عشية انقضاء كل سنة في سبيلها إلى المضي نهائيا، وبداية انقشاع أولى بواكير الأخرى الجديدة، يشرع الناس في الإفصاح عن تطلعاتهم المتفائلة دائما نحو القادم، آملين بأن كون الغد أفضل من الأمس، ويحمل معاني مختلفة عن السائد، تفسح أمامهم بعضا ثانيا من آفاق التسيُّد على مصائرهم. في الغالب الأعم، يكون وازع الطموحات "تفاؤل حسن النية"، من خلال استشراف أسباب البقاء الوجودي، بكيفية تتقلص معه قياسا للزمان المتلاشي، مجال المكابدة والشقاء لصالح تحقق للحياة أقرب في سيرورته إلى السعادة والرضى. هكذا، يأخذ التطلع منحى عموديا نحو الأفضل أو المغاير تماما. بيد أن المفارقة التي لا يمكن ردم هوتها، إدمان تفاؤل الأفراد عبر جسر الأبعاد اللغوية، نحو الحق في استحضار ممكن آخر غير "زهد" المعطى القائم. في حين، يتجه ضمنيا سعي جهابذة صناع الواقع وجهة مخالفة تماما، انطلاقا من تأكيدهم الفعلي والمباشر على أن القادم لن يكون حتما أفضل من السابق مادام هناك "زمن جميل" ولى للأبد يلزمنا الحفاظ عليه كي نخفف بسكينة الذاكرة ثقل هموم الحاضر وتستعيد الذات بانسيابية تامة توازنها النفسي. لكن، بغض النظر عن حمولة نتاج أنانيات هؤلاء ونزوعاتهم المرضية، التي تتداوى فقط بتدمير كل شيء جميل، وتعميم القبيح، تعتبر الحياة عموما تبعا لكنهها الوجودي، طارئة وحادثة تقوم أساسا على جدليات الحدود، وتشعب بنية التحققات، يستحيل في إطارها الرهان على بعد واحد، بل تتبلور حقيقتها بالتحقق اللانهائي والاختلاف الدائم واللاطمأنينة المتجاوزة لوضعها باستمرار. لذلك من البلاهة الاعتقاد بنعت بعينه. الحياة باعتبارها حياة، حقيقة مترنِّحة دائمة الاهتزاز، لا تعرف قط معنى لبعد بعينه أو هي مطمئنة لقوانين نمطية، ليست محض تفاؤل ولا تشاؤم ولا ترقُّب جاهز ولا إيجاب ولا سلب ولا إقرار ولا رفض ولا تآلف ولا تنافر ولا ضحك ولا بكاء… الحياة مختلف ذلك وفق تبلوره الجدلي المتداخل جدا. بالتالي، من الخطأ السعي إلى فصلها بدقة تبعا لتجلٍّ دون باقي غيره. لا تسير الحياة على هدى خط مستقيم، حسب تصور الرياضيات، متمردة على جل القوانين القائمة سلفا. طبعا، يتحقق هذا الأمر بدرجات متفاوتة بين الفردي والمجتمعي، المحلي والكوني. تلاقت حصيلة الآراء المتداولة، عبر بوابة منصات التواصل المجتمعي، التي تمثل اليوم ضميرا جمعيا، على أن سنة 2020 التي ودعناها قبل أيام قليلة، اتسمت بكونها سنة قاتمة بامتياز، بدا الإنسان إبانها حزينا منهزما تماما ومنكسرا للغاية أمام تجبر الطبيعة، واتسع امتداد لغز الموت أكثر من أيِّ وقت مضى. ولأول مرة حسب متابعتي منذ سنوات طويلة، اتخذت أيضا جل التطلعات والمتمنيات الواردة، منحى ارتداديا إلى الوراء على غير هدى العقود السابقة، بحيث تنشغل الأفئدة والعقول ليلة الكريسماس بهاجس الاستشراف الانطباعي، بمعنى الطموح المابعدي نحو الأفضل. في المقابل، ميز هذه السنة، بشكل واضح عشية أعياد الميلاد، شرود دافئ وحنين أمومي إلى ما قبل كورونا، وليكن على سبيل التمثيل السنة السابقة عنها أي 2019، مع أنها بدورها لم تعف قط الإنسانية من أمراض فتاكة شتى، كابدتها يوميا، يصعب حصرها ضمن سياقات الحروب والتهجير والإبادة والقتل والتدمير والنهب والتشريد والاستغلال واستمرار انهيار منظومة القيم نتيجة الانكماش والتقلص المفزع لمساحة المبادئ والأفكار الكبرى، لصالح اتساع ينابيع ومقومات الضحالة والتفاهة والسطحية والمكر الدؤوب في سبيل اجتثاث ينابيع الحس الإنساني السليم. هكذا، فالفيصل بين سنة 2020 وأخواتها، يظل تلك القطيعة الجذرية، على سبيل التقريب، المتمثلة في سقوط القناع عن الأقنعة، لا يهم الترتيب الأولى بين صيغة الجمع والمفرد، أو الأقنعة عن القناع. بالتأكيد، جرت وقائع السنوات الخوالي، في تراكماتها الفوضوية، على تكريس لعبة التباري المنقطع نَفَسُها، بخصوص الاحتفال بتكريس الأقنعة، مما جعل حياتنا المعاصرة بكل بريقها المخادع، المستند إلى الثالوث المقدس لحراس معبد الذهب: – زيف الوفرة. – إغراء اليسر. – لولبية مدارج الإشباع. – تكريس التنميط ومن ثمة منظومة الفرد ذي البعد الواحد. أقول، شكَّل الوهم بزيفه المتعدد، منظومة مرجعية أولى محايثة لشتى ما يحدث أمام أعيننا. لذلك، بدت الإنسانية هشة جدا، تائهة وعاجزة، منذ أولى أسابيع اندلاع شرارة حرب كورونا وتعرت عوراتنا بيسر لا يصدق، ثم سقطت نهائيا آخر أوراق التوت. إن وُجِدت لدي أمنية شخصية صوب المستقبل، فالرغبة جامحة نحو إعادة بناء السياق المعاصر للحياة باعتبارها لعبة طارئة، وأقرب طريق لمواجهتها تتمثل في التحلي بشجاعة، الشفافية والصدق، دون الاستكانة مرة ثانية إلى أفيون مرايا الأقنعة المهشمة. عندما أسقطت سنة كورونا الأقنعة، فالتطلع يبقى مشروعا نحو "طوباوية"، بكيفية ما، لسنوات مقبلة نتمنى بالعمل والتشمير على السواعد وليس بالتضليل اللغوي، أن نحيا ضمن سياق تراجعت داخله مساحة التقنع لصالح الشفافية، من خلال: – شفافية السياسات الدولية، تضع الإنسان وليس المال في قلب همومها. – شفافية بناء الدولة الوطنية، تضع الإنسان في قلب انشغالاتها. – شفافية علاقة الفرد بذاته، تضع إنسانيته محور تصرفاته. – شفافية علاقة الفرد بالآخر ثم باقي العلاقات الموضوعية.