبيرة في التعامل مع دول محورها أن كل ما تحلم به هذه الدول والأنظمة الحاكمة فيها هي "شهادة أيزو الفرنسية"، الدولة العريقة الحريصة على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، شهادة تعمل كل جهدها الأنظمة الاستبدادية الدائرة في فلك فرنسا أن تستعملها لتجميل وجهها ليس إلاَّ. ثقة فرنسا في المغرب معناها أنني أنا الحليف الاستراتيجي وأنا الضامن لمصلحتك وأنا الراعي لدولتك، ثقة فرنسا في المغرب هي أنه لا تبديل ولا تغيير في الحليف والصديق فرنسا. وأما توسيع الشراكة فمعناه أن يصبح المغرب وعاءً من الأوعية التي من خلالها تنفس فرنسا من أزمتها الاقتصادية، مشروع القطار السريع، انتقال شركة رورنو والبقية في الطريق. لا معنى لتوسيع الشراكة مع المغرب إلا هذا المعنى، فنحن نملك معدن الحديد ولكن ليس عندنا صناعة ثقيلة، نملك معدن الذهب والفضة والفوسفاط والأورانيوم لكننا لا نملك القرار الاقتصادي لأنه من وهبك شهادة أيزو في الديقراطية هو بالمقابل من سوف يتحكم في مفاصل اقتصادك لأنه في عالم السياسة: المصلحة الاقتصادية هي لب العملية السياسية، خاصة في بلد هو بقرة حلوب بالنسبة لفرنسا. وأما الترحيب بالكفاءات المغربية الشابة فذاك أمر معلوم مفروغ منه، فإن كانت أمريكا تعتمد قرعة البطاقة الخضراء (Green Card)، فإن هولاند جاء ليفعل البطاقة الزقاء (Blue Card) الخاصة بالكفاءات والأدمغة فقط والتي اعتمدتها السوق الأوربية المشتركة، ليس الأمر حرصا على الشباب المغربي وإنما الحقيقة شيء آخر يفزع الغرب عموما؛ فحسب تقرير المفوضية الأوربية (فإن عدد السكان ألذين هم في سن العمل في الاتحاد الأوربي سينخفض مع مطلع العقد القادم إلى نحو 48 مليون نسمة، في حين سيزداد من هم في سن التقاعد بواقع 58 مليون نسمة سنة 2050 وستصبح نسبة المتقاعدين 75 متقاعدا بين كل 100عامل)، هذا هو الكابوس الذي يقلق أمثال هولاند ولذلك فهو يمد يده إلى فرنسا حقيقة لا إلى شباب المغرب، غايته إنقاذ فرنسا وليس إنقاد شباب المغرب. 4 - تحت قبة البرلمان: لا أجد في الحقيقة وصفا يمكن أن أُكني به مظهر البرلمان عندما حل الضيف الفرنسي تحت قبته المشرفة، أَلهذا الحد هو البرلمان عندنا مهموم بمعرفة الأبعاد السياسية لزيارة هولاند؟ أَلهذا الحد البرلمانيون عندنا ممثلو الأمة - وهم طبعا يحسنون فن التمثيل على الأمة - حريصون على استيعاب الأبعاد الجيواستراتيجية لزيارة ولي النعم هولاند؟ ليس لتجمع "ممثلي الأمة" بذلك العدد المثير للدهشة إلا مفهوم واحد: هم آلة للتصفيق والتلميع، لا يجتمع النِّصاب البرلماني عندنا كاملا حول مصلحة الشعب مهما بلغت مصيبة الشعب، لماذا لا يجتمع هذا النصاب؟ لِمَ لا يكون هذا الحرص مثلا ليناقش البرلمان عندنا وينظر في مسألة التعليم؟ لِمَ لا يجتمع ويحرص أن يكون حاضرا عندما تتعلق المسألة بكرامة المواطن وحقوقه، لِمَ لا يكتمل نصابه لينظر في الفساد والكساد الذي وصلت إليه البلاد، لِمَ و لِمَ و لِمَ. الحقيقة الصادمة أن "قبة البرلمان لا علاقة لها بالشعب ولم تؤَسَّس أصلا لتكون ممثلا للشعب". غاية البرلمان أن يكون أثاثا من الأثاث الذي يزين به المخزن عندنا صورته، قبة البرلمان يوم زيارة هولاند كانت حقيقة مقزِّزة تُظْهِر بوضوح كيف للأسف الشديد الجالسون تحتها يؤثلون لزيف الشعارات، لا يدرك الجالسون للتصفيق إلا أن مخاطبهم مدرك تمام الإدراك لحقيقة الصورة ولحقيقة الواقع المغربي. هو حريص على مغازلتهم وهم المساكين تنطلي عليهم لغة فلسفة الأنوار. برلماننا إن كان لنا حقا برلمانٌ وَصْفُهُ نَطَقَ به حكيم أريب، على برلماننا بالضبط ينطبق ما قاله شاعر العراق أحمد مطر: وجوهكم أقنعة بالغة المرونة طلاؤها حصافة وقعرها رعونة صفق لها إبليس مندهشا باعكم فنونه وقال إني راحل ما عاد لي دور هنا دوري أنا أنتم تلعبونه خلاصة الخلاصات هي أننا أمام مشهد سياسي يزداد ترهلا وقبحا؛ ففي الوقت تصبحنا الدولة وتمسينا بموال الأزمة التي لا يتحمل المسؤولية فيها إلا المواطن الضعيف التي ترى فيها الدولة الحل لكل المشاكل، تدق طبول الكوارث فوق رأسه دائما، أما العفاريت والتماسيح فعفا الله عما سلف، نهبوا أو سلبوا، هرَّبوا أو تهرَّبوا، فهم خط أحمر، وخزينة الدولة مهما تحملت من التكاليف نبقى نحن الملاذ نُعْصَرُ عصرا ونكسر كسرا، وصدق شاعرنا الهمام : كل ما في بلدتي يملأ قلبي بالكمد بلدتي غربة روح وجسد غربة من غير حد.