على هامش الزيارة الملكية لدول إفريقية إن الزيارة التي يقوم بها الملك محمد السادس لعدد من الدول الإفريقية، والتي انطلقت في الخامس عشر من مارس الحالي، هي بمثابة "اكتشاف" السلطة الحاكمة بالمغرب لقارة جديدة اسمها "إفريقيا"! مع أنها أقدم قارة اكتشفها وعرفها الإنسان، لأنها شكّلت مهده الأول الذي ظهر فيه وولد به قبل أن ينتشر بباقي المعمور، كما هو ثابت علميا. هذه الزيارة إذن، على مستوى دلالتها ورمزيتها، هي اكتشاف حقيقي لإفريقيا لطول قطيعتنا بها، وحجم جهلنا وتجاهلنا ونسياننا لها، بعد أن ولينا وجهنا كلية شطر المشرق العربي، واعتبرنا أنفسنا "عربا" ودولة "عربية". نعم لم يكن يجمعنا مع إفريقيا سوى القطيعة والجهل والنسيان. فهي تكاد تكون غائبة بصفة نهائية من إعلامنا وصحافتنا ومقرراتنا المدرسية، التي لا تتضمن شيئا عن جغرافيتها ولا تاريخها ولا ثقافتها ولا إبداعاتها، كما أن تلفزتنا تخلو نهائيا من أفلامها وغنائها وفنها وإنتاجاتها، كأنها قارة أسطورية توجد بجزر "واق الواق". مع أن التلميذ الألماني والأميركي يتعلمان الكثير عن إفريقيا في المدرسة رغم أنهما لا ينتميان إليها.. العجيب الغريب أن دستور فاتح يوليوز نفسه يكرّس هذه القطيعة مع إفريقيا عندما أدرج هذه الأخيرة ضمن "الروافد" فقط التي تغني الهوية المغربية، كما جاء في تصدير هذا الدستور. فكيف تكون إفريقيا مجرد "رافد" خارجي لهوية المغرب مع أن هذا المغرب جزء من هذه القارة الإفريقية نفسها؟ فاستعمال عبارة "روافد إفريقية" سيكون سليما وملائما لو أن المغرب ينتمي إلى قارة أخرى خارج إفريقيا، التي جاءت منها "روافد" خارجية تغني هوية المغرب غير الإفريقية. ففي فرنسا مثلا، التي لا تنتمي إلى إفريقيا، يصح الحديث عن "روافد إفريقية" لأنها بالفعل روافد خارجية، وليس بالنسبة للمغرب الذي هو جزء من إفريقيا ومنتمٍ إليها. كما أنه لو كان هناك تحديد جغرافي وقُطري لهذه "الروافد الإفريقية"، كوصفها بالسينيغالية أو المالية أو النيجيرية، أو الطانزانية...، لكان الأمر، على مستوى الاستعمال السليم لمفهوم "الروافد"، مقبولا ومعقولا. فما دام أن المغرب جزء من إفريقيا، فإن القول بأن "روافد إفريقية" تغني هوية المغرب، كما جاء في الدستور، يساوي القولَ بأن "روافد مغربية" تغني الهوية المغربية. وهذا خُلْف، ودوران، وكلام متناقض ومتضارب، إذ كيف يمكن تصور عناصر مغربية داخلية كمجرد "روافد" خارجية في نفس الوقت؟ مع أن الدستور السابق، دستور 1992 المعدل في 1996، كان متقدما على الدستور الحالي (دستور 2011) في ما يخص العلاقة الهوياتية بإفريقيا، إذ نجد أن الأول ينص صراحة على ما يلي: «وبصفتها (يعني المملكة المغربية)، دولة إفريقية فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية». واضح أن هذا الدستور يعترف أن المغرب دولة إفريقية، وهو ما يعني أن انتماءه إفريقي، عكس الدستور الجديد الذي يجعل من إفريقيا "رافدا" فقط، أي شيئا أجنبيا وخارجيا. ما معنىإذن أن "نكتشف" قارة ونحن جزء منها، نسكن أرضها ونعيش فوق ترابها؟ إن ذلك يمثل أقصى درجات الاستلاب والاغتراب، تماما كمن يكتشف ذاته مع أنها هي هو وهو هي. ويقابل هذا الانسلاخ/الانفصام عن ذاتنا الإفريقية تماهٍ بالمشرق والعروبة التي تنتمي إلى قارة أخرى تفصلنا عنها آلاف الكيلوميترات. لكن ماذا يعني هذا "الاكتشاف" السعيد لإفريقيا التي ننتمي إليها ونشكل جزءا منها؟ المرغوب والمطلوب هو أن تشكل هذه العودة إلى إفريقيا عودة إلى الأمازيغية الإفريقية وإلى إفريقيا الأمازيغية. ويشكل الترسيم الدستوري للهوية الأمازيغية كهوية للدولة بالمغرب، شرطا لهذه العودة الهوياتية إلى إفريقيا، أي العودة إلى الذات، إلى الوعي السليم والقطع مع الوعي الزائف الذي عشنا به وعليه منذ الاستقلال إلى اليوم. والعودة إلى الحضن الإفريقي يعني كذلك القطع مع التوجه اللاإفريقي، أي التوجه الشرقاني، بكل مضامينه الهوياتية والدينية (الوهابية) والسياسية. فهذا الارتباط بالمشرق هو الذي أفقدنا إفريقيتنا وأمازيغيتنا بشكلين وعلى مستويين: ارتباطنا بالمشرق جعلنا نصبح شعبا "عربيا" مرتبطا بقارة أخرى رغم أننا ننتمي إلى القارة الإفريقية، التي حولتها "عروبتنا" المزعومة والموهومة إلى مجرد "رافد" لهويتنا "العربية". وهو ما يمثل منتهى الاستلاب كما أشرت. ارتباطنا بالمشرق هو الذي خلق لنا "جمهورية عربية صحراوية" فوق أرضنا، كانت سبب "طردنا" من منظمة الوحدة الإفريقية ("الاتحاد الإفريقي" الحالي). في الحقيقة، حتى بغض النظر عن مشكلة الصحراء، فإن منظمة الوحدة الإفريقية سابقا ما كان لها أن تقبل المغرب عضوا فيها، وهو الذي يعتبر نفسه دولة عربية وعضوا بالجامعة العربية. إنها مفارقة لم يكن ليضع حدا لها سوى التشطيب على عضوية المغرب من الجامعة العربية أو من المنظمة الإفريقية. ونفس الشيء يصدق ويقال عن دول الشمال الإفريقي التي هي أعضاء بالجامعة العربية وتنتمي في نفس الوقت إلى منظمة الوحدة الإفريقية. اليوم، كل الظروف الداخلية والخارجية الدوليةمواتية لعودتنا إلى إفريقيا، وعودة إفريقيا إلينا. وتضييع هذه الفرصة المناسبة للتصالح مع الذات، والقارة التي تنتمي إليها هذه الذات، لن يكون فقط فشلا في السياسة الخارجية للدولة، بل سيكون فشلا للسلطة الحاكمة التي لا تعرف كيف تستغل الظروف والفرص للانطلاق نحو الحداثة والتنمية والعقلانية والديموقراتطية، والقطع مع التخلف والاستبداد الشرقي، والتدبير الغيبي التيوقراطي للشأن العام. ستربح هذه السلطة الكثير داخليا وخارجيا عندما تجعل عنوان المغرب هو الهوية الأمازيغية. ولن تخسر من جراء ذلك سوى العوامل المشجعة على التخلف والانغلاق والإرهاب وثقافة الموت والمقابر. فالعودة إلى إفريقيا إذن لن يكون لها معنى إلا إذا تجاوزت العودةَ الجغرافية لتصبح عودة هوياتية تقطع مع الولاء للمشرق والعروبة العرقية. فهل السلطة الحاكمة بالمغرب مستعدة أن تذهب بنتائج "اكتشاف" إفريقيا حتى نهايتها المنطقية؟ هذه النهاية المنطقية هي الإعلان الرسمي والدستوري أن المغرب مملكة أمازيغية بالمفهوم الترابي دائما ،منتمية إلى مجموعة الدول الإفريقية.