خلال تفكيري في الحلقة الثانية من " رحلتي مع الهيب هوب " بحثت كثيرا فيما يمكن أن يسعفني لمقاربة الظاهرة مقاربة تنحو إلى العلمية بأسلوب سهل ممتنع أستطيع أن أتواصل به مع جمهور القراء، و ما قدمته في الحلقة الأولى هو مجرد انطباعات وملاحظات مشهدية استقرأتها من خلال حضوري في مكان و زمان معين ، و أعلم أن مثل هذه الانطبعات هي مقدمات فقط ، ولذلك عندما فكرت الخوض في هذا الموضوع ، لا لكي أكون متعاليا على القراء الأعزاء بل لأكون واحدا منهم أفكر كما يفكرون و أريد كما يريدون هذه من جهة ، ومن جهة ثانية أحببت أن أعطي للموضوع حجمه الحقيقي انطلاقا من مقاربة مرجعية كلية تمكننا جميعا من مقاربة ظواهر الشباب بصفة عامة و ليس فقط ظاهرة " الموسيقى الجديدة". عزمت على تدوين الحلقة الثانية بعد صلاة الجمعة مباشرة ، بالقرب من منزلنا مسجد أحب أن أصلي فيه صلاة الجمعة لا لشيء سوى لقربه ، المؤذن يؤذن لصلاة الجمعة ، اتجهت مباشرة للمسجد ، ابتدأ الخطيب بحمد الله ثم الصلاة و السلام على رسول الله ، بعد المقدمة علمت أن الخطبة موضوعها؛ الغناء و الموسيقى، فهمت أن صاحبنا أراد التفاعل مع سيل المهرجانات الموسيقية ومع برنامج استديو دوزيم ، ثم مع ما يشهده الصيف من أعراس تحضرها العديد من الفرق الموسيقية، لكن المفاجأة ، أنه طيلة دقائق الخطبة و الخطيب يشن هجومه ، على المهرجانات و الإعلام و الغناء و الفن و الموسيقى و اللآت الموسيقية ، ويبين ما يورثه الغناء من النقاق و ما قاله السلف الصالح و الصحابة رضي الله عنه في لهو الحديث، و أنا أستمع أقول يا إلهي ! ما الذي أصاب خطيبنا ؟ هل يعلم أنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ هل يعلم أن وظيفة الخطيب ليست هي وظيفة المفتي ؟ هل يعلم أن الخطاب الفقهي يتمايز عن الخطاب الدعوي ؟ هل يعلم أن الخطيب مقصده هو استمالة الناس و دعوته بالحكمة و الموعظة الحسنة ؟ هل يعلم أن الحضور متنوع و مختلف ؟ فلماذا وقف صاحبنا في الناس خطيبا وكأنه يقرأ من كتاب لا علاقة له بواقع المغرب و المغاربة ؟ ألا يعلم الخطيب أن نجاح خطبته رهينة بأن يذكر الناس برفق لا أن يهجم عليهم ؟ حديثه بهذه الطريقة التحريمية ذات البعد الواحد التي لا ترى في عالم الناس سوى العبوس و القمطرير، جعل الانزعاج ينقض على تفكيري بعد انتهاء خطبته ، و بدأت أتساءل : هؤلاء الذين حضروا خطبة الجمعة و سمعوا أن الغناء حرام و محرم ، سيتجهون إلى بيوتهم و سيجلسون مع أبنائهم فقلت: كيف سيتصرف الأب مع ابنته التي ستشاهد أغاني القنوات الفضائية ؟ ماذا سيصنع مع زوجته التي تعشق الأفلام المرفوقة بالغناء والموسيقى ؟ كيف سيتصرف مع ابنه العاشق لاستديو دوزيم ؟ هذا الأب الذي سمع خطابا مقدسا لا رجعة فيه ، أن الغناء والموسيقى و الآلات الموسيقية حرام . كيف سيتصرف الشاب المقبل على مباهج الحياة مع نفسه و أمه و أخت و أبيه . هل هذا الخطيب يعلم أنه قد يتسبب في نزاع عائلي بعد انتهائه من صلاة الجمعة ؟ هل ينظر الخطيب إلى مآلات خطبته التي قد تتسبب في أن يعق الشاب أباه وأمه بأن يقول لهما قولا غير كريم و أن لا يخفض جناحه أمامهما ، ويفعل ذلك تحت ذريعة انتهاكهما لمحرم من المحرمات ؟ لماذا هذا الخطيب زج بنفسه في خلاف فقهي بين الفقهاء عمر طويلا ، وسيبقى الخلاف فيه إلى ما شاء الله سبحانه ؟ هل يظن أنه بخطبته تلك قد حسم الخلاف وانتهى ؟ ألا يعلم هذا الخطيب أن هناك من يتغذى بمثل هذه الخطابات ليشن هجومته الرعناء ويوظفها سياسيا لصالحه ، ويعطي صورة للمسلم المغربي أنه كاره للفن و الجمال ولكل مباهج الحياة ؟ وبعد هذه الأسئلة الموجعة لابد أن أشير إلى ما يلي : - هدفي من الحديث عن هذا الخطيب ومن لف لفه ليس هو الهجوم على " الخطاب الديني " كما سيعتقد البعض، وإنما كل هدفي هو أن ينتبه الخطباء جيدا لما يتلفظون به في خطبهم و خصوصا في مثل هذه المواضيع الحساسة ذات الخلاف الشديد فقهيا و سياسيا ، ويبدو لي أنه من الأفضل أن يبتعد الخطباء عن مثل هذه الخلافيات ليكون المسجد جامعا للناس جميعا لا مفرقا . - كما أني لا أدافع عن المهرجانات الساقطة و الأغاني الفاحشة، أنا أدافع عن المهرجانات والأغاني التي تسهم في ترقية الذوق و تربية الشباب على الجمال و الحرية، و ليس بالضرورة أن تكون هذه المهرجانات و الأغاني تتغنى بالبطولات و الأمجاد و الدين ، نحتاج لأغاني تتغنى بالحب و الجمال و الفقر و القهر و القمع . إن قضية الغناء والموسيقى وآلاتها ، تتجاوز النظرة التسطيحية المختزلة في الحلال و الحرام ، هذه النظرة التي لا تسعفنا في بناء منهج معرفي يسهم في بلورة نظرية كلية شمولية تنبثق من المقاصد الكلية للدين و تحتضن جزئيات و أفراد المسائل ، و ما كان على هكذا بناء فالاختلاف فيه محال ، وبهذا نكون قد شكلنا منهجا معرفيا حضاريا في الفن و الجمال يستند إلى المرجعية الإسلامية الإنسانية، و يبين الباحث أسامة قفاش مميزات المنهج المعرفي لهذه النظرية أنه يتميز بالحياتية حيث يصبح العمل الفني في حياتنا له دور في أنسنة سلوكنا اليومي ، و بالتركيبية حيث يكون المنتوج الفني ليس بسيطا بل يدعوك إلى التأمل و التفكر و التحليل و يجعلك تعيش روعة التركيب ، و بالعبادية نسبة للعبادة حيث الفنان يمجد الجلال و يسبح بالجمال ، و ذلك عن طريق الانتقال من الجميل إلى الجليل و هدفه هو الوصول و التوسل للخالق سبحانه. فوجدت نفسي أيها القراء الأعزاء بعد انتهائي من الكتابة أني كتبت الحلقة الثانية . [email protected] www.maktoobblog.com/father_father