"نحتاج للرؤية والشجاعة لكي نبدع.. ونحتاج للإيمان والشجاعة لكي نثبت"- أوين يونغ- قد تكون الانتخابات آخر شيء يفكر فيه الناس في بلادي، لا لشيء إلا لأن كورونا بلبل حياتهم وزاد من متاعبهم وآلامهم، فالجميع اكتوى بنار هذا الوباء الذي زرع العطل في جميع مفاصل المجتمع، خاصة بالنسبة للطبقات الاجتماعية المقهورة ذات الدخل المحدود، بل إن تداعيات كورونا أثرت كذلك على القدرة الشرائية للطبقة الوسطى التي ازداد حجم الإكراهات التي تعاني منها، ومن ثمة فإن تفكير الناس أصبح مشوشا وضبابيا، فلا أحد أصبح بإمكانه أن يتوقع طفرة أو تحسنا، وأضحى مطمح العودة إلى عالم ما قبل كورونا أشبه بالحلم المستحيل، وحتى أهل السياسة انشغلوا بتصريف أمور الحياة بكل مناحيها في ظل جائحة لا أحد يعرف متى ستنتهي سطوتها، وفي خضم هذا التردي سكتت جل الأحزاب عن الكلام المباح، فهي لم تستخلص الدروس من الجائحة الكورونية، ولا حزب منها تفضل وأعطانا تقريرا عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن هذه السنة العصيبة ولا قدّم حلولا للمعضلات والمشاكل التي أطلت برأسها، وبعد شهور قليلة سيفتتح "كرنفال" الانتخابات بأنواعها الثلاث: (الجماعية والتشريعية وانتخابات الغرف المهنية)، وإذ ذاك ستكون هذه الأحزاب أمام مفترق الطرق، لأن انتخابات هذه السنة لن تكون مثل سابقاتها، إذ ستكون حاسمة في ظل هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا المعاصر، فإما أن تبحث هذه الأحزاب عن استراتيجية جديدة لها في الحال والمقال والمآل فتتبنى خطابا شفافا وواقعيا، وتقدم برامج مدروسة منبنية على تحليل الوضع الحالي للمجتمع وما طرأ عليه من مستجدات وتأثيرات، سواء أكانت ذات طابع محلي، إقليمي، جهوي أو دولي، وبالتالي تقترح رؤية واضحة تتضمن معطيات ملموسة كفيلة بإصلاح المجالات التي اتضح أنها مسكونة أكثر بداء العطب القديم وهي: التعليم والصحة والتشغيل، وهي التي عرّت كورونا هشاشتها وكشفت حقيقتها المروعة، فأصبح الكل مقتنعا بأن تعليمنا انخفضت معاملات جودته في ظل سياسية "إصلاحية" متخبطة منذ عقود من الزمن، زاد من حدتها تدهور أحوال المدرسة العمومية موازاة مع تغول القطاع الخاص بكل جشعه وسلبياته أيضا. هكذا وبعد أن كان التعليم مرتكزا على مبدأ تكافؤ الفرص أصبح امتيازا لمن يدفع أكثر، أما مسألة الجودة فالله وحده يعلم أنها تهوي في كل سنة إلى قرار سحيق، بسبب مقررات دراسية هجينة لا تسلم من الأخطاء والعلل، إضافة إلى تراجع مستوى أطر التدريس والتكوين معا. ولعل الصورة الكاريكاتورية للمحفظات الثقيلة والأدمغة الفارغة لأبلغ تعبير عما آل إليه تعليمنا من تدهور أطاح بنا إلى الرتب الأخيرة في التصنيف الدولي لجودة التعليم. ولن يختلف اثنان على أن جائحة كورونا زادت من أعطاب هذا التعليم "المريض" ففي الوقت الذي هلّل البعض لما سمي ب"التعليم عن بعد"، كانت النتيجة أن تلامذتنا وطلبتنا لم يزدادوا إلا بعدا عن التعليم… إن مشاكل التعليم وعلله أكبر من أن يلم بها دارس أو متأمل وأصحاب الحال أدرى بالحال والمآل. أما الصحة فحدّث عن أوصابها ولا حرج، فلقد كانت هي الأخرى قبل مجيء "السيد كوفيد" مريضة، وهي الآن في حالة غيبوبة بعد أن ازدادت حالتها حرجا وإحراجا، فكيف للمريض أن يداوي مريضا أو مرضى على الأصح؟ وأصل إلى ثالثة الأثافي وهي مسألة التشغيل، لأشير إلى أن آخر الإحصائيات دلت على أن مستويات البطالة في المغرب ارتفعت بشكل كبير نتيجة تداعيات فيروس كورونا، إذ وصلت إلى 10.5 بالمائة في الربع الأول من 2020، وذلك بسبب انهيار العديد من الشركات، وتعطل عجلة السياحة وكذا التعليق الجزئي لأنشطة مصانع إنتاج وتجميع السيارات، وكذلك توقيف عدد من القطاعات الإنتاجية، ما أدى إلى تراجع الصادرات نتيجة انخفاض وتيرة الطلب العالمي عليها، علما بأن قطاع الزراعة فقد 134 ألف فرصة عمل في الربع الأول من السنة الفارطة. وبحسب المندوبية السامية للتخطيط دائما، فإن عدد العاطلين عن العمل ارتفع بمقدار 208 آلاف فرد في الربع الأول من 2020 على أساس سنوي، وبلغ إجمالي عدد العاطلين عن العمل نهاية مارس الماضي 1.292 مليون فرد. إزاء هذه المعطيات الصادمة لست أدري إن كانت الأحزاب ستتحلى بالشجاعة والجرأة فتعمل على تشريح وتفكيك الواقع الفعلي للبلاد خاصة على مستوى القطاعات الحيوية التي أشرت إليها سابقا. إن فضيلة الصراحة أصبحت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى لأننا دون تشخيص صحيح وواقعي لأزماتنا لا يمكن أن نطمح إلى الإصلاح أو التغيير الذي يعني في آخر المطاف إمكانية تعافي مجتمعنا من هذه الأمراض المزمنة. وها هنا لم يعد مقبولا أن تعود حليمة إلى عادتها القديمة، كأن تعمل الأحزاب على القيام بحملاتها الانتخابية المعهودة وتهتف بشعاراتها المبتذلة على نحو: "لا دجاج لا بيبي… فلان الفلاني هو حبيبي" أو تعمد إلى استعمال المال وقفات المواد الغذائية التي توزع تحت جنح الظلام… وغيرها من الأساليب البالية التي انقضى تاريخ صلاحيتها ولن تصلح من شأن البلاد والعباد في زمن التحديات الكبرى. والحقيقة المثلى هي أننا أمام خيار واحد وأوحد ألا وهو خيار التنمية، فإما أن نعدّ له العدة اللازمة: من الكفاءات المؤهلة والبرامج المدروسة الرصينة والاستراتيجيات العلمية الواقعية، التي يؤطرها الحس السياسي المبدع والوطنية الصادقة، وإلا فإننا سنعود بهذا البلد سنوات إلى الوراء وبالتالي سنخلف موعدنا مع التاريخ، ويكفي أن فيروس كورونا قد دق ناقوس الخطر وأيقظنا من سباتنا العميق. وحبذا لو أن اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أسفرت عن نتائج عملها علها تكون منارة من المنارات التي تضيء لنا عتمة الطريق. إن أخشى ما أخشاه هو ظاهرة العزوف عن السياسة والتي بدأت تستشري خاصة لدى شريحة الشباب، هذا الشباب الذي انفتح على مستجدات وسائل الاتصال الحديثة بات يلزمه خطاب جديد مبني على الصراحة والشفافية والحقيقة بدل ممارسة الضحك على الذقون، كما أن بلقنة المشهد السياسي بهذا العدد من الأحزاب "المعاقة" أضحى واحدا من الإكراهات التي تعوق مسار التنمية ببلادنا، ولطالما ارتفعت الأصوات من هنا وهناك داعية إلى احتواء هذه الأحزاب داخل معسكرين قويين حتى تعود للسياسة مصداقيتها فيكون الصراع والتدافع ذا جدوى يمنحنا حكومة قوية إزاء معارضة قوية، وهو ما سيحقق النفع للبلاد والعباد. وأخيرا أختم بالمقولة الشهيرة للنين والتي يقول فيها: "لنحلم فإن ملكة الحلم حق طبيعي، لكن ينبغي أن نبتعد عن التشاؤم الصعب كما ينبغي أن نبتعد عن التفاؤل السهل".