علَى رصيف مقهَى بشارع محمد الخامس في الرباط، أخذَ رجل أربعيني يُسمَّى جوَاد، يرتشفُ كأساً من عصير البرتقال، إلَى جانب شابٌّ في مقتبل العمر، يدعَى، حميد، يندرُ أن تجدَ لهُ رديفاً في العاصمة، في قضَاء المصالح والحوائج، فإنْ كنت قد تعرضت لحادثة سير؟ أو حصل خلاف بينك وبين شركة التأمين؟ أو لديك دعوى في المحكمة وتودُّ أن يصدرَ القَاضِي حكمًا لصالحك؟ أو أنك تريدُ تخفيف عقوبتك الحبسيَّة؟ حميدٌ هوَ الرجلُ المناسب للاضطلاع بكل تلكَ المهمَّات. كمَا تتحددُ مهمَّة حميد اليوم، بدقة، في المجيء باناس لا وقت لهم كي يقضوه في دواليب الإدارة، إلى جواد، كمن يريد بطاقة التعريف الوطنية، أو بيعَ سيارته في أقرب الآجال. نموذج حميدٌ جدير بالتأمل، فهوَ مثالٌ لمواطن عادِي يستفيدُ من ضبابيَّة وعدم وضوح نظام الإدارة بالمغرب، بحيثُ يرجعُ علاقاته في مجال الإدارة، إلى تردده على تلكَ المرافق غير ما مرة، بصورة جعلتهُ يربطُ علاقات كثيرة بموظفيها، مستطرداً في حديثه عن جشع بعض القضاة "أحدُ القضاة طلبَ منِّي 15.000 درهم لقاءَ تمتيعِ صدِيقِ لِي بالسراح المؤقت، وكلفنِي بإنهاء وثيقة تتعلق بفيلا يشيدها اليوم،وقد اتصلت فعلاً بشركة صغيرة، فوترت الخدمة ب 15.000 درهم، وتمَّ إثرهَا كل شيء كما تمَّ الاتفاقُ عليه. لا مكانَ للفساد في قاموس حميد، الذِي يقولُ إنَّ مثقفينَ بأياد بيضاء، ونظيفة بكل تأكيد. اختلقوا الفساد، لكن بجيوب مملوءة سمحت لهم بأن يكونُوا على استقامة. فلا أحد بوسعهِ أن يكونَ أقْوَى من المنظومة، فإمَّا أن تسير مع اتجاه الموجة وتضحِيَ أكثرَ قوة، أو تقفَ في مواجهتهَا فتحطمك"، بمعنَى أنهُ لا تزالُ هناكَ أيامٌ مزهوة أمام الفساد بالمغرب. الأرقام المتوفرة حولَ الفساد، لا تكذبُ في الواقع ما يقولهُ حيمد، ففي شهر ديسمبر من كل سنة، تعلنُ جمعية "ترانسبرانسِي" الدولية عن مؤشر إدراك الرشوة، الذِي حلَّ فيه المغرب لسنة 2012، في المرتبة 88 من أصل 176 دولةً جرَى تصنيفهَا، وحصلَ على 37/100، بعدمَا كانَ قد حلَّ سنةَ 2011، في المرتبة 80 من أصل 183 دولةً شملهَا التصنيف ضمنَ مؤشر الإدراك، الذِي يقيسُ مدَى استفحال الفساد في مناحِي الاقتصاد والإدارة. وحتَّى وإن لم يكن المؤشر المذكور غيرَ دقيق بمَا فيه الكفَاية، فإنَّ مؤشرا آخر، هوَ المؤشر العاالمي للتنافسيَّة، حددهُ المنتدى الاقتصادي العالمِي، يبوئُ المغرب المرتبةَ ال80 من بينِ 142 دولةً خلالَ 2011-2012، ثمَّ إنَّ الاستطلاعات التِي نشرتها "ترانسبرانسِي إنترناسيونال" حولَ المغرب، غنيةُ بالمعلومات، إذ أوردت ذهابَ 65 بالمائة من المستجوبين إلى أنَّ تحركَ الحكومة على مستوَى محاربة الفساد لا يسمنُ ولا تغنِي من جوع، ففيمَا رأَى 18% من المستجوبين، أنَّ عملَ الحكومة على مستوى محاربة الفساد كان ناجعا، قالَ 17 بالمائة إنهُ كانَ غير ناجع. في غضون ذلك، سارَ 77% من المستجوبينَ إلَى أنَّ الفساد، في الفترة المتراوحة ما بينَ 2007 و2010، لم يزد استفحاله كما لم يتراجع. بينمَا رأى 11 بالمائة أنهُ تراجع، ولاحظَ 13 بالمائة أنهُ قد استفحَلَ. الأرقام المذكورة تظهرُ القدر المأساوي للمغاربة مع ظاهرة الفساد، وارتيابهم من المؤسسات، ويأتِي في مقدمة المؤسسات التي رأى المغاربة أنَّ الفسادَ فيهَا مستفحلٌ إلى درجة كبيرة، الإدارات العموميَّة، والنظام القضائي، ثمَّ الشرطة، باعتبارها جهات مؤسسة للسلطة وعلاقاتها بالمواطنين. ممَا يجعلُ السؤال مطروحاً حولَ ما إذَا كانَ من المتأتِّي تنحيةُ الفسادِ في المغرب. وعمَّا إذا كانتْ هناكَ مجهوداتٌ قد بذلت لأجل محاربته؟ وبشأن العراقيل الماثلة أمامَ العمل على تطويقِ الفساد، يقول عبد السلام أبودرار، عن الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، على سبيل المثال، إنَّ الهيئة التِي يوجدُ على رأسها، تعانِي صعوبات جمَّة، بسبب محدوديَّة الموارد، والميزانيَّة التِي لا تتجاوزُ 15 مليون درهم، علاوةً على حقِّ الولُوجِ إلى المعلومة، الذِي لم تتم أجرأته. في غيابِ أي مؤشر على أخذ الحكومة بعين الاعتيار للتوصيات التِي رفعناهَا". لكنهُ وبالرغم من ذلكَ، حققت الهيئة بعضَ الانتصارات. إذْ جعلَ منهَا دستورُ 2011 جهازاً لمحاربة الفسَاد، غير مقتصرة على الوقاية. فعلى صعيد الإجراءات الملمُوسَة، تملكُ الهيئَة أنْ تضعَ يدهَا على بعض الملفات، بلْ إنهَا تملكُ حتَّى الحق في التحقيق. في انتظار أن يحدد نص قانون، يبينُ مستقبل الهيئة، سبلَ ممارسة الصلاحيات الجديدة الممنوحة لهَا. بحيث تجرِي مناقشة مشروع قانون في الوقت الراهن. لتخويل الهيئة صلاحيات قبل قضائية، فنحن "لا نريد أن نعوضَ القضاء" يقول أبودرار مردفا " وحدهم الأشخاص المؤهلون قانونياً بإمكانهم أن يحكمُوا بعقوبات، فيمَا سيكون بوسعنَا في خضم ذلك، أن نقدمَ أدلة وبراهين". وبخصوص معالجة الحكومة الحالية لملفات الفساد، يرَى مصطَفَى، وهوَ أستاذ يساري، مهووس بالسياسة، أنَّ وزاء بنكيران، تواصلُوا كثيراً حولَ موضوعِ الفساد منذُ تعيين الحكومة في يناير 2012، وأعلنَ عددٌ منهم لوائحَ المستفيدينَ من الريع. حتَّى وإن كانت الحملة التي قادوها لم تأتِ ثمارهَا على الدوام. كما هوَ الشأن بالنسبة إلى حملة إشهارية (وياكم من الرشوة) وجهت إليها انتقادات واسعة. وبما أنَّ محاربة الفساد، كانت من بين أهم مطالب حركة 20 فبراير، اتهمت شخصيات مهمة في المغرب بالفساد عقب حراك الشارع، كالمدير العام السابق للقرض العقاري السياحِي، خالد عليوة، وعبد الحنين بنعلو، المدير العام السابق للمطارات، وتوفيق إبراهيمي، الرئيس المدير العام السابق ل"كوماناف"، بعدمَا وضعَ المجلسُ الأعلَى للحسابات أصبعهُ على اختلالات في تدبيرهم للمؤسسات الثلاث. إلّا أنَّ الكثيرين تساءلُوا عمَّا إذا كانَ المسؤولون الثلاثة قرابين فقط قدموا أمثلة للرأي العام، ومجرد شجرة فقط تخفِي وراءهَا غابةً كثيفة؟ أمَّ أنَّ زمنَ الإفلات من العقاب قدْ ولَّى حقاً؟